بأقلام تلاميذه هذه السطور سطرها تلاميذ أنيس منصور بقلوبهم وليس بأقلامهم يروون فيها لحظات مع وعن المعلم الأول الذى خطوا الخطوة الأولى فى عالم صاحبة الجلالة بين يديه الموت علينا حق.. «والبقية فى حياتى».. والأخير عنوان كتاب لأستاذى أنيس منصور.. الذى كان أستاذًا متميزًا فى فن كتابة العناوين التى تغنيك عن قراءات كثيرة لو درست معانيها.. ولا أنسى يوم خروج الشاه من إيران وعودة الإمام الخومينى وظهر غلاف أكتوبر عليه صورة للشاه وهو يبكى ودمعه تسقط من عينيه وصورة للخومينى وشخص يقّبله.. فكتب الأستاذ تعليقًا مازال فى ذاكرتى.. «دمعة على الخد.. وقبلة على اليد».. ارتباطى بأستاذى أنيس منصور لم يبدأ بعملى معه بمجلة أكتوبر فى السبعينات ولكن علاقتى معه بدأت قبل ذلك بكثير فى الستينات حين كان بأخبار اليوم عن طريق تلميذه النجيب المرحوم عادل البلك -ابن عمى- وعن طريق أبى رحمه الله مسلم البلك الذى كان الأستاذ أنيس يناديه ب «عمى مسلم» تقديرًا له. وعندما قرر الرئيس السادات تخليد نصر أكتوبر.. رأى إصدار جريدة أو مجلة تحمل نفس الاسم؛ ووجد ضالته فى الأستاذ أنيس فهو خير من توكل له هذه المهمة، وحشد لها الأستاذ خيرة أهل الصحافة وكان على رأسهم تلميذه النجيب بأخبار اليوم عادل البلك، واستعان بكتيبة من الشباب الواعد وقتها وهم الآن عُمد المجلة ومنهما اثنان تقلدا منصب رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير الزميلان إسماعيل منتصر ومحسن حسنين. وعند وفاة أبى وقبل أن تظهر نتيجة الليسانس قرر عادل البلك بعد استئذان الأستاذ ضمى لكتيبة أكتوبر.. وقال لى وقتها البلك الكبير: «بقاءك أو خروجك من المجلة مرهون بشخصيتك.. أنا عديتك من الرصيف لباب المجلة». وكان درسا بل الدرس الأول فى حياتى العملية.. ولأستاذى مواقف معى غير عموده اليومى «مواقف» بالأهرام.. فلا أنسى وأنا أحبو على بلاط صاحبة الجلالة ومكتوب بالقلم الرصاص أن جمعنى به لقاء فى حفل عشاء بسفارة تركيا فرأيته هناك واقفًا قامة تعلو كل من حوله، فتقدمت منه على استحياء ومددت يدى للسلام عليه وزادت ضربات قلبى عندما اقتربت منه وتبددت مخاوفى مع ابتسامته الودود وضحكته الاثيرة إلى القلب وهو يقول لى: أهلاً يابلك.. ويقدمنى لمن معه قائلا: «زميلى الأستاذ أحمد البلك بمجلة أكتوبر». ولم ينس أن يسألنى: هل أكلت؟.. هل شربت؟ تمتع بوقتك. وأتذكر أنه فى فجر أحد الأيام ارتكبت خطأ بشعًا؛ كنت أراجع كلام صور باب المجتمع الذى كانت تحرره الزميلة العزيزة القديرة سامية على شكرى، وقد تركنا الزميلان الأستاذان محمد سليم عامر رئيس قسم التصحيح ونائبه محمود عنان،وبقيت مع الأستاذ عبدالحكيم طه لليوم الثانى لنراجع مقالة الأستاذ أنيس الذى كان جالسًا وقتها مع الرئيس السادات فى استراحته بجزيرة الفرسان بالإسماعيلية وكان المتبع أن تأخذ سكرتارية الرئاسة المقالة منا ليقرأها الأستاذ للرئيس لتعديل أو إضافة مايراه السادات وبالمرة يراجع الأستاذ الملزمة الأولى. وشاء قدرى أن يقرأ السادات الملزمةويتصفح أوراقها فإذا به تتسمر عيناه أمام صور المجتمع، فتغير وجهه وضغط على البايب فى فمه حتى كاد يكسره ونظر إلى الأستاذ -كما قال لنا الأستاذ بعد ذلك- إيه ياأنيس هى أكتوبر بتجوز جيهان من ورايا؟! فاندهش الأستاذ وبسرعة أخذ يقرأ كلام الصورة التى كانت تجمع جيهان السادات وسوزان مبارك حرم نائب رئيس الجمهورية وقتها.. كل الحكاية سقوط حرف «الواو» منى عند المراجعة.. فظهر الكلام «جيهان السادات حرم حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية». ولم أدر بوقع المصيبة فأنا حديث عهد بالصحافة وبالتصحيح، فاستشاط الأستاذ غضبا واتصل بالمجلة وطلب وقتها من المرحوم الأستاذ عبدالعزيز صادق مدير التحرير التحفظ على كل من بالمجلة والتحقيق مع المتسبب فى سقوط «الواو» لحين حضوره فى الصباح، وجاء الصباح.. وجاء معه الأستاذ وانعقد مجلس التحرير، وانكشف المستور، وعُرف أننى صاحب الخطأ، وأخذ البعض يكيل لى الاتهامات وبأن المونتاج والمطبعة يشكوان منى ويجب «رفدى» وسحب الأستاذ ورقة ليكتب قرار «الرفد» وطلب أستاذى محمد سليم رئيس القسم لسؤاله عنى فأثنى الرجل علىّ؛ فقال الأستاذ: أنا أعرفه وأعرف والده شخصيًا أكثر منك.. ولكن هل تم تعيين البلك؟ فكانت الإجابة: لا.. فضحك الأستاذ أنيس وقال: يبقى نعينه وبعدين نرفده.. وكان هذا درسا تعلمت منه الانتباه والدقة فى كل شىء. كان الأستاذ قريبًا منا؛ كثيرًا ما كان يأخذنا من عناء العمل إلى مأدبة غداء بأحد الفنادق التى كان مديروها يتبارون فى استضافتنا حبًا وتقديرًا له أو بصالة الاجتماعات بالدور العاشر، يوم كانت هناك صالة اجتماعات تضمنا كأسرة واحدة.