أبناء سيناء: الإرهاب أوقف الحياة وشهدائنا مع الشرطة والجيش طهروها بدمائهم    4 أيام متواصلة.. موعد إجازة شم النسيم وعيد العمال للقطاعين العام والخاص والبنوك    بعد ارتفاعها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي 2024 وغرامات التأخير    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 3 مايو 2024 في البنوك بعد تثبيت سعر الفائدة الأمريكي    رسميًّا.. موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    إسرائيل تؤكد مقتل أحد الرهائن المحتجزين في غزة    فلسطين.. وصول إصابات إلى مستشفى الكويت جراء استهداف الاحتلال منزل بحي تل السلطان    إبراهيم سعيد يهاجم عبد الله السعيد: نسي الكورة ووجوده زي عدمه في الزمالك    أحمد شوبير منفعلا: «اللي بيحصل مع الأهلي شيء عجيب ومريب»    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    جناح ضيف الشرف يناقش إسهام الأصوات النسائية المصرية في الرواية العربية بمعرض أبو ظبي    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    فريق علمي يعيد إحياء وجه ورأس امرأة ماتت منذ 75 ألف سنة (صور)    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    جمال علام يكشف حقيقة الخلافات مع علاء نبيل    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    إسرائيل: تغييرات في قيادات الجيش.. ورئيس جديد للاستخبارات العسكرية    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    موعد جنازة «عروس كفر الشيخ» ضحية انقلاب سيارة زفافها في البحيرة    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    ليفركوزن يتفوق على روما ويضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    طبيب الزمالك: شلبي والزناري لن يلحقا بذهاب نهائي الكونفدرالية    رسائل تهنئة شم النسيم 2024    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    حسام موافي يكشف سبب الهجوم عليه: أنا حزين    بعد تصدره التريند.. حسام موافي يعلن اسم الشخص الذي يقبل يده دائما    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    سفير الكويت بالقاهرة: رؤانا متطابقة مع مصر تجاه الأزمات والأحداث الإقليمية والدولية    فلسطين.. قوات الاحتلال تطلق قنابل الإنارة جنوب مدينة غزة    د.حماد عبدالله يكتب: حلمنا... قانون عادل للاستشارات الهندسية    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    بسبب ماس كهربائي.. إخماد حريق في سيارة ميكروباص ب بني سويف (صور)    مباراة مثيرة|رد فعل خالد الغندور بعد خسارة الأهلى كأس مصر لكرة السلة    فوز مثير لفيورنتينا على كلوب بروج في نصف نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    تركيا تفرض حظرًا تجاريًا على إسرائيل وتعلن وقف حركة الصادرات والواردات    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    «يا خفي اللطف ادركني بلطفك الخفي».. دعاء يوم الجمعة لفك الكرب وتيسير الأمور    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    أستاذ بالأزهر يعلق على صورة الدكتور حسام موافي: تصرف غريب وهذه هي الحقيقة    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية بطور سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحن ننفرد بنشر فصول من الرواية الإسرائيلية الأكثر جدلا..مُطيِّر الحمام
نشر في أكتوبر يوم 15 - 06 - 2014

ولد مؤلف هذه الرواية، إيلى عامير فى بغداد 1937 وكان اسمه فى سجلات المواليد العراقية فؤاد إلياس خلا صبحى. هاجر مع أسرته من العراق إلى إسرائيل عام 50 وكان فى الثانية عشرة من عمره. وقد صدرت له الكثير من الروايات أهمها ثلاثيته (ديك الكيبور) وهذه الرواية (مطيرَّ الحمام) ورواية (ياسمين) التى ترجمت إلى العربية وأثارت ضجة فى الأوساط الأدبية.
