بينما ينطق الحق بعدم مساواة الجانى والضحية، وأن يكون القصاص العادل هو أساس الحياة، تطبيقا لقوله تعالى (ولكم فى القصاص حيوه يأولى الألبب لعلكم تتقون) {179} البقرة، يخرج علينا نشطاء «سياسيون ومسئولون فى الخارج بمواقف وتصريحات أقل ما توصف أنها لا تراعى حرمة المجتمع ولا حقه فى أن يقتص من الجناة عبرة لهم ولغيرهم، وزجرا لمن تسول له نفسه أن يعيث فسادا وتخريبا فى البلاد. فما أن نطقت محكمة جنايات مصر الجديدة بقرار إحالة أوراق عدد من المتهمين إلى فضيلة المفتى لاستطلاع رأيه الشرعى لغرض الاستئناس به عند النطق بالحكم النهائى، قامت الدنيا ولم تقعد. الكل يدين والكل يبيح لنفسه أن يشجب وأن يضغط وأن يهدد مصر بعنف وخراب وفوضى ما بعدها فوضى. ولم يعد غريبا أن يسلك بعض إعلاميين عرب، ربما بدافع من تيار فى حكومة بلدهم لا يريد لمصر أن تنهض من عثرتها التى سببتها جماعة إرهابية مشهود لها بحب الدم والخراب، سلوكا خبيثا، ظاهره إبداء نوع من النصيحة بأن يتدخل كبيرهم فى شأن مصرى خالص، وجوهرها هو إفساد الحالة المصرية الآخذة فى القوة والتماسك رغم جنون الجماعة وأنصارها فى الداخل، وخبل حُماتها فى أنقرة والدوحة وعواصم أخرى. لقد اعتدنا منذ الإطاحة بحكم الإخوان أن يخرج قادة فى بلدان مجاورة بمواقف مجنونة وغريبة وسخيفة ويدعون لأنفسهم حق التدخل فى الشأن المصرى وكأنهم وصاة على مصر وشعبها وحكومتها ومؤسساتها، ويعلنون قيامهم بحملة دولية لتأديب مصر تارة وحملة إقليمية لإجبار قضائها على أن يفرج عن مجموعة من المجرمين والمدانين بأحكام أولية أو نهائية تارة أخرى، بدعوى أن قضاء مصر مُسيس وأن النظام فى مصر يسعى إلى تصفية خصومه، وأن إعدام رموز الجماعة المتورطين فعلا وقولا فى إرهاب دامغ سيجلب على مصر الويل والمعاناة والخراب، وأن من باب أولى أن تتوقف مصر عن محاكمة الجماعة وقادتها وأن تتركهم لحالهم، بل وتفتح لهم أبواب العودة إلى السياسة وكأن جرائمهم فى حق الشعب المصرى بكامله تستحق المكافأة والتهنئة وليس العقاب الصارم. نفهم وندرك تماما أن بعض الخارج قد اقترب من الخبل والجنون وضياع العقل بعد أن أطاح المصريون بحكم الإخوان، وندرك أيضا أن جذوة الشر لدى هؤلاء ضد مصر مستعرة وتزداد شرا، وأن خططهم فى إشعال مصر وإسقاط نظامها وإغراقها فى الفوضى لن تتوقف قريبا، وأنهم يعملون ليل نهار للضغط على الرئيس السيسى ومن ورائه مصر كلها لكى يقبل بشروطهم وأن يقدم التنازلات تلو التنازلات من أجل التغاضى عن جرائم الإخوان. وما لا يدركه هؤلاء المخبولون أن الغالبية الساحقة من المصريين ترفض هذه الضغوط ولا تقبل تحت أى ذريعة بالتنازل عن حق مصر فى القصاص من القتلة والمخربين ومُدّعى الدين والمتورطين فى كل أشكال الخيانة. كما لا يدركون أن غالبية المصريين الساحقة ترى فى أحكام السجن المشدد وأحكام الإعدام بحق من ثبت عليه جرم القتل بحق المصريين أو التحريض عليهم أو خيانة الوطن أو نشر