بات مؤكداً أن التيار الدينى سوف يستحوذ على الأغلبية البرلمانية الكبيرة والمريحة وبما يقترب من ثلثى مقاعد مجلس الشعب الجديد ولأول مرة فى تاريخ الحياة النيابية فى مصر، إذ إن هذا الفوز الساحق الذى أحرزه حزب الحرية والعدالة.. الجناح السياسى لجماعة الإخوان المسلمين وحزب النور السلفى فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية التى أعلنت نتائجها يوم الأربعاء الماضى.. هذا الفوز الساحق بدا مؤشراً واضحاً وقوياً على تكراره فى المرحلتين الثانية والثالثة. ورغم أن هذه النتيجة لم تكن مفاجئة لمن يقرأ المشهد الانتخابى جيداً.. سياسياً واجتماعياً واقتصادياً خاصة فى الأسابيع الأخيرة التى سبقت إجراء الانتخابات، إلا أن تحققها واقعيا جاء مخيباً لآمال شباب الثورة ومفاجئاً للنخب السياسية التى تمارس التنظير فى أبراجها العالية العاجية.. منعزلة عن حركة وحراك المجتمع، بقدر ما جاء صادماً للمفكرين والمثقفين رغم استشعارهم المسبق لهذه النتيجة. وفى نفس الوقت فقد أثار اكتساح التيار الدينى لانتخابات المرحلة الأولى وأشاع أجواء الإحباط داخل صفوف الأحزاب السياسية على اختلاف توجهاتها وكما تبدّى فى رد فعلها إزاء نتيجة هذه المرحلة والتى تشىّ بما سوف تسفر عنه انتخابات المرحلتين الثانية والثالثة، وهو رد فعل يعكس فى واقع الأمر قصوراً شديداً فى الرؤية السياسية لديها وعلى النحو الذى حال بينها وبين توقّع النتيجة. أما وقد وقعت الواقعة، فلا مفر وفقاً لمقتضيات الديمقراطية من قبول النتيجة والتسليم بخيار غالبية الناخبين فى انتخابات حُرة ونزيهة ودون تدخل أو تزوير، رغم ما شابها فى بعض الدوائر واللجان من أخطاء فنية وإدارية واستخدام الرشاوى المالية فى شراء الأصوات ومخالفات قانونية فى الدعاية الانتخابية داخل اللجان والضغط والتأثير على الناخبين من البسطاء ومعدومى الخبرة فى كيفية الإدلاء بالصوت الانتخابى ودفعهم للتصويت لصالح مرشحى التيار الدينى وقوائمه. غير أنه تبقى لهذه الانتخابات ونتائجها دلالات مهمة يتعيّن التوقف أمامها ملياً.. أولها.. ومع الإقرار بأن الصندوق الانتخابى لا يزال الآلية الوحيدة المتاحة لتطبيق الديمقراطية؛ فإن الديمقراطية ليست فقط صناديق الانتخابات فى كثير من الحالات ومن بينها الحالة المصرية الراهنة حتى مع نزاهة العملية الانتخابية، باعتبار أن الصناديق لا تعكس ولا تعبّر بالضرورة عن الإرادة الحُرة الحقيقية والواعية لكل الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم إذ تتدخل عوامل كثيرة ومختلفة فى توجيه الصوت الانتخابى، مع ملاحظة أن نسبة كبيرة من المواطنين حتى فى الدول ذات التراث الديمقراطى والثقافة الانتخابية.. تحجم عن التوجه لممارسة الحق الانتخابى. ثم إن تحقيق الديمقراطية وعلى النحو الذى تستهدفه فلسفة هذه النظرية السياسية كنظام للحكم يقيم العدالة السياسية.. يتطلب بالضرورة توافر العديد من الاشتراطات والضمانات.. أهمها: المناخ السياسى الصحى ورسوخ الوعى الوطنى وشيوع الثقافة السياسية ونظام تعليمى جيد وخطاب دينى معتدل مستنير وسيادة القانون إلى جانب أوضاع اقتصادية تضمن الحد الأدنى اللائق بحياة كريمة لعموم المواطنين تتحقق معها العدالة الاجتماعية.. الجناح الثانى للديمقراطية. وفى نفس الوقت فإنه لا ديمقراطية حقيقية فى غيبة أحزاب سياسية قوية وفاعلة ومتواصلة مع الجماهير وقضايا المجتمع، ولديها برامجها وخططها التى تمثل رؤيتها لإحداث التطوير والنهضة، وبحيث تمارس العمل السياسى والحزبى فى أجواء تنافس حُر يضمن تداول السلطة بينها، وبما يحول دون احتكار حزب واحد بعينه السلطة مثلما يحدث فى الأنظمة الشمولية والديكتاتورية بينما تظل بقية الأحزاب نوعا من «الديكور» السياسى كما كان الوضع فى مصر قبل ثورة 25 يناير وطوال أكثر من ستين سنة. إن الانتخابات البرلمانية تجرى فى غيبة مناخ سياسى صحى ووسط حالة من السيولة والضبابية السياسية والالتباس الوطنى.. تشهدها مصر من بعد الثورة التى فتحت أبواب الحرية على مصاريعها أمام انفراجة سياسية وطنية غير مسبوقة وحراك سياسى وطنى مفاجئ.. بدا عنيفا ومضطربا، إذ إنه يأتى بعد ثلاثين سنة من ممارسات النظام السابق القمعية والاستبدادية واحتكار حزبه المنحل للحكومة والبرلمان عبر انتخابات مزورة، وإذ يأتى أيضاً بعد ستين عاما من غيبة