وفى هذه الرواية كما فى غيرها يخصص عامير حيزًا كبيرا للشخصيات الشعبية العراقية والفلكلور والأكلات الشعبية العراقية.. ويبدؤها على النحو التالى.. فى تلك الليلة هبَّت رياح خماسينية حادّة. كان من المفترض أن ننام على السطح كعادة أهل بغداد فى فصل الصيف، لكن أمى لم تُخرج الأسرَّة من الغرف بعد، ولم تلفها بالناموسيات، ولم تضع الجرَّة على إفريز السطح لتبرَّد مياه الشُرب. ربما لم تعترف بتغير الفصول، وربما خافت من عواصف الرمل الصحراوية التى تجعل سماء المدينة مائلة إلى الاحمرار فى أواخر الربيع. أما أبى فكانت تزعجه عاصفة أخرى تبدو كسيف متقلَّب منذ إعدام شفيق عدس، التاجر اليهودى الكبير. فالسى. آى. دى، أو البوليس السرى العراقى، يقتحم بيوت اليهود فى كل ليلة ويبحث عن السلاح وأجهزة الاتصال وكتب تعليم اللغة العبرية الخاصة ب (التَنوعاه)، وهى الحركة الصهيونية السرية، ويزج بمئات اليهود فى أقبية التعذيب، لكى يجبرهم على الاعتراف الذى يدينهم فى المحاكمات السريعة التى يقوم بها النظام العسكرى، مثل تلك المحاكمة السريعة التى جرت لشفيق عدس، الذى منذ ولادته لم يكن يهوديا عراقيا. فهو سورى الأصل واستقر به المقام فى البصرة، مدينة التمور، واشتغل باستيراد السيارات، واغتنى لدرجة أن أمواله وممتلكاته كانت تقدَّر بملايين الدينارات. وكان يستضيف فى قصره الوزراء والأمراء والشيوخ والضباط، وحتى الوصى على العرش نفسه، الأمير عبد الإله، بشحمه ولحمه، كان يحل ضيفا عنده. وكان عدس فى البصرة مثله مثل العمارى الكبير، عم والدى، فى بغداد.
مصيبة عدس كانت فى ثقته الزائدة بقوته. فبدلا من أن يتخذ لنفسه مديرا مسلما من عائلة محترمة يدير له أعماله ويتفاوض مع غير اليهود ويرشوهم، مثلما يفعل العمارى الكبير، أخذ عدس يدير كل شىء بنفسه، ويرى فى نفسه مساويا للمسلمين، وهو ما جعل الكارهين والحاقدين يتربصون به، رغم ابتعاده عن اليهودية وربط مصيره بمصير العراق.
فى تلك الليلة هبَّت رياح خماسينية حادّة. وكان من الصعب علىَّ أن أنام فى ال (كَبْشِكان)، الغرفة الصغيرة خاصتى فى سطح المنزل.
الحر والجو الخانق والخوف.. وها هى ميس سيلفيا حدَّدت يوم غد لاختبارنا فى خطاب هاملت «أكون أو لا أكون»، وكنت متحمسا جدا لأن أنجح فيه.
وأصبحت الأول على الفصل، قبل جورج. أكون أولا أكون. وهل الخيار بأيدينا؟ كنت صبيا يافعا.. أصغر من أن ينشغل بفكرة الموت، لكن مصير شفيق عدس أقلق راحتى فى الليل. كيف دارت الدائرة فجأة وأصبح محتشمًا مثله، فى ذروة قوته وبأسه، جثة ليهودى معلق فى حبل المشنقة لاحول له ولا قوة؟!. هأنذا أرى الجماهير وهى تصيح فى الميدان، رغم أننى لم أكن هناك. لكن حياوى الكهل وعمى حزقئيل كانا هناك، وحكيا كل شىء. قبل أقل من عام حدث ما حدث، بعد عيد الفصح مباشرة، وفى ذروة اعتقالات اليهود التى جرت فىأعقاب قيام دولة إسرائيل.
فى ذلك الوقت، تم تعيين صادق البسام (ربنا ياخده) وزيرا للدفاع. وأراد أن يلقن اليهود درسا، ووجد فرصته فى شفيق عدس.
