حسين لبيب يحضر حفل تأبين العامري فاروق داخل النادي الأهلي    عام المليار جنيه.. مكافآت كأس العالم للأندية تحفز الأهلي في 2025    10 توصيات في ختام المؤتمر الثالث لمبادرة اسمع واتكلم بمرصد الأزهر    جهاز العبور الجديدة يحرر محاضر لوحدات إسكان اجتماعي مخالفة    «البترول» تواصل تسجيل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر مايو 2024    الخارجية الأمريكية: نراجع شحنات أسلحة أخرى لإسرائيل    بوتين: 90% من المدفوعات في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تتم بالعملات الوطنية    أحمد موسى : مصر لا تتحمل أي مسؤولية أمنية في غزة    «المحاربين القدماء وضحايا الحرب» تُكرم عدداً من أسر الشهداء والمصابين    جدول امتحانات الصف السادس الابتدائى 2024 بالجيزة .. اعرف التفاصيل    توت عنخ آمون يتوج ب كأس مصر للسيدات    أمطار حتى الإثنين.. الأرصاد السعودية تحذر من بعض الظواهر الجوية    الثقافة جهاز مناعة الوطن    نجوم الفن ينعون والدة كريم عبد العزيز: «ربنا يصبر قلبك»    أولادكم أمانة عرفوهم على ربنا.. خالد الجندى يوجه نصائحه للأباء والأمهات فى برنامج "لعلهم يفقهون"    بعد قرار "أسترازينيكا" سحب لقاح كورونا.. استشاري مناعة يوجه رسالة طمأنة للمصريين (فيديو)    أسعار الأضاحي في مصر 2024 بمنافذ وزارة الزراعة    «اسمع واتكلم».. المحاضرون بمنتدى الأزهر يحذرون الشباب من الاستخدام العشوائي للذكاء الاصطناعي    لفترة ثانية .. معلومات عن سحر السنباطي أمين المجلس القومي للطفولة والأمومة    السجن 5 سنوات لنائب رئيس جهاز مدينة القاهرة الجديدة بتهمة الرشوة    محافظ أسوان: مشروع متكامل للصرف الصحي ب«عزبة الفرن» بتكلفة 30 مليون جنيه    محلل سياسي: «الجنائية الدولية» تتعرض للتهديد لمنع إصدار مذكرة اعتقال لنتنياهو    حسن الرداد يكشف عن انجازات مسيرته الفنية    «فلسطين» تثني على اعتراف جزر البهاما بها كدولة    أمين الفتوى يوضح حكم وضع المرأة "مكياج" عند خروجها من المنزل    «التجارية البرازيلية»: مصر تستحوذ على 63% من صادرات الأغذية العربية للبرازيل    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد مستشفى الصدر والحميات بالزقازيق    رئيسة المنظمة الدولية للهجرة: اللاجئون الروهينجا في بنجلاديش بحاجة إلى ملاجئ آمنة    تقديم رياض أطفال الأزهر 2024 - 2025.. الموعد والشروط    "عليا الوفد" تلغي قرار تجميد عضوية أحمد ونيس    مناقشة تحديات المرأة العاملة في محاضرة لقصور الثقافة بالغربية    دعاء للميت بالاسم.. احرص عليه عند الوقوف أمام قبره    «تويوتا» تخفض توقعات أرباحها خلال العام المالي الحالي    كريستيانو رونالدو يأمر بضم نجم مانشستر يونايتد لصفوف النصر.. والهلال يترقب    «الجيزة التجارية» تخطر منتسبيها بتخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية    «القاهرة الإخبارية» تعرض تقريرا عن غزة: «الاحتلال الإسرائيلي» يسد شريان الحياة    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    يوسف زيدان عن «تكوين»: لسنا في عداء مع الأزهر.. ولا تعارض بين التنوير والدين (حوار)    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    فرقة الحرملك تحيي حفلًا على خشبة المسرح المكشوف بالأوبرا الجمعة    تعرف على التحويلات المرورية لشارع ذاكر حسين بمدينة نصر    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    محافظ كفر الشيخ: نقل جميع المرافق المتعارضة مع مسار إنشاء كوبري سخا العلوي    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحن ننفرد بنشر فصول من الرواية الإسرائيلية الأكثر جدلا.. مُطيرَّ الحمام (2 - 2)
نشر في أكتوبر يوم 22 - 06 - 2014

مع طلوع النهار، خرجت مثل كل يوم لإحضار الخبز والقيمر، عند باب البيت قابلت حياوى الكهل ماشيًا وكيس الطاليت، والتفلين، تحت إبطه.
«يا كابى يا ابنى» قال لى وأضاف «تعال إلى المعبد، يجب أن تصلى اليوم، بعد ما جرى». قالها وهو يحرك ذقنه باتجاه بيت حزقئيل. «مسكينه».
«من؟»
«من؟ من؟ تتظاهر بأنك لا تعرف يالها من امرأة رقيقة، حقا رقيقة.
ربنا ياخدهم. ولتنزل عليهم لعنة قتل البكور*. حتى فى أيام العثمانلى كان الوضع أفضل من ذلك».
دائما ما كان يتحدث بشوق إلى أيام الأتراك.
أخذ يلاطف وجهى بيده ذات العظام البارزة «وأنت يابنى، لا تقلق، لأن الله لا يتخلى عن شعبه وإرثه».
«آمين، آمين» أخذت أتمتم وأنا أخشى طوال الوقت أن يعطس فى وجهه؟
«سوف أذهب إلى الحاخام باشى، حفظه الله وأطال فى عمره، هذا الصباح لأطلب منه التدخل من أجل جزقئيل».
«أطال الله فى عمره».
«هو فقط سوف يخرجنا من هذه الضائقة هو زعيمنا وتاج رأسنا والمتمردون عليه تراب لرجليه».
«عمى حزقئيل لم يتمرد عليه».
