كانت هناك أمور كثيرة لم أكن أتصور وجودها فى الحياة، من هذه الأمور الإلحاد والكفر والشرك بالله، كانت الفطرة الإيمانية تشغلنى عن مجرد تصور هذا، وكان العقل غير مهيأ لأن يستوعب حكمة وجود الكافر بجوار المؤمن فى الدنيا، وبسبب هذا كانت مسألة الإيمان محسومة، وفى مرحلة تالية من الوعى كان الحديث عن عدم الإيمان فى ذهنى منسوبا للماضى الجاهلى والتراث المهجور على اعتبار أن الإنسان تدرج فى مراتب الحضارة وأن العقل البشرى وصل إلى مرحلة النضج. (1) وفى صدر الشباب فاجأنى زميل فى المهنة كبير فى السن على أعتاب الشيخوخة بسره، حين قال لى إنه يؤمن بوجود إله لكنه لا يصدق فى وجود أديان وكتب سماوية، وردد مقولة لطالما رددها الغافلون من قبله ومفادها أن هناك من هندس هذا الكون لأنه لا يمكن أن يكون هذا الإعجاز محض صدفة أو ضربا عشوائيا، أما الأديان فهى أمر فيها نظر على أحسن تقدير، وعرفت غير هذا الزميل المسن آخرين أكثر جرأة على الله وأكثر غلوا ورصدت على أفعالهم وأقوالهم الكراهية الشديدة لأديان الله، وهم لا يتورعون أن يعلنوا هذا إذا أمنوا العقاب ممن حولهم، وإذا جادلتهم فى أمرهم هذا يدهشك جهلهم الشديد وهم من مدعى الوعى والثقافة ويدهشك أكثر مرآهم فى الجدال والإنكار. ومع الوقت لم تعد هذه النماذج تزعجنى، ولم أعد أهتم أن أدخل فى حوارات جدلية معها إلا من اضطرنى لهذا مستلهما فيهم آيات الله سبحانه الغنى عن خلقه وهم الفقراء إليه، مستحضرا قوله سبحانه الذى خاطب فيه رسوله صلى الله عليه وسلم فأرسى قاعدة الإيمان «إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء»، ولم أعد أشعر تجاه هؤلاء بالبغض بل كنت أشعر بالرثاء والإشفاق، فهم فى رأيى مرضى أو فى حكم المرضى حين لمست ضعفهم النفسى إلى حد العبودية وعلة الكبر والبطر التى أفسدت أنفسهم وانغماس بعضهم فى الشهوات وكأنهم مسلوبو الإرادة رغم ادعائهم الظاهر للقوة، ورأيتهم يصدق فيهم كلام الراحل د.مصطفى محمود أن الواحد منهم عندما ينكر بعض حقائق الغيب المتعلقة بالدين لا ينكرها من منطلق عدم معقولية حدوثها، ولكن من منطلق الكبرياء، فالكافر بالدين لا يتصور أن أحدا أحسن منه، أو أن أحدا متفوق عليه، وأن يصعد إنسان إلى القمر أو أطراف المجرة بالصاروخ فهذا شىء مصدق، أما أن شخصا كلم الملائكة واستمع إلى الرب.. هذا ما لا يطيقه، والكفر هنا ليس نابعا من عدم التصديق أو عدم معقولية هذا حتى فى نظر الكافر بالأديان الذى يصدق بوجود مهندس للكون ولكن.. لأن اعترافه بالدين سوف يترتب عليه تكاليف والتزامات وهو لا يريد أن يترأس عليه أحد، ولا يريد أن يتصور أنه سوف يحاسب أمام أى كائن حتى ولو كان الله، الكفر بالدين هنا سببه الكبر والعناد أو أن يقول أحد للكافر قف هنا عند حدك. ومرة ناقشنى واحد من هؤلاء منكرا إمكانية أن الرسول صلى الله عليه وسلم صعد إلى السماء فى رحلة المعراج فجاوبته أن الله الذى خلقك معجزة من أخمص قدمك حتى شعر رأسك هو الذى وضع القوانين وهو قادر على أن يعدل فيها.. أترى هذه البديهية البسيطة كانت غائبة عنه؟ ولكن الحقيقة أن اللا شعور أزاح هذه الحقائق البسيطة إلى الغرف المظلمة فى عقله لأنه يريد أن ينساها. (2) ويمكن أن يصدق هذا الإنكار وهذا العند على النساء اللاتى صرن نراهن عاريا أو شبه عاريات منخرطات أو معتنقات لحركات «الفيمن» أو من على شاكلتهن ممن يدعين الحرية ويرتكبن الجرائم باسمها، دون أن تسأل واحدة منهن ما شأن الحرية بتعرية الصدور أو كشف العورات وأتصور أن الرد هو ما صرنا نسمعه من مثل هؤلاء حين يقلن هذا جسدى وأنا حرة فيه، فإذا وجه لها أحد النصح أو نبهها أنها بأفعالها تنشر الفاحشة والرذيلة بين