ذات يوم، دخل على عدس رئيس تحرير صحيفة (الناس) التى تصدر فى البصرة، وطلب منه ألف دينار. وبدلا من أن يعطيه ويسد فمه، رفض عدس.
فما الذى يستطيع فعله هذا الصحفى، فى حين أن قيادات النظام والشرطة هم من بين أصدقائه؟
على سريرى الآن لا يمكننى إلا أن أنشغل بفكرة المصير - أكون أو لا أكون- بعد يومين كتب هذا الصحفى الفاسد مقالا فى صحيفته يتهم فيه عدس ببيع السلاح للعصابة الصهيونية والتجسس لصالح الدولة المزعومة، مثلما كانوا يسمون إسرائيل، وطالب بمحاكمته على الفور. وعند انتشار أمر التهمة الملفقة فى بغداد، طالبوا هناك برأس عدس.. كانت البلاد آنذاك مثل الوعاء الذى يختلط فيه الحابل بالنابل.. حرب المؤمنين ضد الكفار. والوحيد الذى لم يتأثر بذلك كان عدس نفسه. وفيما بعد بدا كما لو كان شيئا قد تشوّش فى غريزة بقائه. فقبل ليلة واحدة من القبض عليه، جاء إلى منزله سرا، فخرى الطبقشلى، محافظ الإقليم، وناشده الهرب إلى إيران فى زورق بخارى أعده له - خلال نصف الساعة يعبر شط العرب ويصبح فى شاطئ آمن. ولم يرغب عدس فى سماع ذلك وعاد ليؤكد «أنا برئ». ودون جدوى أخذ محافظ الإقليم يعيد على أسماعه ما يردده الناس من أن الهزيمة غنيمة وافلت بجلدك.
فى اليوم التالى، تم إلقاء القبض عليه واستمرت محاكمته لثلاثة أيام فقط.
واستقال محاموه الثلاثة الواحد تلو الآخر، لأن القاضى عبد الله النعسانى ضابط الجيش الكاره لإسرائيل «تنكسر رقبته»، أصدر حكمه بالإعدام شنقا، ولم ير أى داع لسماع الدفاع.
تم إرسال منطوق الحكم بالطائرة إلى بغداد. ووزير الدفاع «ينطفى نور عينيه» صدَّق عليه على الفور، لكن الأمير تردد لثلاثة أيام. فقد كان صديقا لعدس، ومن مثله يعرف كم كان عدس مخلصا له وللعراق. جاءت زوجة عدس وجثت على ركبتيها أمامه، لكن أزاح عينيه عنها وقال إن الأمور خرجت من يده. «يا كابى، يا ابنى»، قال حياوى الكهل وأضاف «ماذا أقول وماذا أحكى»؟ قبل إعدامه بيوم واحد، سافرت إلى البصرة مع عمك حزقئيل. صمنا وصلينا مع كل اليهود عملا بوصية الحا خام باشى. وفى الطريق طلبت أن نمر بالجفل، لكى نتمدد على قبر حزقئيل النبى، وخشيت أن يرفض عمك حزقئيل، فأنت تعرف إنه شيوعى و دثورى، لكنه وافق على الفور، بل إنه قال بأن هو نفسه كان ينوى ذلك. وفى البصرة كانت هناك مظاهرات فى الشوارع، وحمل الأولاد دمى على شاكلة عدس وأخذوا يصيحون «نريد رأسه»!
وفى اليوم التالى، شنقوة أمام منزله.. شنقوة مرتين.. لم أسمع عن مثل هذا الأمر طوال حياتى. آلاف المسلمين كانوا هناك، من البصرة وضواحيها، بل هناك من أتوا من بغداد.. عائلات بكاملها.. انتظروا هناك طوال الليل.. رقصوا وصاحوا الله أكبر، الله أكبر. خفنا أن نخرج، وأخذنا نتطلع من خلف الشبابيك المغلقة ياكابى يا ابنى، ماذا أقول وماذا أحكى؟ هذه دولة يجحف قضاتها فى أحكامهم، «ولا رحمة فى قلوب حكامها».