الفساد والفوضى، هى أحكام عادلة تتفق مع الشرع الإسلامى الحنيف ومع القانون ومع حق المجتمع ككل، ومع حق المواطنين المصريين فى القصاص، وهم الذين فقدوا ذويهم بدون ذنب سوى أنهم يعملون لمصلحة الوطن ويلتزمون القانون. ومن ينظر إلى الهوجة التى ثارت ليومين أو ثلاثة بعد قرار محكمة الجنايات لمصر الجديدة بحق مرسى وإخوانه فى قضيتى التخابر والهروب من السجون، سوف يجد النفاق مُجسدا على نحو يثير الغثيان. فهناك من يدعى القلق ويعلن الرفض، وهناك من يدعو إلى التدخل فى أحكام القضاء، ومنهم من يطالب بعقاب مصر وشعبها، ومنهم أيضا من يتطاول على قضاء مصر وقضاتها ويراهم مجرد أداة فى يد نظام قمعى. ولا يأخذ أى من هؤلاء فى اعتباره أن الرأى العام المصرى يتقبل هذه الأحكام كامتداد للثقة فى القضاء المصرى وفى عدالة المحاكمات وفى التزامها بالمعايير العالمية. ويتقبلها أيضا لأنه يراها عقابا مشروعا لجرم مشهود. والمثير للغثيان أن هؤلاء المتباكين على حقوق الإنسان فى مصر حسب مزاعمهم لا يشعرون بأى عاطفة طبيعية تجاه حقوق ومشاعر الضحايا من رجال الشرطة والجيش ورجال القضاء الشامخين وأبرياء المواطنين الذين سقطوا نتيجة عنف الإخوان وأنصارهم من الجماعات الإرهابية. وفى هذا الموقف تناقض عجيب، فيه انتصار للجريمة على حساب الضحية، وفيه دعم ومساندة للإرهاب والفوضى على حساب العدل والاستقرار. وإذا كنا نجد مثل هذه المواقف المتناقضة والعبثية أمرا منتظرا من دول وقادة تسعى لخراب مصر وموت شعبها، فمن المحزن أن نجد سياسيا أو حزبيا مصريا أو إعلاميا ينتفض ضد أحكام القضاء ويصورها كأنها مجرد قرارات حكومية تعكس الإصرار على إسالة الدماء. ويتباكى هؤلاء على الاستقرار المفقود وعلى الثورة التى أجهضت، وعلى غياب التوافق الوطنى الذى لا يستطيعون هم أنفسهم أن يقيموه ولو على مستوى محدود جدا لا يزيد على عدة أحزاب وقليل من الناشطين. حين يتباكى أحدهم على القصاص العادل بحق عدد من المتورطين فى جرائم كبرى، علينا إذا أن نضع أيدينا على صدورنا وأن نتحسس رءوسنا، وأن نشعر بقلق عميق على مصير البلاد، فأى ساسة هؤلاء الذين يتعاطفون مع الإرهاب والإرهابيين، وأى ساسة هؤلاء الذين لا ينتصرون للحق، وأى ساسة هؤلاء الذين يعترضون لمجرد الاعتراض، وأى ساسة هؤلاء الذين يدعوننا للتغاضى عن حقوقنا ويدعوننا إلى التصالح مع الإرهاب والإرهابيين، وأن نكافئهم بدلا من مواجهتهم. وحين يقول أحدهم إن الإعدام ليس حلا، فعلينا أن نسأله هل الإرهاب هو الحل؟ ونسأله أيضا هل الخضوع للإرهابيين هو الحل؟ وإذا ما قبلنا بمثل هذا المنطق الذى يلغى تماما مبدأ العدل ومبدأ القصاص ومبدأ العقاب لمن يستحق، فهل ننتظر بعد ذلك أن تكون هناك دولة فاعلة ومؤسسات تخضع إلى القانون والدستور. الذين يقولون الإعدام ليس حلا، فى حالة جرائم الإخوان وأنصارهم الموثقة صوتا وصورة، يدعمون الإرهاب ويحبطون الشعب وينفصلون عن حقوق الضحايا. وتلك بدورها وصفة مدمرة لحاضر البلاد ومستقبلها معا. نفهم وندرك أن المعارضة جزء أصيل من أى نظام ديمقراطى، ومن حقها أن تناهض سياسات الحكم وأن تطرح بدائل لها، وأن تسعى للحكم بآليات قانونية ودستورية. ولكن ما لا نفهمه هو أن تكون المعارضة من أجل الظهور السياسى، أو من أجل «ضرب كرسى فى الكلوب» حسب المثل الشعبى، أو أجل هدم العدالة والتشكيك فيها وإثارة الإحباط لدى المجتمع. ففى هذه الحالة لا تكون معارضة شريفة وفقا للآليات الديمقراطية نفسها. لقد أقر الخالق سبحانه وتعالى القصاص فى كل الشرائع ووضع له ضوابطه وحدد مراميه ومقاصده الخالدة وهى أن فى القصاص حياة لأولى الألباب لعلهم يتقون. فالردع والزجر المتضمن فى عقوبة الإعدام لمن قتل نفسا بغير حق، وتأكيد معنى المساواة بين كل البشر مهما كانت الخلافات الشكلية أو العقائدية بينهم، هو أساس الحياة لباقى أفراد المجتمع والإنسانية كلها. والإعدام هنا وسيلة لحماية الحقوق وحماية النفس البشرية فى آن واحد. وحين يُقر قضاة عدول قرارا بإعدام أحد نتيجة ثبوت قيامه بجرم عظيم أو فساد كبير، فلا يستطيع كائن من كان أن يدعى معرفة سرائرهم، أو أن لديهم دوافع دنيوية لإرضاء صاحب جاه أو سلطان. كما لن ينصرهم أحد أمام الله تعالى يوم الحساب الأكبر إن تعمدوا إعدام من لا يستحق. فكيف إذا أن نتقبل ما يقوله الناشطون باعتباره الحق وأن ما فعله القضاة هو الباطل. وكما هو معروف للكافة أن النظام القضائى فى مصر متعدد الدرجات، وأن فيه أكثر من مرحلة تتيح للمتهمين أو الُمدانين فى أول درجة أن يُثبتوا بطلان الحكم الأولى فى درجة أعلى، وإن فشلوا وكانت أدلة الإدانة أقوى وأثبت يقينا، فما على أحد سوى أن يقبل الحكم القضائى باعتباره عنوان الحقيقة. وفى كل الأحوال ليس لنا سوى أن نتأكد من أن المحاكمة أتاحت كافة الحقوق للمتهمين أن يدافعوا عن أنفسهم، وأتاحت لهم كل الإمكانيات المقررة قانونا. وما عدا ذلك فهو ملك للقاضى وضميره. ربما يرى بعض السياسيين أن محاورة الجماعات الإرهابية هو الطريق الأيسر وصولا إلى تهدئة مصطنعة وفورية. وربما يتجاهل هؤلاء خبرات دول وحالات أخرى فتحت الأبواب أمام الإرهابيين ليكونوا جزءا من حياة سياسية عادية وطبيعية، ولكن اكتشف الجميع بعد فترة أن لا أمان للإرهابيين ولا أمان لم يتصور أنه وحده الذى يحتكر الحقيقة والإيمان، وأن الباقين ليسوا سوى خارجين عن الملة يجوز التلاعب بهم وخداعهم وحتى قتلهم، ولننظر لما يحدث على يد داعش والقاعدة فى أكثر من بلد عربى. ونحن فى مصر عشنا هذه التجربة وما زلنا ندفع ثمن مواقف مندفعة وغير عقلانية لقوى سياسية تصورت أنها تضع أيديها مع فصيل وطنى، ولم تمر سوى أشهر معدودة وظهرت الحقيقة المرة، فالإرهاب لا يؤمن بحق الآخر فى الوجود، بل يسعى دوما لتدميره وإقصائه والسيطرة عليه وحجب حقوقه بما فى ذلك حقه فى الحياة. فهل يمكن أن نثق فى هؤلاء ثانية؟ بالقطع لا، وليأخذ القانون مجراه وليُطبق الشرع فى القصاص.