من أبرز ما قيل فى الأسبوع الماضى أن «مصر هى أهم شريك استراتيجى لروسيا فى الشرق الأوسط»، وجاء الرد سريعا..» روسيا صديق وفىّ ووقفت مع مصر بعد 30 يونيو والمصريون يحبون الرئيس بوتين ويتطلعون لزيارته». الجملة الأولى منسوبة لنائب رئيس الوزراء الروسى أركادى دفور كوفيتش، قالها أثناء لقائه مع الرئيس عبد الفتاح السيسى والذى رد بالجملة الثانية. مثل هذا الحوار لا يحدث إلا بين طرفين يجمع بينهما التفاهم والتقارب الشديد فى تقييم المواقف والقضايا الدولية المختلفة، ولا يحدث أيضا إلا بين طرفين يسعيان إلى تحقيق أكبر مصلحة متبادلة بينهما، إدراكا بأن المصالح المشتركة تعزز التفاعلات الإيجابية وتمنحها المزيد من القوة والثبات والاستمرارية. وكما ظهر من محادثات نائب رئيس الوزراء الروسى مع المسئولين فى مصر فإن هناك مساحة واسعة جدا من المصالح موجودة منذ أكثر من خمسة عقود، تتمثل فى عدد كبير من المشروعات التنموية العملاقة، وأبرزها السد العالى ومصانع الحديد والصلب ومصانع كيما بأسوان ومجمع الألومنيوم بنجع حمادى، وكثير من الصروح الصناعية التى جار عليها الزمن لأسباب سياسية وأخرى اقتصادية. الكثير من هذه المصانع تعد بمثابة ملاحم مصرية أصيلة تمازجت فيها إرادة التحدى للضغوط الخارجية التى كانت تمارسها الدول الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة، وطموح مصرى جارف لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والتطلع إلى بناء مجتمع صناعى عصرى حديث. وكثير أيضا من هذه الصروح الصناعية تعد لدى المصريين رموزا للثقة بالنفس والقدرة على الإنجاز رغم الضغوط والمعوقات والصعوبات. ولعل ذلك يفسر رغبة المصريين بأن تؤدى التطورات الإيجابية الهائلة فى العلاقات المصرية الروسية فى اللحظة الجارية إلى إعادة بث الروح من جديد فى الكثير من هذه الصروح الصناعية وتحديثها بما يلائم التطور التكنولوجى الحادث فى العالم. وهى رغبة لها ما يبررها، خاصة وأن روسيا لديها تجربة رائدة فى تطوير مصانعها التى أنشئت فى الحقبة السوفيتية، وأصبحت الآن مصانع حديثة فى معداتها وآلاتها وتقنيات تشغيلها وإدارتها. إن تحديث ما سبق إنشاؤه ليس غاية المراد فى علاقات مصر الروسية، فهناك الكثير من المجالات الاقتصادية والاستثمارية فى مصر والتى يمكنها أن توفر فرصا هائلة أمام الاستثمار الروسى، ويأتى فى المقدمة مشروع قناة السويس الجديدة، ومصادر الطاقة المتجددة ومشروع المحطة النووية بالضبعة وتطوير منظومة استيراد وتخزين الحبوب. وهو ما يصب فى تعميق علاقات البلدين وتعزيز المصالح المشتركة التى تؤدى إلى المزيد من التفاهم السياسى والعمل بهمة فى حل وتسوية الكثير من الأزمات والقضايا الإقليمية. qqq التطلع المصرى لتحديث المصانع من أجل التنمية وبعث الصناعة المصرية الثقيلة يأتى مصحوبا بتطلع آخر لتعزيز العلاقات السياسية والاستراتيجية والأمنية بين البلدين، وهو تطلع مشروع من أكثر من زاوية، لعل أهمها على الإطلاق أن البلدين لديهما رؤية تكاد تكون متطابقة تجاه العديد من القضايا