طوال الليل، فى الفندق، لم يغمض لهما جفن. وقال لى حزقئيل، الذى حكى لى هو الآخر عن تلك الأيام، إن محاكمة عدس ذكَّرته بمحاكمات التهم الملفقة لليهود، مثل محاكمة دريفوس، الضابط اليهودى الفرنسى. تلك المحاكمة التى دفعت هرتسل إلى كتابة «دولة اليهود» وتأسيس الحركة الصهيونية.
عمى حزقئيل صهيونى متحمس يعرف كل صغيرة وكبيرة فى تاريخ الحركة الصهيونية. وفى الليلة التى تلت إعدام عدس، كتب مقالا بعنوان «اعترافات حبل المشفقة»، وهو المقال الذى بسببه أغلقوا الصحيفة. قال فيه: «إن محاكمة عدس هى محاكمة لكل اليهود، وإذا كانوا قد شنقوا عدس، فما الذى يمنعهم من شنق أى يهودى آخر».
فى تلك الليلة، هبت رياح خماسينية حارة. تقلَّبت فى سريرى الخشبى، كما لو كنت أتأرجح فى أرجوحة شبكية، وعدت لأرى الحقول الفريدة من نوعها، والنسر الكبير يطير بى إلى الباب عند أسوار القدس، ويطرقه بمنقاره، كما فىأسطورة ذلك الصدّيق. وفجأة، سمعت الطرقات ولكن على باب بيتنا. دون جدوى، غطيت رأسى بالبطانية وحاولت تجاهلها. قفزت من السرير ووقفت مشدوها فى الظلام. لقد جاءوا.. سوف يجدون السلاح ويأخذون أبى. وعلى الفور، نفضت النوم عن عينى ونزلت إلى غرفة والدىّ.
كان النور قد أشعل، ووقفت أمى بجوار السرير الزوجى واللون قد اختفى من وجهها. وأبى راقد فى مكانه.. ثلاثة أيام وهو مصاب بالحمى، وتحت عينيه الملتهبتين تجمعت أكياس غامقة اللون، واختفى شاربه الدقيق فى زحمة وجهة غير الحليق. ومن الطاقية الصوفية على رأسه، تسربت خصلات شعره الرمادى الكثيفة.
«لقد جاءوا. ما العمل يا أبو كابى؟» همست أمى بصوت يوشك على الانكسار.
«يا كابى، افتح لهم الباب» قال أبى بأنفاس متلاحقة نزلت إلى الفناء، وعند نهاية المدخل الطويل أخذت أتحسس لأجد مفتاح الكهرباء، والخبطات على الباب تهز كل جسدى. «سأفتح، سأفتح»، حاولت أن أجيب بالعربية الإسلامية لكن الكلمات خرجت من فمى بالعربية اليهودية. أدرت المفتاح الضخم، ورفعت العارضة الخشبية التى ركّبها لنا عمى حزقئيل لتدعيم البوابة.
وفى وقت واحد، تم دفعى إلى الحائط، واقتحم أربعة جنود البوابة إلى المدخل وجرّوا وأدخلوا عمى حزقئيل، الذى يسكن بجوار بيتنا. كان وجهه مغطى بالدم مشوهًا كما لو كانوا قد سحقوه باللكمات. ومن ورائهم دخلت زوجته راشيل مذعورة.
«عملوا فيه إيه» قالت راشيل وهى تنتحب.
«سوف نشنقه» قال أحد الجنود وهو يشير بأصعبه إلى حلقه.
«لا!» انطلقت صرخة من فمها وهى تندفع إلى زوجها وتمسك بكتفه.