«لا تتظاهر بالسذاجة يابنى. عمك لا يعرف مقدار الحاخام باشى لكن المرأة مسكينة. تعال إلى المعبد، فالصلاة طهارة للنفس وتوحد الإنسان مع الخالق».
«قلت لى، قلت لى».
«لن تأتى إذن؟ أعمالك ماشية؟»
«ماشية، ماشية».
«اشتر لى رغيفين من الخبز وليبارك الله فى يومك» قال وهو يخرج النقود من عباءته» طريين يابنى طريين» قال مرة أخرى وهو يشير إلى أسنانه الخربانة.
«عارف، عارف كل يوم تكرر نفس الكلام»؟
حملت السلة وذهبت دون أن أنظر إلى الوراء فإذا كان هناك من يتعقبنى فمن الأفضل ألا يعرف بأننى لاحظته فى الميدان الصغير المغطى بالأسفلت، خشيت أن أصادف إسماعيل، هذا الذى ينتصر علينا دائمًا فى قتال الأحزمة. لسبب ما كنت أشك فى أنه يشى باليهود. فمنذ أن بدأ يأتى إلى الحى اليهودى ويتحدانا، لم يتوقف عن طرح الأسئلة.
القمير: القشدة من اللبن الجاموسى ويأكله العراقيون مع العسل أو المربى _ المترجم.
الطاليت: شال (دثارة) يرتديها اليهودى عند الصلاة _ المترجم.
التفلين: شريطان من الجلد يشد أحدهما حول الرأس والآخر حول اليد اليسرى فى صلاة ويحمل كل منهما علبة صغيرة بها أربعة فصول من التوراة، هى أساس الصلوات اليهودية فى توحيد الله_ المترجم.
لعنة قتل البكور: وردت فى التوراة_ المترجم.
أردت أن أجرى، لكنى تذكرت أن على أن أتصرف بصورة عادية مثل باقى الأيام، وكأن شيئًا لم يحدث عند مدخل السوق، جرفتنى جنازة مكتظة.. رجال بالعباءات الغامقة والكوفيات المنقطة، ونساء يرتدين الحجاب والملابس السوداء.. مثل مخلوقات قادمة من غياهب الموت اندفعوا فجأة، وفى لحظة وجدت نفسى بين جوقة من الغربان الناعقة جرفونى ووجدت نفسى بجوار الحائط فأمسكت بماسورة مزراب تسلقتها قليلًا إلى أن أصبحت أعلى من رءوس المشيعين.
نادبات يتشحن بالسواد سرن فى مجموعة واحدة وسط الجنازة.. وجوههن تميل إلى الاحمرار ورءوسهن منثورة بالرماد والتراب أعطت النائحة الأولى الإشارة، فردت جوقة الناتجات عليها بالنواح والعويل والصرخات التى توقف الشعر، حزنًا على الميت وخوفًا من الموت. تذكرت النائحة ذات الوجه المجعد التى أخذت تندب وتعدد لسبعة أيام عند وفاة جدى عويلها وكلماتها أخافتينى للغاية، لدرجة أننى هربت إلى القبو، وحتى صرخات الخفافيش لم تخرجنى من هناك امتلأت أسطح السوق بالفضوليين.
أخذ اليهود ينظرون إلى الصندوق المغطى بالسواد، ويتأرجح على الأيدى من جانب إلى آخر حتى بدا وكأنه سوف يسقط على الأرض «بناقص إسماعيل واحد» قلت فى داخلى وعلى الفور، رأيت أمامى ميس سيلفيا، التى تتحدث فى دروس الأدب الانجليزى عن حب الإنسان وعن الإنسانية، فلم أشعر بارتياح.
الجنازة تمر أمامى امرأة مكتنزة وجهها مكشوف، على ما يبدو أنها أم الميت، كانت تسير مثل حمامة عمياء تضرب وتخدش وجهها. والنائحات يضربن على صدورهن ضربات خفيفة، تمس ولا تمس، لكنهن يصرخن كما لو كن قد قطعن أثداءهن. بصعوبة أمسكت نفسى عن الضحك كرامة للميت.
عرفت أن مهنتهن هى هز القلوب حزنًا ودفعها للبكاء والنحيب، لكنى لم أفهم كيف يؤدين عملهن بكل هذا الإخلاص كما لو كان الميت ميتهن.
ابتعدت الجنازة الآن، وأصبح الصباح عاديًا.
سوق حنونى، السوق اليهودى، لا يرتاح ولا يهدأ يبدأ صخبه قبل شروق الشمس وينتهى بعد غروبها بقليل ولو كانت هناك كهرباء، فى كل مصاطبه لظل حيًا صاخبًا حتى منتصف الليل. مئات المصاطب.. ألوان وروائح.. سلال مليئة بالفاكهة.. حمالون على أكتافهم البضاعة ويحذرون المارة.. حمير تنهق لأن الإنسان بصخبه يعوقها عن سحب عجلاتها.. نقاشات وإصرار على المساومة.. أحاديث ذات جلبة من عابرى السبيل.. صيحات فرح وسعادة من سيدات ومعارف يتقابلون صدفة..عربات كيروسين مغروزة فى الطريق.. هدير البريموس فى الشايخانه ودوى أفران الخبيز.. صخب واضطراب دائمين وبدونها يصبح السوق كئيبًا لا حياة مثل أيام السبت والأعياد.
«السمبوسك السخن للفم المدلل، السمبوسك السخن للفم الذكى» ورائحة الكمون والحمص فى الزيت الهائج الذى يبقبق تغازل أنفى. وقفت إلى جانب المصطبة كعادتى كل صباح. وضعت السلة على الأرض، وحررت عضلات كتفى بحركات دائرية بطيئة، وشددت أصابعى، وشبكت يداى الواحدة بالأخرى، وأخذت من السمبوسك السخن وغرزت فيه أسنانى.