الحياة الحزبية والحريات العامة، حتى بعد أن أعادها الرئيس السادات فقد ظلت ديكوراً ديمقراطياً. ثم إن هذه الانتخابات تجرى وقد تجمدت أحزاب المعارضة الرئيسية فى النظام السابق وفى مقدمتها حزب الوفد، وتكلست وتقلصت حركتها وانعزلت عن الجماهير بفعل التضييق الذى ظل النظام السابق يمارسه عليها، وفى نفس الوقت فإن الأحزاب الناشئة الجديدة حديثة العهد بالعمل السياسى لم تستطع بفعل ضيق الوقت التواصل مع الجماهير من خلال قياداتها وبرامجها، وحيث جاء خطاب الليبرالية منها نخبويا لم يصل مضمونه إلى غالبية الناخبين، بينما يفتقد شباب الثورة القدرة المالية للتعريف ببرامجها. لتلك الأسباب مضافا إليها غيبة الوعى الانتخابى لدى غالبية الناخبين الذين ظلوا عازفين طوال عقود متتالية عن ممارسة الحق والواجب الانتخابى فى ضوء ممارسات تزوير الانتخابات، ومع غيبة الوعى السياسى ومع تردى الأوضاع الاقتصادية وغيبة العدالة الاجتماعية وأيضا مع ضعف الثقافة الدينية لدى البسطاء والفقراء وغيرهم من كثير من المتعلمين، فإنه لم يكن ممكنا للأحزاب والقوى والتيارات السياسية المدنية على اختلافها أن تحرز نصراً كبيراً فى هذه الانتخابات فى مواجهة الإسلاميين. وفى المقابل فقد كان حضور التيار الدينى متمثلاً فى جماعة الإخوان والجماعة السلفية.. حضوراً طاغياً متصدراً المشهد السياسى الانتخابى على هذا النحو من الفوز الكاسح الذى أسفرت عنه انتخابات المرحلة الأولى وعلى نحو ما سوف تسفر عنه انتخابات المرحلتين.. الثانية والثالثة. وبينما كان التصويت لصالح «الإخوان» فى انتخابات برلمان (2005) تصويتا احتجاجياً ضد النظام السابق وأسفر عن فوزهم بخُمس مقاعد البرلمان رغم التزوير.. أو هكذا تم تفسير نتيجة الانتخابات فى ذلك الوقت، فقد بدا التصويت هذه المرة لصالح الإخوان ومعهم التيار السلفى الصاعد بقوة فى المشهد السياسى.. اختياراً مقصوداً وهو الأمر الذى يعكس تغيّراً كبيراً وحاداً فى المزاج السياسى لدى غالبية الناخبين، ورغم أن هذا التغيّر.. معلومة دوافعه ومبرراته، إلا أنه يبقى أمراً بالغ الخطورة ومثيراً للمخاوف والتوجسات بشأن مستقبل هذا الوطن. *** إن استحواذ «الإخوان» والسلفيين على أغلبية مقاعد البرلمان بما له من صلاحيات وسلطات فى الرقابة وتشريع القوانين سوف يكون بداية لصراع واضطراب سياسى وطنى بينما كنا نتطلع إلى أن يكون انتخاب البرلمان بداية للاستقرار واستعادة الأمن وإنقاذ الاقتصاد الذى يوشك على الانهيار ومن ثم بداية عهد جديد من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية فى دولة مدنية لا سلطان فيها إلا للقانون. إن أول هذه التوجسات تتعلق بمدنية الدولة التى تحظى بتوافق كافة النخب والتيارات والأحزاب والقوى السياسية، والتى ستكون مثار صراع سياسى عنيف مع «الإخوان» والسلفيين بوصفهم أصحاب الأغلبية البرلمانية التى سوف تسعى بكل تأكيد للتوجه نحو تأسيس دولة دينية وسحق مدنية الدولة المصرية، وسوف يبدأ الصراع قريبا عند وضع الدستور الجديد ولجنة صياغته. ومع أن جماعة الإخوان بدهائها المعهود وباحترافية سياسية أرجأت الإفصاح عن حقيقة نياتها وتوجهاتها المستقبلية بل لجأت عبر خطاب سياسى معتدل إلى بث تطمينات للقوى السياسية وحسبما جاء مؤخراً على لسان الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة من أن الجماعة وحزبها لا يشاركان التيار السلفى تطلعاته بفرض صارم للشريعة الإسلامية على الحياة الشخصية للمصريين. إلا أن الخطاب السياسى للتيار السلفى بدا شديد الحدة والغلظة والانغلاق واتسم بالتطرف المفرط والتهديد والوعيد بحكم البلاد والعباد وفقاً لحرفية النصوص دون مراعاة لتطورات العصر وفى إغفال وتجاهل بل جهل بسماحة ووسطية واعتدال الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان مع الاجتهاد فى مراعاة مقتضى أحوال كل زمان ومكان ودون انتهاك أو تدخل فى حريات الناس الشخصية. *** إن ثورة 25 يناير لم تسقط نظام مبارك المدنى الاستبدادى لتقيم مكانه نظام حكم دينى استبدادى باسم الدين. *** إن التجارب الإقليمية حولنا تؤكد أن التيارات الدينية إذا دخلت البرلمان وحكمت بلدا أفسدته وأشاعت فيه القلاقل والاضطرابات وفرضت عليه التخلف وجعلته عرضة للتدخلات الخارجية وتمزيق الأوطان.. أفغانستان والصومال والسودان.. نموذجاً ودليلاً.