«ابتعدى ولا تزعجيننا !» صاح الجندى.
???
استمر زرع الخراب فى البيت لساعة ونصف الساعة. وفى الرابعة صباحًا كنت فى الفناء مرة أخرى، لمرافقة الضابط والجنود إلى البوابة وهم فى طريق الخروج كان حزقئيل ملقى بجوار بالوعة المجارى تخيلت أنه يحاول أن يبتسم لى بشفتيه المنتفختين المعوجتين من أثر اللكمات.
جلست راشيل إلى جواره وهى تنظر إليه بعينين مذعورتين وأصابعها تلاطف جراحه كما لو كانت تريد أن تستخرج منها الألم. وكان الجندى عدنان لا يزال غاضبًا بعد أن انكسر مصباح الكيروسين فى يديه أثناء التفتيش فى القبو، فضرب أرجوحتى بعقب بندقيته، وأحدث شقًا بطولها ولم يهدأ إلا عندما ما تقدم نحو حزقئيل ورفسه بحذائه فى ضلوعه أخذت راشيل تستعطفه ودخلت ووقفت بينه وبين زوجها، فدفعها فى صدرها بعقب البندقية، وتجمعت الدموع فى عينيها. فى ذلك الوقت نزل الضابط إلى الفناء وأمر بإخراج الأسير. لم يجعلوه ينهض وجروه مرة أخرى على الأرض إلى العربة الجيب التى كانت تنتظر فى الخارج وعيناه البيضاويتان تنيران الحارة السوداء. نظر عدنان إلى بقعة الكيروسين التى تمددت فوق بزته العسكرية. وتمنيت لو أننى ألقيت عليه عود ثقاب مشتعل. تخيلاتى هذه.. هل أجرؤ ذات يوم أن أفعلها؟ كم كنت أريد هزيمة أحدهم لكسر حاجز الخوف.
«... أم اليهود، انهض، انهض» صاح عدنان.
حاول حزقئيل المكبل بالقيود أن ينهض من مكانه لكنه سرعان ما وقع. حاول مرة أخرى وبمعاونة راشيل نجح فى الوقوف على قدميه. وعندما رآنى تمدد وشاح بوجهه عن الجنود لكى يخفى عنهم ضمة شفتيه كما لو كان يريد أن يقول ش ش ش، اسكتوا.. لا تعرفون أى شىء. وربما أيضا أراد بذلك أن نستمر فى إخفاء الأمر عن راشيل زوجته، التى عرفنا أنها لا تعرف شيئًا عن السلاح.
وفى ضوء فوانيس السيارة، ثبت عدنان عينيه الشهوانيتين على جسمها الممشوق وهو يقول : « بدلًا أن نضاجع هؤلاء اليهودات ننشغل بأزواجهن»!!
« احذروا، الله أنقذكم هذه المرة» حذر الضابط مشيرًا بإصبعه، وهو يأخذ مكانه بجوار السائق، فى حين دفع الجنود، بحزقئيل فى المقعد الخلفى وجلسوا على جانبيه.
«حزقئيل، حزقئيل» صرخت راشيل. واختفت الجيب مع النواء الحارة مخلفة ورائها رائحة دخان شديدة.
الآن وبعد أن بقيت راشيل وحدها أمالت رأسها إلى الخلف وغطت وجهها بيديها وانفجرت فى البكاء. « سوف يشنقونه مثل شفيق عدس» قالت وهى ترتعد تعض على شفتيها.
وضعت يدى على كتفها وقلت «أعوذ بالله، سوف يرجع أنا متأكد من ذلك تعالى عندنا».
«أريد أن أذهب إلى بيتى، أن أكون وحدى» قالت ونظرتها مغطاة كما لو كانت فى عالم آخر. وأفلتت من يدى وتركتنى فى الظلام.