مذاق الجنة.. قلت لنفسى للمرة لا أعرف كم وبينما كنت أدس الفكة فى جيبى، شاهدت شرطيًا يقترب من المصطبة بدأت أعطس مثل حياوى الكهل، وفتات الحمص تتناثر فى كل اتجاه.
«على كيفك، ابنى، شوى شوى» قال بائع السمبوسك وأخذ يجفف المصطبة الخشبية بحزقة بالية قذرة. «تحرك يابنى، تحرك أفسح الطريق للآخرين».
الرجل بالزى الرسمى وقف إلى جوارى شلت قدماى.. وبدلًا من أن أحمل السلة وأذهب فى طريقى مثل باقى الأيام، تهيأ لى أن وجهى مسلوق كما لو كان قد غطس فى الزيت الهائج الذى يبقبق. لماذا لم أذهب إلى المخبز مباشرة؟ كيف أهرب الآن؟. «تفضل عزيزى» قِّدم صاحب المصطبة للشرطى طبق السمبوسك.
أخذ الشرطى يعاينه كالمتردد فى رأيه، لكن ملامح وجهه كانت تشير إلى أن القرار قد أتخذ. غرز أسنانه فى السمبوسك الهش ومصمص شفتيه، وابتسم إلى ابتسامة تبعث على البهجة والسرور، لكن عينيه لم تنزلا عنى لسبب ما. حاولت أن أرد عليه بدافع أخوة المستمتعين بالمذاق الواحد وأن أقول له «مذاق طيب، هه» لكن اللقمة انحشرت فى حلقى هز رأسه وأخذ سمبوسك أخرى، وعندئذ أدركت بأننى فقط أتخيل بأن ذنبى منحوت على وجهى.
على الفور، رفعت السلة وابتعدت عن المكان. ألقيت باقى السمبوسك فى يدى وشعرت بعملية الخوف فى داخلى.
أردت تقريبًا أن أنحنى وأفرغ ما فى داخلى هناك، وسط السوق، لكننى واصلت طريقى إلى المخبز احتشد الناس عند الباب ودخلت بينهم. أبو طالح الخباز، بطل الحى، واقف بجوار الفرن والكوفية البيضاء على رأسه. الجميع يدعونه أبو صالح رغم أنه لم يتزوج بعد. هو من أولئك الناس الذين تعطيهم رعايتهم الأبوية مكانة الأب قبل أن ينجب أولادًا. ومع ذلك جارته هذه التسمية لتذكرة بأن الوقت قد حان للزواج. جسده ضخم ممشوق، وصدره به شعر كثيف مثل فراء أسود، ورقبته جبارة_ وعندما يريد أن يؤثر فى شباب الحى، الذين يعرفون قدره بطبيعة الحال، يربط جوال دقيق فى رقبته ويرفعه كما لو كان يرفع جوالًا من الريش. وجهه الأسمر القمحى اللون دائمًا مبتسم، وعيناه السوداوان بهما لمعان يحمل شقاوة، وأسنانه تلمعان بابتسامة، أبدية - إلى يمينه، على لوح خشبى مستطيل الشكل، كرات من العجين، يأخذ منها الواحدة تلو الأخرى ويرققها بيديه العملاقتين، بخبطات صاخبة، تخبط وتشد، تخبط وتدير، وتقذف بالعجين المنبسط من كف يده إلى كف يده الأخرى إلى أن يصبح مستديرًا رقيقًا، ثم يضعه على مطرحة محترقة أطرافها من أثر النار، وبحركة سريعة يلصقه إلى جانب الفرن، وهكذا دواليك إلى أن يمتلئ الفرن المشتعل. وبمجرد أن ينتهى يشرع فى الغناء بصوته القوى:
الخبز الساخن، لذيذ وهش،السابق ربحان، والمتأخر بكيان.
أدركت أن لا معنى للحديث معه الآن. ومن حسن الحظ أن معتوق، ناظم الشعر، تأخر هذا الصباح، وإلا انشغل الإثنان فى أشعار الخبز الصباحية عندما شاهدنى نادانى - هل يعرف؟ بحركات سريعة أخذ ينتشل بملقط الخبز الهش المهبل الذى يتصاعد منه البخار، ورائحته مثل رائحة الحياة، وينشره على الطاولة التى تفصل بينه وبين المشترين. أخذ ينظر إلى خبزه كمن يشاهد عملية خلق، ويصفر لنفسه صفارة انفعال وتأثر.
أميرة الجميلة، أخت إدوارد، هذه التى يعشقها كل شباب الحى، ويريدها أبو صالح بالذات، ربتت على كتفى هامسة صباح الخير فهززت لها رأسى وعيناى على رمان صدرها «صباح الخير يا أميرة» قالها الخباز وهو مشرق الوجه عندما كانت صغيرة وهو بعد صبى خباز، كان يصنع لها لعبًا وتماثيل ويحرقها فى الفرن. وعندما كبرت قليلًا كان يخبز لا حِنونه* وعندما نضجت أخذ يغنى لها وجوقة المشترين تردد وراءه.
l حِنونة: رغيف خبز صغير هش
فى الشباك جلست أميرة،
تطرز القماش،
خصلات شعرها ست على الجبهة،
ثلاث ثلاث على كل جانب.
فى الزقاق شاب مثل شجرة الأرز،
يقترب من الشباك رويدًا رويدًا،
شعرات ست فى شاربة،
ثلاث ثلاث على كل جانب،
من الشباك أطلت الجميلة،
وقلبه اشتعل على الفور،
قبلات ست طبعها على خديها،
ثلاث ثلاث على كل جانب،
لكن أباها سمع ذلك،
واضطرم الغيظ فى قلبه،
لطمات ست ضربها على خديه
ثلاث ثلاث على كل جانب
احمر الشاب خجلًا
ومن فرط الإهانة ارتعد
دمعات ست تساقطت على خديه
ثلاث ثلاث على كل جانب.
