على قمر النايل سات وحده أكثر من 800 قناة فضائية.. منها على الأقل توصيفها عربى وإن اختلفت التوجهات والتخصصات.. بين المنوعات والأخبار والشات والكليبات والأفلام والمسلسلات والعقارات والتسويق وتفسير الأحلام والدين والسياحة والأطفال والعلوم والرياضة والأزياء والمكياج والطبيخ والرقص وبقدر ما كنا ومازلنا نأمل لهذه الفضائيات أن تكون وسيلة للتقارب والتواصل.. إلا أن شياطين الإعلام لم يتركوا الفرصة لكى تمر من بين أناملهم وأيديهم.. لكى يبسطوا نفوذهم على بعض هذه القنوات إما بالشكل المباشر «الحرة وأخواتها» أو بالتوغل غير المباشر عن طريق البرامج المستنسخة أمثال «ستار أكاديمى».. وأمثاله. عرفوا أن الدنيا الآن تعيش عصر الصورة.. وأدركت أمريكا مبكرًا هذا وسلطت علينا أثناء حرب الخليج الأولى ال (C.N.N) لكى تنقل وقائع الحرب مباشرة بالصوت والصورة من الميدان على غرار مباريات كرة القدم.. ثم بدأت تتوغل.. وتتلون وتتقرب.. وهى تدرك أن الشريط الدرامى والصورة أشد قوة من القنابل.. والدليل أن الناس على قدر ما سمعت وقرأت عن أحوال هيروشيما.. لم تستوعب المصيبة إلا بالصورة فى الفيلم الروائى الوثائقى، وبينما الأمة العربية مشغولة بإنتاج أغانى الحصان والروف والعنب والمانجو.. كانت أمريكا تقدم الأعمال الفنية الضخمة التى تكشف آخر ما تبقى لأمتنا من أوراق التوت، وتضغط بقوة الدراما على مواطن الضعف.. والإحباط.. والانقسام.. والعورة. الأبالسة لم يكتفوا بالاحتلال العسكرى المباشر.. ولا الضغط السياسى المباشر، والتلويح والتصريح بأوراق الحصار والتجويع، لكنها راحت تمارس لعبة الاستحواذ الإعلامى إلى أقصى درجة. وفى الذاكرة ذلك المشهد يلخص كل هذا ويجسده تماما، فقبل لحظات قليلة من الغزو الأمريكى للعراق 2003 نقلت الأقمار الصناعية من حديقة البيت الأبيض صورة للرئيس الأمريكى بوش يداعب كلبه وقطته.. فى لحظة استرخاء ودلع.. لا تتسق نهائيًا مع العالم الذى كان ينتظر ويعد تنازليا لهجوم أمريكى كاسح بعد سلسلة من المناوشات والجدل والمناورات مع العراق وحولها، وبسيناريو هابط وركيك عن أسلحة دمار شامل.. بينما كثفت أمريكا جهدها الإعلامى ورصدت الملايين لتقديم صورتها القوية الوحيدة.. تتجه الأموال العربية إلى فضائيات «هز الوسط» والتنجيم والفتاوى عن كحل العين والحاجب.. وبرامج تمزيق ما تبقى لهذه الأمة من أواصر.. بمنافسات سطحية حول أفضل مطرب وراقصة.. ويخسر العرب وتفوز الفضائيات وشركات الاتصالات.. والانحلال. الفضائيات تدفع لكى يصبح المواطن العربى أكثر عزلة عن واقعه وعالمه الخناجر المسمومة.. المزروعة فى لحمه.. إلا لحظات قليلة تحاول أن تكشف المستور وتخاطب العقل. مليارات تضيع فى فراغ لأجل فراغ الفضائيات ورغم أن الإنتاج الدرامى يصل سنويًا على المستوى العربى إلى ما يزيد على 150 مسلسلا من الخليج والشام ومصر والمغرب العربى.. إلا أن كارثة هذه الدراما أنها منتهية الصلاحية هدفها الأعظم المساهمة فى المزيد من تغييب العقل.. إذا كان الشعر فيما مضى هو ديوان العرب، ثم احتلت الرواية فى عصر محمد حسين هيكل ثم محمد فريد أبو حديد ونجيب محفوظ مكانة الشعر.. والآن برغم أنف الجميع أو بكامل رضاهم.. يحتل المسلسل التليفزيونى الصدارة.. ولكنه مايزال يبحث عن مشروع عربى عالمى.. يبحث عن صيغة تخاطب العرب جميعًا.. بعيدًا عن الدراما الضيقة للزواج والطلاق والدسائس العائلية.. والشر الاجتماعىالمحدود.. فى ظل وجود شر عالمى أمريكى صهيونى يحتاج إلى عشرات المسلسلات، فهل ينجح المسلسل العربى فى شغل الفراغ السياسى عند الشباب وربات البيوت ويتحول إلى مشروع عربى يخاطب به العرب أنفسهم، ثم يخاطبون من خلاله آخر من يتربص بهم وينظر إليهم نظرة دونية ظالمة.. لهذا حديث آخر. *** اسأل نفسك من الذى ينفق هذه الملايين لكى تتحول البنات إلى مدخنات مخمورات منحرفات، والشباب إلى أشباه رجال بتلك الذيول التى تزين رؤوسهم ويتنافسون فيها.. وهذه الأعمال الدرامية التى تقصد عامدة متعمدة إلى المخدرات والخيانة واللصوصية.. على حساب توازنات لابد منها عن الشرفاء والنبلاء والعظماء والأبطال ومن أحوجنا جميعا إلى هذا النماذج. من هو ابن الشيطان الذى ينفق الملايين لكى تشيع الفاحشة، ويصبح الزنا حبًا، له أغانٍ.. وتكون السرقة فهلوة ودردحة.. وتكون الصياعة والبلطجة قوة وهيبة. انظر إلى الإعلانات التى تقدمها قنوات الرقص.. إنها تشبهه وهى تتكلم عن الفحولة والقوة بأساليب أقل ما توصف بها إنها داعرة.. تخدش الحياء.. ويكفى أن يسأل الطفل البرئ أمه وهو قابع أمام الشاشة عن «الانتصاب» مثلا؟ وانظر إلى هذا الطوفان التركى العاصف الذى اقتحم بيوت وعقول العرب.. بدأ بالانبهار بالأشخاص والأماكن وتحول مؤخرًا إلى المحارم ومشاهد الفراش الصريحة.. والقنوات العربية تذيع لأنها مادة تحقق لها ربحا.. إنه نفس منطق التجارة بالأجساد. والأهم من هذا أين نحن كعرب بما يتم إنفاقه على الفضائيات من هذا العالم الذى يطاردنا بالصينى والكورى والانجليزى والأمريكى والفرنسى والفارسى والتركى والهندى.. كيف نصل إلى هؤلاء مثلما وصلوا إلينا فى عقر دارنا.. كيف نعلن أنفسنا، ونحن فى أنظار العالم فئة إرهابية جاهلة تعيش على ما يتجه الغير ولا تتفوق إلا فى «الهيافة» والسطحية والاستهلاك، ماذا يفعل قمرنا الصناعى المسكين والشياطين تطارده من الداخل والخارج.. ابتداء من CNN إلى قناة «التوك توك».. ومن حريم السلطان.. إلى أسرع وسيلة للإنجاب عن طريق «البلاى ستيشن»!