الآن فقط شعرت بتعب التوتر والخوف من يدرى أية مؤامرة شيطانية يدبرون؟ ما الذى سيفعلونه به؟ متى يعودون ويأخذون أبى؟ ألا يأخذون الأباء دائما؟
أغلقت البوابة وصعدت جريًا إلى غرفة والدى: لقد ابتعدوا، ابتعدوا» صحت كم يفرغ شحنة الخوف الخانق.
«وحزقيل؟» قال أبى وهو يجلس على السرير.
«أخذوه».
«ربنا يعطيه القوة» تمتمت أمى والدمع فى عينيها.
«ضربوه؟ قل لى الحقيقة» أخذ يضغط علىَّ.
لم أجب.
«فتشوا فى القبو؟».
عرفت أن أمى لا تعرف شيًا هى الأخرى، وأخذت أصنع حركات برأسى ويدى وقسمات وجهى تشير إلى أن التفتيش لم يكن جديًا وأنهم لم يجدوا شيئًا.
«كان لازم أنزل إلى الفناء كى أرشيهم»
«كانوا سيأخذونك أيضًا» قالت أمى.
« لو كان قد جاء لأخذى، لكانوا أخذونى حتى لو كنت أحتضر فى سريرى».
يا ويلى هو أخى عظمى ولحمى كان يجب أن أنزل كانت فرصة لرشوتهم من يدرى ما إذا كانت ستسنح مثل هذه الفرصة.
أنا ذاهبة إلى راشيل، قالت أمى وهى تشد الروب عليها.
« حسنًا تفعلين يا امرأة. وأبلغيها بأن تلجأ باسمى إلى المحامى منشى زليخة، وسوف أدفع له أتعابه. أذهب معها يا كابى رافقها إلى هناك وعد ثانية».
ذهبت مع أمى التى أخذت تتمتم ونحن نعبر الفناء « ملعونة حياتنا، ملعون الحى اليهودى، لماذا جئنا إلى هنا؟». وهى بذلك أرادت أن تقول بأننا لو كنا قد بقينا فى حى المعظم الإسلامى الذى كنا نسكنه قبل انتقالنا إلى هنا، لكنا قد وفرنا على أنفسنا هذه المتاعب.
وحتى المتاعب الأقل شأنا من هذه بكثير كانت أمى تربطها دائمًا بتركنا حى المعظم لو بقينا هناك لما اقترب أبى لهذه الدرجة من أولئك المتهورين الطائشين، رجال التنوعاه الصهيونية.. أولئك الأولاد الذين يلعبون بالعمل السرى ويريدون أن يكونوا أبطالًا.
ما لكل هذا ولرجل محترم مثل أبو كابى، فى الأربعين من العمر سيد فى قومه وأب لأولاده؟ «يا ويلى، لقد مس الجنون الجميع، المسلمين واليهود» كانت أمى تردد ذلك وهى لا تفهم ما الذى جرى لهم، ألم نخرج من شجوة واحدة، ألم نشرب من بئر واحدة؟ لقد كانوا جيرانًا طيبين، منحونا الحماية والأمن- وفجأة قبل حوالى عشر سنوات وقعت الاضطرابات.. الفرهود.. وانقلب كل شىء. وإذا كنا قد حظينا ببعض الهدوء منذ ذلك الوقت، فلماذا يفسد هؤلاء كل شىء ويقيمون حركة سرية من أجل تلك الدولة؟.. لم تأت لنا سوى بالملاحقات وأحكام الإعدام شنقًا.
«ربنا يرحمنا» قالت بصوت عال وهى تقبل المزوزاه، هى رق صغيرة يكتب عليه إصحاحان من سفر التثنية وهما جوهر ديانة التوحيد اليهودية، مغلف ومثبت فى عضادة بيت كل يهودى.
على عضاده باب حزقئيل، وفتحت ودخلت وأنا خلفها.
«لماذا تجلسين فى الظلام؟» سألت أمى وهى تشعل الضوء.
