بدأ العد التنازلى لضرب شمال مالى، فإعلان دولة الأزواد فى ابريل الماضى حمل رسالة تهديد واضحة لاستقرار دول الساحل الشمالى وشمال أفريقيا كما وجه رسالة قوية بوجود بؤرة للإرهاب فى أفريقيا لا تقل خطورة عن أفغانستان وكان مجلس الأمن قد منح مهلة ل «المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا» فى 12 أكتوبر الماضى وتنتهى بنهاية نوفمبر الحالى لتقديم خطة مفصلة عن تدخل عسكرى لاستعادة شمال مالى من سيطرة المجموعات التى توصف بالإرهابية. وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية قد قامت بزيارة خاطفة للجزائر يوم الاثنين الماضى والتقت خلالها بالرئيس الجزائرى عبد العزيز بو تفليقة وبحثت معه مشاركة الجزائر ميدانيا فى الحرب الجارى التحضير لها عن طريق توفير تغطية جوية انطلاقا من القواعد العسكرية الموجودة فى الصحراء الغربية من الحدود مع مالى، وقد تحفز المسئولون الجزائريون علىللمشاركة الميدانية وفى المقابل تعهدوا بتقديم تسهيلات للقوة الأفريقية التى ينتظر أن تدخل فى مواجهة مع تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى وحركة التوحيد والجهاد فى غرب أفريقيا واستبعد الجزائريون تماما من مشاركة على الأرض فى الحرب القادمة التى ينتظر ان تدور رحاها فى صحراء شاسعة وضد جماعات مسلحة تخوض حرب عصابات وتملك صلات قوية مع قبائل الطوارق. ويؤكد المراقبون على أهمية الدور الجزائرى فى هذه الحرب باعتبار أن الجزائر هى أقوى دول الساحل وأصبحت بالتالى شريكا أساسيا فى مواجهة تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى. وذكر المسئولون الأمريكيون أنهم سيكتفون بتقديم دعم لوجستى واستخباراتى للقوة العسكرية التى يفترض أن تتألف من ثلاثة آلاف جندى ينتمون إلى دول غرب أفريقيا. الموقف الجزائرى لخصه الرئيس بوتفليقة بقوله إن الوضع فى شمال مالى أكثر تعقيدا مما يتصوره البعض ومن المقرر أن يشارك عسكريون جزائريون مع نظرائهم من غرب أفريقيا الأسبوع الحالى لتحديد طريقة التعامل مع الوضع فى شمال مالى وتستضيف الجزائر قيادات عسكرية واستخباراتية لجيوش دول منطقة الساحل فى «تمزاست» وقد بحث الوفد الأمريكى فى إمكان أن تتولى قيادة تمزاست قيادة العمليات ضد القاعدة فى شمال مالى. الجغرافيا والتاريخ ولا شك فى أن انفصال شمال مالى هو تطور يحمل نذر تهديد لمنطقة شمال أفريقيا ودول الساحل الأفريقى وتبلغ مساحة مالى مليوناً وربع المليون كيلومتر تقريبا ونهر النيجر يفصل شمال مالى المعروف بالأزواد عن جنوبها. ورغم أن إقليم الأزواد يمثل ما يقارب ثلثى مساحة الدولة فان عدد سكانه يقارب فقط 1.5مليون نسمه من قبائل الطوارق فى حين يتركز باقى سكان مالى وعددهم 13مليونا فى الثلث الجنوبى لمالى ومعظم السكان من المزارعين وقد أدت الجغرافيا إلى نشوء وضعين سياسيين : أقلية من الرعاة فى الشمال الصحراوى وغالبية السكان فى الجنوب تعيش كمزارعين على الأمطار وقد نشأت مطالب انفصالية للطوارق قديمة ترجع لعام 1833عندما أصبحت مالى مستعمرة فرنسية وحصلت مالى على الاستقرار فى سبتمبر 1960 ويتوزع الطوارق بين مالى والنيجر وبوركينافاسو وليبيا والجزائر، وفى يناير الماضى توافدآلاف الطوارق الذين كانوا جنودا فى نظام القذافى محملين بأسلحة متطورة وبدأ التمرد بتطويق وإسقاط قاعدة «يتساليت الجوية» وبعد السيطرة عليها توالى هجوم الطوارق وجماعة أنصار الدين بقيادة إياد غالى مدعومين بتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب وسقطت جميع الحاميات النظامية للجيش المالى وفى السادس من ابريل الماضى رفعت الحركة الوطنية لتحرير الأزواد العلم الخاص بدولتهم معتبرين أن إقليم الأزواد قد انفصل عن شمال مالى. وبذلك يسيطر على الأوضاع فى شمال مالى ثلاثة فصائل «الحركة الوطنية لتحرير الأزواد « و»جماعة أنصار الدين» و»تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى، ورغم