العالمية والشرق أوسطية، وفى عمقها موقف موحد ضد الجماعات الإرهابية ورفض وإدانة شديدة لكل أفعالها سواء فى سوريا أو العراق أو اليمن أو هنا فى مصر، وهى الجماعات التى تستهدف إسقاط النظم القائمة، وإبدالها بنظم عنيفة لا تقدر قيمة الإنسان وترفع شعارات خبيثة تستقطب الشباب فى ريعانهم من أجل تحويلهم إلى إرهابيين يثيرون الفزع والرعب فى نفوس الآمنين. وللبلدين أيضا فى ظل قيادتيهما الحاليتين رؤية مشتركة تجاه القضية الفلسطينية تقوم على احترام الهوية الفلسطينية وحقوقها القومية المشروعة وضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلى وفق جدول زمنى بأسرع ما يمكن وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة. وتحتل الأزمة السورية موقعا مهما فى رؤية كل من القاهرة وموسكو، وقوامها ضرورة الحل السلمى التفاوضى بين الأطراف الأساسيين، بما فى ذلك النظام الحاكم وكل أطياف المعارضة السورية، مع الرفض التام لأى صيغة من صيغ الحل العسكرى أو تقسيم البلاد، وأنه لكى ينجح أى حل سلمى لابد أن تكون هناك مظلة حماية من الدول الإقليمية والقوى الكبرى، خاصة الولاياتالمتحدة وإيران وتركيا، إضافة إلى القوى العربية الرئيسية كالمملكة السعودية ودولة الكويت ودولة الإمارات. وربما يكون هناك تفاوت نسبى بين البلدين فى مسألة موقع الرئيس الأسد شخصيا ومجموعة من كبار مساعديه فى أى حل سياسي مقبل، لكنه لا يمنع إطلاقا البناء على ما هو مشترك والبحث المستفيض فى أية أمور وجوانب أخرى وصولا إلى حل سلمى قابل للتطبيق يحفظ سوريا ويحمى شعبها ويوقف كل مد إرهابى فيها. ومن أهم ما يجمع البلدين أيضا هو موقفهما الواضح والصريح من النظام العالمى المرغوب، وهو أن يكون تعدديا لا تهيمن فيه قوة بعينها على مسارات السياسة الدولية، كما يرفضان أى دعوة للتدخل الخارجى فى شئون الدول الداخلية، كما يؤكدان على أهمية العمل الدولى تحت مظلة رعاية الأممالمتحدة ووكالاتها المتخصصة، واحترام ميثاق الأممالمتحدة والقوانين الدولية. لقد أثبت الروس فى ظل قيادة بوتين، أن الشعوب الحية والمليئة بالكفاءات يمكنها أن تواجه أعتى الضغوط، لاسيما وأن تاريخ روسيا قبل وبعد سقوط النظام الشيوعى 1989 ملىء بالخبرات التاريخية العميقة والتى تؤهل المجتمع إلى توسيع الخيارات والتحرك فى كل الاتجاهات. والحقيقة أن مصر الآن والتى تتمتع بعمق تاريخى وحضارى كبيرين، تسعى إلى استعادة ريادتها الإقليمية وفى الآن نفسه تعمل على حل مشكلاتها الداخلية وفقا للقانون والدستور، وبناء نموذج حضارى فى الحكم يستند إلى أسس ديمقراطية يؤمن بها الشعب قبل النخبة، وهى فى هذا السعى تتبع البديهية الشهيرة أن وضع البيض فى سلة واحدة هو خطر داهم، وأن الأفضل هو توزيع هذا البيض على أكثر من سلة. ومعنى ذلك أن الحصافة مصحوبة بإدراك واع بتوجهات التحولات الدولية المحتملة فى غضون عقدين أو ثلاثة على الأكثر، تقتضى أن تقوم الدول بتنويع خياراتها السياسية والاستراتيجية وبما يسمح لها بفتح الكثير من النوافذ وتشكيل جماعات الأصدقاء والداعمين، الذين