كانت راشيل تجلس مذهولة على مقعد رخامى فى الفناء، فأنهضتها أمى وذهبت بها إلى داخل البيت. وكان الفناء يبدو مثل ميدان القتال. وأمكننى أن أفهم لماذا كان مزروعًا بالريش وذلك من الوسائد والحشيات الممزقة الملقاه فيه. لكن أيضًا بعد ما شاهدت الجنود وهم يقومون بعملية التكسير والتدمير فى بيتنا، مازالت أعجب لماذا تكسير الأطباق خلال عملية التفتيش.
دخلت إلى البيت المقلوب وعند باب المكتبة وقفت مشدوهًا لمرأى الكتب الممزقة الملقاة والأدراج المبعثرة والحبر المتناثر على كل شىء بعد تحطيم الدواة.
وجدت راشيل وأمى جالستين على السرير فى غرفة النوم.
«هل وجدوا شيئًا؟» سألت أمى.
«أنا عارفة؟ أخذوا كتبًا وأوراقًا.» زاغت عيناها كما لو كانت غارقة فيما يشيبه الصدمة.
«أية فاجعة هذه التى حلت بنا يارب العالمين» تمتمت أمى.
«ماذا أفعل الآن؟» قالت راشيل وهى تشبك أصابعها من شدة الحزن والأسى.
أيو كابى قال إن عليك الذهاب إلى المحامى منشى زليخة».
«وأين كان هو طوال الوقت؟ لماذا لم ينزل إلى أخيه؟»
«هو مريض حرارته مرتفعة من ثلاثة أيام ولم أسمح له بالنزول. فلو كانوا ضربوه لكانوا قتلوه».
«حزقئيل فقط هو الذى عرض حياته للخطر سوف يشنقونه مثلما فعلوا بشفيق عدس» قالت راشيل كما لو كانت تحدث نفسها.
«اسكتى ولا تفتحى فمك للشيطان» نهرتها أمى وأضافت «حزقئيل النبى سوف يحرسه».
ضبطتنى أمى وأ نا أحملق فى القمصان والصدريات والسراويل النسائية البنفسجية الملقاه على الأرض.
«إذهب يا بنى إلى أبيك» قالت وهى تلمح إلى أن هذه الجلسة مخصصة للنساء فقط فاحمر وجهى وخرجت.
وجدت أبى صاعدًا من القبو. «جميل أنك جئت نسيت أن أخذ مصباحًا كهربائيًا اصعدوا واتنى بمصباح وانزل إلىَّ فى القبو.
ثبتنا المصباح الكهربائى فى قاعدته وأشغلنا الضوء الذى دفع الوطاويط إلى الفرار لمخابئها ورائحة الكيروسين من المصباح الذى كسره عدنان لا تزال تملأ المكان.
«أسرع» قال أبى وأضاف «يجب الانتهاء من العمل قبل عودة أمك من عند راشيل فمن الأفضل ألا تعرف شيئًا.
بكثير من الجهد أزحنا الفرن الحديدى القديم ورفعنا البلاطات ووجدنا الصندوق الخشب الذى صنعه لنا حزقئيل لهذا الغرض قام أبى بفتحه وأخرج رشاشًا قصيرًا ماركة «توملبسون» مفككًا إلى أجزاء داخل سحارة مسطحة صغيرة إلى جانب عدد من علب الذخيرة.
تذكرت كم كنت فخورًا عندما اصطحبنى كل من أبى وعمى حزقئيل ذات يوم قبل عدة أشهر فى الوقت الذى لم تكن فيه أمى وأخوىّ الصغيران فى البيت، وكشفا لى عن هذه الخبيئة لكى يمكننى فى حال حدوث أى شىء إبعاد السلاح عن المكان وإزالة الخطر عن البيت.
«سوف آخذ هذا» قال أبى.
«أستطيع أخذه أنا» قلت. «قل لى أين؟».