أراد أبو صالح الخباز أن يتخذ من أميرة الجميلة زوجة له، لكن أباها، أبو إدوارد، المطيرجى.. مطير الحمام فى الحى، كان يعتقد أن أميرته تستحق أفضل منه بكثير.
وبخلاف ذلك، كان المطيرجى يكره الخباز منذ أن تنافسا فيما بينهما على شراء المخبز.
فقد اشتهى أبو إدوارد المخبز، وبالذات الفناء الواسع الذى لا يوجد مثيل له لتخزين خردته. وأبو صالح خدعه أو هكذا قال لأبى الذى حاول أن يصُلح بينهما.
وعلى حد قوله، فإن أبو صالح قال للوسيط المسلم أن أبا إدوارد لن يقدر على دفع الأقساط، وهكذا استولى على المكان، ومنذ ذلك الحين، لم يكلمه وأقسم أن ينتقم منه عندما يحين الحين، لكن خبزه، وبصفة خاصة الخبز بالأجل، كان يأكله بالهناء والشفاء، لأن أبوا صالح كان أفضل الخبازين فى الحى اليهودى.
الآن، ملأ الفرن مرة أخرى، وأمر سامى مساعده أن يهتم بالزبائن، وأشار لى بالدخول إلى فناء المخبز، فتوجهت إلى هناك وقلت: «أخذوا حزقئيل».
«أعرف» قال وهو يجلس على الأريكة ويجفف جبهته «سوف يأتى اليوم الذى نقتلع فيه عيونهم. سوف نعمل على تهريب حزقئيل أنت لا تعرف كم هو غالٍ عندى. عندما التقيته كنت حبيًا جاهلًا، فأخذنى إلى مدرسته للشبيبة العاملة. كنت فى الصف الأول ولم أصدق بأننى سأصبح بنى آدم وعندما رآنى أقرأ صحيفته «البريد اليومى» بصوت عال أمام أصحاب متاجر جهلة، لم يكن هناك أسعد منه.
وبعد الفرهود، طلب هو وأبوك أن أنضم إلى «شباب الإنقاذ» للدفاع عن الحى اليهودى وأقسمنا أن مثل هذه الاضطرابات وأعمال الشغب لن تتكرر ثانية وبعد فترة قصيرة، سلمنى قيادة الحى، ثم أنشأنا التنوعاه وفى الاجتماع التأسيسى للحركة، قال: «سوف نقيم مملكة يهودا.. سنعيد مجدنا القديم.. سوف نغير التاريخ!»، وعندما تكلم سمعت رفرفة أجنحة الملائكة وسرنا جميعًا خلفه.. كل تلاميذه من خريجى مدرسته. وهنا فى قبوى، احتفلنا بأول عيد للاستقلال، وتلونا القدوش على الخمر، وحيينا العلم وقرأنا المزامير كما لو كان المسيح قد جاء. أردت أن أسافر لكى أحارب.. لكى أصبح ضابطًا فى جيش يجئال آلون.. منذ زمن وقلبى هناك.. جسدى فقط هو الذى ظل باقيًا هنا. لكن جزقئيل لم يسمح لى بذلك. فقد كان يخشى من حدوث فرهود آخر، وأراد أن نكون مستعدين لصد أى هجوم وقال لى: «مثل قباطنة السفينة، سوف نرحل أنا وأنت فى الآخر بعد أن تغادر كل الطائفة».
جفف أبو صالح جبهته وتنهد وقال: «يا الله، من يستطيع ارتداء عباءة حزقئيل.. ياخبر، تركت الفرن مملوءًا «أقالها وجرى إلى المخبز رائحة الشياط عبأت الأجواء وبسرعة، أخرج الخبز وألقى بالمحروق منه فى صحيفة صدئة، ووزع الجيد. وعندما خف ضغط الزبائن أعطانى حصتنا اليومية مع رغيفين طريين لحياوى، وأربعة لراشيل. «قل لها أن تصمد وتتماسك» همس فى أذنى. «قال لها أننى أقسمت بالنار والخبز أن أخرج حزقئيل. وأننا سوف نسافر جميعنا معًا إلى القدس».
فتحية الجميلة، بائعة القمير البدوية، كانت تجلس على الأرض فى الجانب الأيمن من المخبز المترامى الأطراف، وفى الشتاء، تنقل جلستها إلى الجانب الأيسر، بالقرب من الفرن، وتجلس على وسادة رقيقة، بقدمين متشابكتين، وأذنين مشنفتين لأغانى الخبز، وبصفة خاصة لأغانى الحب والغرام البدوية التى يغنيها أبو صالح لها خصيصًا:
يا ليتنى كنت قلادة ذهبية
على رقبتك:
أتقلب على ثدييك مرة
وعلى قلبك مرة
وبين الحين والآخر، كانت عيناها تصطاد عينيه وعندما يكون المخبز خاليًا تبتسم له ابتسامة مغرية جذابة، تظهر من خلالها السن الذهبية التى تزيد أسنانها البيضاء بريقًا وجمالًا، أو هكذا تعتقد. وتهرب معه إلى القبو، وتأوهات غرامها تجعل الفئران تفر من مخابئها.
كانت تجلس وفستانها الأسود يغطى يديها وقدميها، ولا يظهر منه سوى كف قدمها المشقق. جبهتها ورأسها ملفوفان بطرحة سوداء رقيقة تبرز جمال ابنة الصحراء وعيناها السوداوتان المكحلتان، تحرقان وتقصفان كالقرط المدلى من أنفها: «يا عيونى، يا كابى، تأخرت هذا الصباح، لكننى حفظت لك القمير «قالت وهى تقطع شريحة كبيرة بما يشبه إبرة المنجدين الطويلة من الطبق الخشبى المسطح وتضعها على الصينية الخشبية التى أتيت بها.