يمكن التعويل عليهم فى الشدة والرخاء على السواء. وليس هناك شك فى أن سياسة مصر الخارجية تمارس هذه النوعية من التحركات الخارجية شرقا وغربا وفى كل الاتجاهات، وحيثما تكون هناك فرصة أو موقع جديد لبناء مصالح أو تعزيزها، فإن مصر على استعداد للحركة الفعالة والانفتاح المحسوب وصنع الشراكات الاستراتيجية. وتجسد هذه التحركات فى كافة الاتجاهات إدراكا واعيا بأن النظام الدولى فى حالة مخاض، وأن هناك معادلات قوة جديدة قيد التشكل وستظهر أثارها بعد عقد أو عقدين، وأن تعزيز الشراكات الاستراتيجية يتيح أكبر مساحة ممكنة لكسب الأصدقاء من جانب، واحتواء الأعداء أو المنافسين من جانب آخر. qqq لقد تبين من حركة مصر الخارجية أثناء الأشهر الستة الماضية أنها تسعى إلى تحقيق أمرين متكاملين؛ أولهما توسيع الخيارات أمام صانع القرار المصرى، وثانيهما تنشيط العلاقات التاريخية مع عدد كبير من الدول. وهو ما عكسته زيارات الرئيس السيسى إلى كل من الولاياتالمتحدة فى سبتمبر الماضى، إبان انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولكل من فرنسا وإيطاليا فى شهر نوفمبر الماضى، ولقاء الرئيس بوتين أثناء زيارة قصيرة لموسكو فى أغسطس المنصرم، ولكل من الجزائر والسعودية والسودان وإثيوبيا، وهى الزيارات التى جسدت استعداد العالم، شرقا وغربا للوقوف وراء مصر فى حربها ضد الإرهاب، واستعادة مكانتها التقليدية إقليميا وعالميا. qqq هذه التحركات المصرية فى أكثر من اتجاه استراتيجى هى خير تعبير عن حيوية القوة الناعمة لمصر، وعن تأثيرها الكبير والمهم فى الحضارة العالمية ككل، وقدرتها على التكيف الإيجابى مع كل الظواهر والحقائق الدولية المختلفة. وفى ظل هذه التحركات والمعانى تأتى زيارة الرئيس السيسى الرسمية للصين، والتى ستعد نقطة فاصلة بين مرحلتين مهمتين فى العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين. سيذهب السيسى كرئيس صاحب شعبية كبيرة ومُحمل بالطموحات والآمال الجسام من أجل تنمية بلده تنمية شاملة تعود بالخير على كل الفئات الاجتماعية والتغير نحو الأفضل. وهى زيارة يتوقع أن ينتج عنها الكثير من الاتفاقات لإقامة مشروعات كبرى فى مجالات حيوية تحتاجها مصر بكل قوة فى هذه الآونة. وحين نتحدث عن العلاقة مع الصين علينا أن نتذكر تجربتها الرائدة فى التنمية منذ عام 1978 وقوامها الانفتاح على العالم والنهل من تقدمه التكنولوجى والعلمى بكل همة ونشاط، ولكن بدون التأثير السلبى والمصطنع على الهوية والتراث والحضارة التى يتسم بها المجتمع الصينى، وهو ما جعل الصين تتبوأ مكانة رائدة فى الاقتصاد العالمى طوال السنوات العشرين الماضية، وباتت الآن على أعتاب المرتبة الأولى فى قائمة الاقتصادات الدولية بعد سنوات محدودة. وهناك الكثير مما يمكن أن تحصل عليه مصر من الصين ليس كعملاق اقتصادى وحسب، بل أيضا كلاعب دولى كبير يؤمن بالتعددية فى قيادة النظام الدولى، وبأن التعاون بين الدول لا يعنى إطلاقا العبث فى مقدرات الأمم الأخرى، كما تفعل ذلك الولاياتالمتحدة على مرأى ومسمع من الجميع.