«لا» قال أبى وأضاف «أخرج أنت بحذر واذهب إلى السوق وانظر ما إذا كان هناك جيش أو شرطة فى الطريق».
فى الخارج، كانت الأنوار مضاءة فى النوافذ، والأعين المتسائلة معلقة بى الأرملة فرحة حولاء العينين، تلك التى يضاجعها مطيِّر الحمام، وتعرف كل شىء وتغتاب الجميع، كانت مشتاقة لمعرفة المزيد.
«ماذا حدث، لماذا أخذوا حزقئيل؟ «سألت وهى تضغط علىَّ بحركات يديها العصبيتين.
«وما دخلك فى هذا؟» قلت.
«انظروا إليه، بالأمس فقط كان بيعملها فى بنطلونه!»
تجاهلتها وذهبت إلى الحوارى المجاورة يجب أن أرى ما إذا كان الجنود يتربصون بنا.
ومن شدة خوفى من العفاريت فى الظلام انغرست فى مكانى يقولون إن هذه العفاريت تبدو فى هيئة نيرات متراقصة ويقول آخرون إنهم أقزام يتطفلون، مصاصو دماء يلتصقون، هولات يتراقصن فى الهواء ورعشات تطن الآذان هناك من يقولون بأن من الممكن طردهم بواسطة إحراق بخور خاص لدراويش هنود، ولكن الجميع يتفقون على أن غرز مطواة فى لحمها غير العادى يجعلها تهرب إلى كهوفها ومغاراتها.
صحيح أننى أعرف بأن كل هذا هراء ولا أساس له من الصحة، ورغم ذلك أدخلت يدى فى جيبى واكتشفت أن المطواة بقيت فى بنطلون آخر. لكن الخوف على مصير أبى تغلب على خوفى من العفاريت.
الضوء المائل إلى اللون الرمادى فى السماء لم يكن بمقدوره أن ينير الحارات الضيقة الملتوية، الجليسة بين بيوت متلاصقة ومستندة على بعضها البعض.
كنت عند مدخل الحى، فى ساحة القتال ضد اسماعيل وعلى مقربة من الطريق المؤدية إلى السوق أصحاب الشايخانة، بيوت الشاى، وكذلك الخبازون وبائعو الخضروات، والذين هم دائمًا ما يستيقظون مبكرًا ويقفون كل فى أمكانهم فى هذه الساعة لم يتواجدوا فى أماكنهن بعد. فقد أصابتهم أيضًا المخاوف من عمليات التفتيش والاعتقال.
صورة واحدة لم تفارق عيناى فى ذلك الوقت: راشيل وهى جالسة وسط الخراب المزروع فى بيتها والسراويل البنفسجية ملقاه تحت أقدامها إمرأة شابة جميلة للغاية تجتذب الجميع حتى وهى تبكى ودموعها منسابة على خديها أيها الأحمق، لماذا أتفكر الآن؟ قلت لنفسى وجريت إلى البيت.
وجدت أبى مرتديًا ملابسه وممشطًا شعره وسلة من الخوض معلقة فى ذراعة: «الطريق خالية؟» سألنى.
«ابتعدوا عن المكان. لم أر جيشًا ولا شركة».
«انتظر هنا. سوف أذهب وأعود». قال وخرج.
وعندما دخل فى النهاية بعد مرور حوالى عشرين دقيقة، تنفست الصعداء سواء لعودته أو لأن السلاح لم يعد موجودًا فى بيتنا.
«تذكر يا بنى» قال وأضاف «إذا حدث لى أى شىء إذا ما أخذونى، عليك أن تلجأ إلى أبو صالح الخباز. سوف يساعد ويرعى كل شىء».
وعندما عادت أ مى من عند راشيل كان أبى مرة أخرى مرتديًا البيجاما والروب الرمادى.«هى لا تسمح لأحد بأن يساعدها» اشتكت أمى وأضافت «تريد أ ن تسوى كل شىء بنفسها». البقية فى العدد القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.