وتعبأ الجو برائحة القمير القوية.. رائحة طبقة كثيفة من دسم اللبن الذى تكثف وتجمد بعد الغليان والتبريد.
«ما شاء الله على القمير اليوم، شىء يجنن» قالت مثلما تقول كل يوم، ووجهها مثل قميرها، ناعم طرى حريرى.
«ياكابى، إتصار بيتش اليوم ياخويا؟ لا تبدو مثل باقى الأيام»
قالت بصوت مداعب.
«طار النوم من عينى فى الليل» قلت.
«من الجميلة التى طيرت النوم من عينيك_ أميرة؟ «غمزت بطرف عينها».
«بل أنت» قلت وانفجر كلانا فى الضحك.
اقترب شرطى منا وسأل مستخفًا دمه: «وما الذى تبيعينه يا أختى؟»
«قشطة القشطة».
«مثلك يا جميلتى، مثلك» قال وتوجه إلىّ. «جميلة حقًا؟»
«جدًا جدًا» قلت.
«انظروا إليه، بعده ولد ويراقب النسوان! وماذا عندما تكبر؟ «وأخذ يحرك رأسه.
«هو رجل، ماشاء الله. رجل. تفو على عين الحسود» قالت وهى تبصق جانبًا؟
«ما أسمك؟»
«كابى».
«والعائلة؟»
«العمارى».
«اسم معروف. معروف» قال. «لحظة، لحظة... لقد ألقوا القبض الليلة على واحد عمارى». احتبست النفس فى صدرى، وأردت أن أجرى إلى أبى، لكننى بقيت فى مكانى، يلفنى الهدوء، كما لو كان الوقت لا قيمة له.
«قريبك؟» سأل الشرطى.
«لا.. لا أعرفه» ابتسمت لفتحية وودعتها. أردت أن أهرب وأفر بجلدى، لكننى تذكرت وصية أبى، بأن أتصرف بطبيعية كالمعتاد.
مثل طفل تعرض للتأنيب والزجر، وقف حياوى عند باب بيت راشيل. لوَّحت له بأرغفة الخبز الطرية التى طلبها، فابتسم ابتسامة حزينة ووضع يده على رأسى وأخذ يتمتم:«الله يبارك فيك ويحفظك»، ثم قَبَّل أطراف أصابعه ووضعها على عينيه، ولاطف وجهى وهو يقول:«لماذا ترفضنى؟ لماذا لا تريد أية مساعدة منى؟».
«ومن أين لى أن أعرف؟ «قلت وأنا أتوجه لدخول بيتها، فأوقفنى. «أعطها هذه» قال وهو يدس رزمة من الدنانير. «عندها» قلت وأنا أحاول أن أعيد إليه أمواله. «أعطها لها فهى فى حاجة للكثير من المال» قال وشفته السفلى ترتجف. «حسنًا، حسنًا» قلت وأنا أدفع باب بيتها الخشبى. «كابى!» صاحت وهى تتنفس الصعداء. بفستانها الأبيض الذى يبرز جسدها المنحوت وصدرها المصبوب، وفى عينيها العسليتين اللتين تنظران إلىًّ، كان هناك شئ زائغ لم أستطع التعرف على كنهه. وقعت فى مصيدة عينيها ولم أستطع أن أزيح عينى عنهما. ولكى أتخلص من ربكتى دسست يدى فى السلة.«الخبز من أبو صالح الخباز. والمال من حياوى» قلت بصوت كسير وأنا أضع هذا إلى جانب ذاك فوق الأريكة الرخامية. «هذا أخذ زوجى وذاك يريد أن يأخذنى» قالت. «كنت أعتقد بإن حزقئيل هو الذى أخذ أبو صالح وليس العكس». «حزقئيل المخ وأبو صالح العضلات، وهذا فى حاجة إلى ذاك». «وحياوى؟».
«هذه قصة طويلة. سوف أحكيها لك فى مرة أخرى. أعد المال لهذا الآثم كثير الخطايا»، قالت وصوتها يخفى صرخة.. وعندما شاهدت علامات الاندهاش تعلو وجهى، أضافت:«أنت بعد صغير. لن تفهم». «أنت أكبر منى بسنتين ونصف السنة فقط».
خبطات قوية سُمعت على باب بيتها. «لقد جاءوا» قالت وتجمدت فى مكانها. وارتعدت أنا الآخر. وعندما رأيتها مثبتَّة فى مكانها، وضعت السلة واستجمعت كل شجاعتى واتجهت ناحية الباب. الكل ضائع، سوف يأخذون أبى أيضًا. كان يجب أن نهرب من هذه البلاد الملعونة. وعند الباب كان عابد واقفًا. «أهذا أنت؟ «قلت وأنا أخرج الهواء من رئتىَّ. «بشحمى ولحمى، العبد الأسود» هكذا كان يدعو نفسه أحيانًا. «لماذا لم تدخل!».
«أهكذا ندخل على سيدة لوحدها، دون أن نطرق الباب، ألا يوجد أدب؟» «أنت واحد مننا والبيت بيتك» قلت. «ليس بالنسبة لها» همس.
بمجرد أن رأت راشيل عابدًا ذاب الثلج عن جسدها.
«أنا آسف لما حدث» قال عابد «أبو كابى طلب منى أن أصحبك إلى المحامى. متى يناسبك ذلك؟».
«لست فى حاجة لأى أحد» قالت فى غضب. كانت هناك قسوة فى نظرتها لم أعرفها من قبل. خطى عابد إلى الوراء وابتسامة استسلام تعلو وجهه. «لمرافقتك فقط فى
أحياء المسلمين» قال محاولًا إيجاد مبرر.
منذ ساعات الصباح وهو يساعد أمى فى تنظيف وترتيب البيت بعد الخراب الذى زرعه من جاءوا للتفتيش.