الناس تأخذها العزة بالإثم وتصر على الخطأ وربما تزيد عليه وهى جاهلة غير مدركة أن هذا الجسد الذى تتيه به على الناس وجمالها الذى تعبده ليس ملكا لها ولا هى حرة التصرف فيه، لقد غفلت عمدا عن إدراك أنها وجسدها وبعضها وكلها ملك لله يتصرف فيها كيف يشاء وأنها بفعلها تتفلت من الإيمان الذى أولى درجاته التسليم بالعبودية لله، والإنسان فى هذا الكون عبد لله وسيد على باقى المخلوقات وهذه السيادة هى وكالة ممنوحة من الخالق وهى استخلاف والخلافة لها شروط لأدائها وليست مطلقة، والإيمان على هذا النحو هو مشيئة من الله تقابلها إرادة التسليم من الإنسان. (3) والله سبحانه وتعالى فى كتبه المقدسة كلم الإنسان بأمثال تراعى وتكافىء محدودية حواسه وقدرة عقله، فى قصة الخلق مثلا جاءت هذه الأمثال بسيطة ومباشرة، وفى الأحاديث المتواترة عن الجنة وأوصافها التى تنتهى إلى استحالة خيال الإنسان مقارنة بالحقيقة «مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» لذلك دعونا نتصور هذا المثال أن الآلات تخرج من المصنع وقد أرفق بها الصانع كتالوج حتى يستطيع من يستخدمها أن يحصل منها على أكبر فائدة ويحافظ على صلاحيتها فى نفس الوقت، فهل يمكن أن يأتى بنا الله إلى هذه الحياة دون أن يزودنا بهذا الكتالوج؟! لقد أرسل الله سبحانه للإنسان الدين «كتالوج» للحياة التى صنعها وصنع الإنسان جزءا منها فتبارك الله أحسن الصانعين، وأراد سبحانه أن يعود الإنسان لهذا الكتالوج ويتبع وصاياه وخطواته حتى يحصل من رحلته الدنيوية على أكبر فائدة وسعادة ويصل إلى مبتغى الله له فى الآخرة دار الاستقرار والحق والبقاء السرمدى. (4) وعلى قدر ما فى الدنيا من سعادة أو نعيم إلا أنها ليست خالصة أو دائمة لأن الله يستردها ليس سلبا فهو الذى أعطى وهو الذى أخذ، وما الحياة الدنيا إلا ابتلاء، بمعنى الاختبار.. هذا هو القصد من الخلق، وإرسال الرسل والرسالات من أديان الله وليس اختراعات شياطين الإنس والجن، رسالات الله ترشد وتعين الإنسان أن يعرف الله ويعبده باختياره: «فمَن شَاءَ فَليؤمن وَمَن شَاءَ فَليَكفر» والإيمان كل لا يتجزأ وبناء له أركان ستة هى فى رسالة الإسلام: الإيمان بالله وملائكته وكتب ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.. ولا يصح أن نجتزئ ركنا من الإيمان فنأخذ به ونهمل أو ننكر آخر! هذا هو الدين بكلياته التى تتماس مع الحياة وتنظمها فلا تصدق أن الدين منفصل عن الحياة فأكلك دين وشربك دين ولبسك دين وتعاملاتك المالية دين وتعاملاتك مع الناس دين، أما إذا أردت أن تأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وتشرب الخمر وتخلع ملابسك وتظهر على الناس عاريا (لا تنس أن هناك شواطئ للعراة) وتأكل حقوق الناس فأنت حر وعليك أن تتحمل نتائج ما تفعل. وأن يأتى شخص ويقول لك هذه أخلاق إنسانية أو علمانية أو ليبرالية قل الإسلام سابق على كل هذا وأكثر تنظيما له وأكثر حكمة لأنه من عند الله الأصل الأول والأخير، فلماذا أترك الأصل وأذهب إلى الاختراع البشرى وفرق كبير بين الخلق والاختراع. وأن يقول لك أحد إن العلمانية من العلم قل له بل هى من العالم وأقطابها ما أرادوا من اختراعها إلا فصل العالم عن الآخرة واختراع عالم على هواهم يظنون أنهم يمكن أن يسيطروا عليه وعلى مقدراته عندما يبعدون الإنسان عن تعاليم الله ويخضعونه لشهواته الحياتية فقط وإقناعه أن الأديان فى خصومة مع الحياة، ولا تصدقهم حين يقولون بل يجب فصل الدين عن الدولة والسياسة لأن كليهما يفسد الآخر، ونقول لهم إن هذا يمكن أن يحدث إذا كان أحد طرفى المعادلة فاسد إما الدين أو السياسة.. الدين أو الدولة، فانظر أنت واحكم بنفسك.