تعاون هذه الفصائل فان لكل فصيل توجهاته وأهدافه فبالنسبة للحركة الوطنية لتحرير الأزواد فلاشك أن مؤشرات ظهور البترول قد دفعتهم لإعلان الاستقلال فقد بدأ ظهور البترول فى شمال مالى وتنقب فى هذه المنطقة شركات عالمية مثل «توتال» الفرنسية و»إيني» الإيطالية و «سوناتراك» الجزائرية، وعندما يتدفق البترول سيتم نقله بأنابيب عبر الجزائر لأن مالى دولة داخلية لا تطل على بحار. من جانب آخر تؤيد باريس حق الطوارق فى نوع من الحكم الذاتى ولكن بدون انفصال كل ذلك جعل حركة تحرير الازواد تطالب بالانفصال لان معالم دولتهم بدأت تتبلور مع ظهور البترول أما جماعة «أنصار الدين» فتعود قوتها إلى زعيمها إياد غالى وهو من زعماء الطوارق التاريخيين وقاد التمرد الكبير للطوارق عام1990 وكان قنصلا لمالى فى السعودية من عام2007 حتى2010 حينما طلبت منه السلطات السعودية المغادرة لثبوت علاقته بتنظيم القاعدة وهو مفاوض موثوق به فى الأزمات عند اختطاف رهائن غربيين فهو الذى يتفاوض مع تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب، إياد غالى يرفض الانفصال لأن هدفه إقامة الشريعة ودولة إسلامية فى كل مالى أما تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى فوجوده فى شمال مالى يمكنه من تحقيق هدفه الرئيسى وهو محاربة الغرب باعتباره عدوا استراتيجيا لذا فضل أن يتمركز فى الصحراء والسواحل فى ليبيا وشمال مالى والصحراء الغربية فى ظهير المغرب وعلى طول الحدود المالية مع موريتانيا. نجاح جزائرى ويأتى موقف الجزائر من انفصال شمال مالى فى إطار إدارة الجزائر سياسيا وأمنيا لملف الإرهاب وقد نجحت سياسة الجزائر فى مواجهة الإرهاب فى منطقة الساحل إلى حد كبير وقد اعتمدت على مسارين نتناولهما بالتفصيل:أولهما الاحتواء بأن تتبنى الجزائر فى هذا المسار عدة محاور أولها الاشتباك الأمنى المباشر مع عناصر الإرهاب وذلك على الأراضى الجزائرية أو زرع عناصر مخابراتية فى صفوف تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى وذلك لإمكانية السيطرة على تحركات هذا التنظيم وإمكانية ترويض قياداته، المحور الثالث هو التعامل مع تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى بشكل أيديولوجى بهدف منع استفزاز هذا التنظيم تحقيقا للاستقرار الداخلى وذلك بمنع فتح المجال الجوى الجزائرى أمام الطائرات الأمريكية بدون طيار التى من الممكن أن تتصيد بمهارة عالية تجمعات هذا التنظيم وهذا يدخل الجزائر فى المستنقع الأفغانى كما عارضت الجزائر وجود «أفريكوم» على أراضيها ورفضت الجزائر الاشتراك مع فرنسا فى عمليات عسكرية كل ذلك لان تنظيم القاعدة يرى أن الغرب هو عدوه الاستراتيجى. المسار الثانى هو إبعاد الخصم وهذا هو منطلق موقف الجزائر من انفصال شمال مالى فالجزائر ترفض رسميا انفصال شمال مالى لكيلا تبدو دبلوماسيا ودوليا أنها تعارض المجتمع الدولى ولكن هذا الرفض هو دهاء سياسى فى حد ذاته إذا أن منع قيام دوله مستقلة فى شمالى مالى يزيد من النفوذ الإقليمى والدولى للجزائر وفى نفس الوقت تدفع الجزائر تنظيم القاعدة فى المغرب الإسلامى إلى خارج حدورها فالجزائر لن تترك تنظيم القاعدة ينفرد بشمال مالى لأن الطوارق قوة عسكرية موالية تماما للجزائر وتقديرهم كبير للرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة. هذا التوازن بين قوتين: احداهما موالية تماما للجزائر وهم الطوارق وأخرى مخترقة من أجهزة مخابراتها يمكن الجزائر من تحقيق هدفين الهدف الأول هو استقرار الاستثمارات البترولية فى شمال مالى للشركة الوطنية الجزائرية سونا تراك أما الهدف الآخر فيتمثل فى اكتساب822الف كيلو متر مربع عمقا استراتيجيا لدولة الجزائر يدير هذا العمق الاستراتيجى الجديد المؤسسة العسكرية الجزائرية؛ ودوائر أمنها القومى مما يجعل الجزائر قوة إقليمية على مستوى المغرب العربى والساحل وإفريقيا ككل.