«سأدير أمورى بنفسى» قالت وعندما أغلق الباب وراءه أضافت:«يبعث لى بخادمه؟!». «بإمكانهم إلقاء القبض علىَّ» قلت متعجبًا بعض الشىء هل نسيت أنها تتحدث عنى أبى؟
«لماذا لم ينزل أباك إلى الفناء فى الليل، ليرى أخيه.. ليتحدث مع الشرطة.. ليقدم لهم رشوة؟» أخذت تحدث نفسها بالسؤال الذى يلح عليها.
تذكَّرت مالم أكن أريد أن أتذكره. كيف قام الجنود الثلاثة بجر حزقئيل عبر الممر كما لو كان جوالًا من الأرز، ثم ألقوا به بالقرب من بالوعة المجارى وسط الفناء.
«إبق إلى جانبه!» أمر الضابط الذى يلمع بالأزرار الذهبية وأوسمة الجيش العراقى أحد الجنود» وأنت تبقين هنا أيضًا»، قال موجهًا حديثه إلى راشيل، وهو ينظر إلى النافذة التى تضىء الفناء بنور خافت ويسأل: «أين أباك؟» «مريض.. فوق..» قلت بتلعثم.
«يللا، تحرك، يا ابن العاهرة» صاح فىَّ الجندى بغضب.
صعدت السلالم والحذاء الثقيل يتبعنى. وقفت أمى عند باب الغرفة وهزت رأسها للضابط وقالت «مساء الخير».
«بعد قليل يأتى الصباح». نبهَّها الضابط وهو ينظر إلى أبى الراقد فى سريره ومغطى حتى ذقنه. «أنتم اليهود تتعبوننا. فى كل ليلة ننشغل بأمركم. أين السلاح؟» سأل وعيناه على أبى الذى يهتز وكأنه جمد فى مكانه.
«سألتك شيئًا..» قال الضابط.
«ماذا؟» تساءل أبى بصوت مبحوح.
«أين السلاح؟».
حرك أبى رأسه من جانب إلى آخر كمن يقول لا أعرف عم تتحدث. «سنعرف كل شىء بعد قليل. سوف يخبرنا أخاك الراقد هناك فى الفناء. ألا تريد أن تراه؟ أعطيك فرصة لترحمه وتوفر عليه تحقيقًا غير لطيف» لم يكن فى حاجة لكى يفسر. فهذا التلميح لأقبية تعذيب البوليس العراقى كان كافيًا لكى تسرى فى أجسادنا رعدة. استمر أبى فى تحريك رأسه من جانب إلى آخر. وتذكرت تعليمات حزقئيل لأبى ولى: يحدث لى ما يحدث -قال لنا- أنتما لا تعرفان أى شىء. أشعل الضابط سيجارة بولاعة فضية. ومد العلبة لأبى لكى يأخذ واحدة. وعلى الفور بدأ ابى يسعل سعالًا شديدًا. كشَّر الضابط فى ازدراء وابتعد عنه كما لو كان مريضًا بالسل. توجه إلى أمى. وكان أخواى الصغيران، اللذان استيقظا من نومهما على الضجة، واقفين ممسكين بجلبابها، وينظران إلى ما يجرى بفزع.
«بعد إذنك، سيدتى» قال الضابط بأدب مبالغ فيه «سنقوم بتفتيش بسيط».
«تفضلوا» قالت أمى بجدية. ومن فرط الخوف لم تلتقط نغمة الاستهزاء فى كلامه.
وهكذا، بدأ التكسير والتدمير فى بيتنا أيضًا. هل كان بإمكان أبى أن يعرض عليه رشوة؟ ألم يكن هذا الخراب الذى ذُرع فى كل ركن من أركان البيت.. خراب لأجل الخراب دونما أية علاقة بعملية التفتيش.. بمثابة دعوة لعرض رشوة؟.
من الممكن أن يكون هذا كلامًا فارغًا لا أساس له من الصحة، لكن حتى أبى قال إنه كان من الواجب محاولة رشوتهم. وفى عراق تلك الأيام، لم يكن ما طرحته راشيل من علامات استفهام يمر هكذا مرور الكرام.. فلقد أثار الشكوك حتى فى داخلى أنا.
«لم يكن يريدنا أن نتزوج» قالت فى غضب وأضافت» قال إننى لا حسب ولا نسب ولا مال لى».
«من أين لك بهذا الكلام الفارغ؟».
«ذات مرة قلت له بألا يدفع حزقئيل إلى قيادة التنوعاه، ومنذ ذلك الحين وهو يعتقد إننى ضده» قالت وعيناها ترتجفان.
«كفى، توقفى. سوف أذهب معك إلى المحامى» عرضت عليها.
«شكرًا، لست فى حاجة لأى أحد. لا يوجد ما يدعو للقلق» أعرف ما إذا كانت تواسى نفسها أم تواسينى. لكن قلبى قال لى إن هذه هى اللحظة المناسبة للابتعاد.
بجوار الباب أدرت وجهى إليها. «انتظرينى. وعلى أية حال فالمكتب لا يزال مغلقًا» قلت وأنا أحاول أن أسبغ على صوتى قوة وصرامة.
كان عابد ينتظر فى الخارج. «ماذا أقول لأبو كابى. سوف يغضب منى» قال، والابتسامة الدائمة التى تشرق من عينيه الصغيرتين انطفأت.
«أترك لى هذا الموضوع واذهب أنت لتفتح المحل. فأبى قال إننا يجب أن نتصرف بصورة طبيعية، وألا نثير أى شك» قلت.
«الحمد لله أن أباك خرج سليمًا معافًا من هذا الموضوع» قال، ويداه الكبيرتان تهبطان إلى جانب جسده مظهرًا أسنان الحصان خاصته ومطرقًا رأسه فى استسلام. «يا كابى، رافقينى قليلًا إلى المحل والله يرحم جدك الكبير» قال وهو يعانق كتفى ويقودنى إلى مدخل السوق.
كان حيّاوى جالسًا فى دكانه على المقعد الرث المهلهل، يرتشف قهوة الصباح التى أخذها من بائع القهوة الذى يمر كل يوم وهو ينفر بالفناجين نقرات متلاحقة بوتيرة معينة.
ومحل أبى وسط حيّنا، حىّ تحت التكيّة، غير بعيد عن داكان التبغ الخاص بحيّاوى. وهو دكان كبير، يرتفع بمقدار ثلاثة سلالم عن الطريق. اشتراه أبى من تاجر اقمشة قام بتصفية أعماله على عجل وسافر إلى الهند. على أحد جوانب الدكان يظهر فى الفاترينه دولاب زجاجى عتيق، يخطف العين بجماله، وبه عرض للساعات المختارة التى يفتخر بها، ومن وراء الدولاب توجد طاولتان للعمل، واحدة لأبى، والأصغر منها لعابد. وفى مؤخرة المحل، توجد خزانة خضراء وبجانبها ركن الضيافة:كنبه وطاولة خشبية منخفضة، ومقعدان، وبعض من أصيص الزرع أصرت أمى على وضعها هناك. وعلى الحائط ثلاث صور معلقة داخل براويز: الملك فيصل الأول فى الوسط، وإلى يمينه الحاخام يوسف حاييم رحمه الله، كتميمة للصفقات الجيدة، هكذا اعتقدت أمى، وإلى اليسار صورة جدى الكبير.
لم يكن هناك تليفون فى المحل. وكانت التليفونات فى الحى كله قليلة للغاية. وقد حاول أبى مع وزارة البريد بشتى الطرق.. توسل تارة وقدم الرشوة تارة أخرى، لكنه لم ينجح. المحل الوحيد الذى كان يوجد به تليفون هو ورشة الحدادة المقابلة، لصاحبها الحاج يحيى عبد الحق، المسلم الوحيد فى الحى. وهو رجل طاعن فى السن محنى الظهر، ذو بشرة رائقة ونظرة خطيرة ولحية مثلثة، يضع عمامة بيضاء على رأسه ويلف جسده بعباءة بيضاء أيضًا. فى جبهته ما يشبه الثؤلولة الغامقة من أثر السجود على الأرض وقت الصلاة. أحببت النظر إليه. بظهره المحنى كان يقف بجوار المخرطة من الصباح وحتى المساء، ورغم ذلك، تظل عباءته بيضاء. كان له إبنان: غسان، الكبير، عقيدفى الجيش العراقى، يكره إسرائيل، وحارب مع المجاهدين فى فلسطين فى حرب 1948. وأراد أن يخرج أباه من الحى اليهودى. وكان يأتى لزيارته فى الورشة مرتين أسبوعيًا. ومن خلفه حارسه الشخصى.
كان يرفع بنطلونه قليلًا، حتى لا ينكمش، قبل أن يجلس على المقعد الوحيد فى ورشة والده، وينظر إلى المارة ورأسه مرفوع إلى أعلى فى زهو.
مجيئه كان يثير جلبة فى الحى. وكان أبو صالح الخباز يأتى لرؤيته ويقف بجوار دكان أبى وينظر بإعجاب مثل طفل صغير، للرجل المكوى اللامع بذهب أزراره ورتبته. وبعد ذلك يعود ويقسم فى أذن أبى، بأنه هناك، فى الأرض المقدسة، سيصبح ضابطًا كبيرًا، ثم يعود إلى مخبزه.
كريم، الابن الثانى للحاج، كان مستديرًا بعض الشىء ومبتسما، أصغر قليلًا من الضابط ومختلفًا عنه فى كل شىء. كان عضوًا فى المنظمات الخاصة بحماية حقوق الأقليات، وصديقًا لليهود. وقبل أن يشتهر كمحام ويصبح رجلًا مشغولًا جدًا، كان يأتى بصورة يومية تقريبًا إلى الحى اليهودى، ويدخل دكان أبى.الذى كان بمثابة نادٍ صغير، ويأكل كبة البرغل التى يصنعها باروخ الكردى أبو الكبة، ويشرب القهوة، ويتجاذب أطراف الحديث مع أبى ومع حزقئيل حول سياسة المنطقة، ودسائس الإنجليز، ومصالح الأمريكان، والخوف من الشيوعيين فى الشرق.وكان صديقًا لباقى الضيوف الذين يأتون إلى المحل ليتجاذبوا الحديث وليشربوا القهوة المرة أو الشاى الحلو.
قبل المساء، كنت أجلس فى ركن من المحل، وأتظاهر بالقراءة أو الكتابة، لكننى كنت أنصت لحديث الكبار وأنتظر اليوم الذى أصبح فيه مثلهم.
وكان حزقئيل يأتى إلى المحل وقت العصارى، ويستلقى على الكنبة، ينعس قليلًا، ويدخن الغليون ذا الرائحة الطيبة، ويحكى لأبى أخبار اليوم,
وكلاهما يقومان بتحليل السياسة وتعقيداتها، ويحاولان فهم أبو ناجى وهذه كانت كنية الإنجليز، ويتابعان الأساليب الملتوية التى ينتهجها نورى السعيد، المسمى بالباشا، وهو الرجل الذى التصق بالإنجليز، ورسم بالفعل سياسة العراق.
وكان بين زبائن أبى أيضًا، سكان المناطق الغنية مثل باب الشرجى، والعلويه والكرادة. وهم من بين أصدقائه وأصدقاء حزقئيل، وزملائه منذ إن كان أبى يعمل فى مجال التعليم، وآخرين ممن كانوا يسعون لمصادقة الساعاتى صاحب الثقافة القانونية. الرجل ذائع الشهرة من بيت العمارى.
وكان عابد، الخادم الكردى، يفتح المحل فى الصباح الباكر، فأبى لم يكن يحب الاستيقاظ مبكرًا، خاصة أنه يعرف أن الناس لا يشترون الساعات فى الصباح الباكر.
كان عابد يقوم بتنظيف المحل وتلميع الفاترينة وتهوية السجادة الفارسية فى الشتاء، ورش المياه على البلاطات السوداء فى الصيف، وتشغيل المروحة المعلقة فى السقف.
ومثل أبى، أحب عابد أيضًا المحل والعمل به.. أن يأتى بالبضاعة ويقوم بتحصيل الديون ودفع الأقساط، والذهاب إلى السوق لقضاء المشاوير، وأيضًا مساعدة أمى ومساعدتنا نحن الأولاد.
فى وقت الظهر، كان يأتى إلى منزلنا. وإلى أن تملأ أمى لأبى السفرطاس، وهو عامود متعدد الطوابق يسمى أيضًا إناء الآنية، وتجهز له الفاكهة الباردة، وتقطع له شرائح البطيخ المثلج، كان عابد يأكل على مائدتنا وجبة الغداء، ويتجشأ باستمتاع، ويدخن فى استرخاء سيجارة (زبانه) مفتخرة من عند حيّاوى.
كانت أمى تعامله كواحد من أفراد الأسرة. تدعوه إلى ولائم الأعياد والمواسم، وتعطيه القمصان والبدلات التى يستغنى عنها أبى، وتحاول أن تخطب له فتاة يهودية صالحة، وهو من ناحيته كان يسارع فى خدمتها، وقضاء كل حاجياتها. يذهب معها إلى السوق ويحمل سلالها، ويقضى لها المشاوير البسيطة، ويشترى لها الخضار أو الفاكهة التى نسيت شراءها. وكان يقلق علينا مثل أخ كبير، يضحك معنا ويتصرف بولدنة.. يوجهنا ويؤنبنا. وفى أيام البرد والمطر، وعندما كنت أتكاسل ولا أرغب فى مفارقة السرير الدافىء لشراء الخبز والقيمر، كان يذهب بدلًا منى ويصطحب أيضًا أخواى الصغيرين إلى المدرسة والحضانة.
وعندما تصبح أرض الحارات الترابية موحلة مطبوعة بآثار أقدام الحمالين الأكراد الحفاة وحوافر الحمير والأخاديد التى تخلفها عجلات العربات، كان يرفعنى على كتفه لكيلا أغوص فى الطين ولا أبتل فى برك المياه.
كان شابًا قويًا، يعرف عمل أى شىء فى منزلنا وقت الحاجة.. يفتح حائطًا، يصلح ماسورة وحنفية وفيشة كهرباء.. يبدل بلاطات ويقوم بأعمال المحارة والطلاء.. كل شىء كان يعمله بسرعة وحرفية. وكنت أحب الوقوف لمراقبته وهو يقوم بإصلاح كل شىء.
والعجيب أنه لم يكن يحب إصلاح الساعات. يداه القويتان الكبيرتان تمردتا على ما يبدو، على هذه المهنة التى تستلزم الدقة الشديدة، وحتى مطالعة الكتالوجات باللغة الإنجليزية. ولذلك كان أبى يترك له الاصلاحات البسيطة فقط.
كان يتيمًا وأعزبًا. وكان يحمل جميلًا كبيرًا لأبى الذى أخرجه من دار الأيتام وعوضه عن كل ما ينقصه. كان يهابه ويحترمه ويخشى دائمًا أن يفصله عن العمل، رغم أن أبى لم يفكر فى ذلك على الإطلاق.
ست عشرة سنة وهو يخدمه ورغم ذلك فلا يجرؤ على النظر إليه، وحتى الآن لا يفهم بأن أبى هو الآخر يحتاج إليه.
أرسله أبى أيضًا لكى يتعلم فى مدرسة الشبيبة العاملة التى أسسها حزقئيل، وهناك كان يدرس فى صف واحد مع أبو صالح الخباز، وتجنَّد معه فى صفوف التَنوعاه، وحظى بمحبته وثقته.
ومثله مثل فقراء كثيرين، كان يأمل بصدق وسلامة نية، أن تجعل إسرائيل نصيبه فى هذه الدنيا أفضل. كان يسكن فى غرفة حقيرة فى حى ططران، ومنزل إحدى الأرامل.. أم لستة أولاد. وكانت بين الحين والآخر تتسلل إلى غرفته خلسة فى الليل، وتوهم نفسها بأنها تعلمه فصلًا من فصول علاقة الرجل بالمرأة، ثم تعود سريعًا إلى غرفتها خشية أن يكتشف أمرها أمام الأولاد.
سعادته وجدها عند فوزية العاهرة، التى كان يذهب إليها بصورة دائمة فى ليالى السبت. فبعد تقديس السبت وتناول الوليمة، كان يتزين ويمسح شعره ببرليانتين رخيص. ويرتدى بدلة قديمة من بدلات أبى ويربط عنقه بكرافته انقضى زمانها، ويدس ربعيَّة، أى رُبع زجاجة عرق، فى الجيب الداخلى للجاكيت، وبعد ذلك يشربها مع فوزية ويحكى لها بلهجته الكردية عما لاقاه خلال الأسبوع، ثم يتمرغان فى فراشها حتى ساعات الصباح.
اعتادت عليه وأحبته وحجزت له ليالى السبت، وعندما كان يتأخر عن المجىء كانت تقلق وتقف تنتظره عند باب بيت الدعارة، رافضة خدمة أى زبون آخر.
كان ينفق عليها جزءًا كبيرًا من أجره، لشدة أسف الأرملة التى كانت تأمل أن يتزوجها ويمنحها أكثر من الفتات الذى يمنحه إياها من قوته وماله.
l البرليانتين: دهان لتلميع الشعر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.