رغم أنى من مدرسة جلال الدين الحمامصى الصحفية بحكم استاذيته لى فى قسم الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة والتى تخرجت فيها ضمن خريجى الدفعة الأولى عام 1975، ورغم أنى وزملاء هذه الدفعة ندين بالفضل لهذا الأستاذ العظيم الذى تعلمنا منه الصحافة.. حرفة ومهنة وحرية وكرامة.. ماجعلنا نتيه فخراً واعتزازاً وثقة بالنفس منذ أولى خطواتنا فى بلاط صاحبة الجلالة.. وحتى الآن. .. إلا أن انتقالى من جريدة الأخبار التى بدأت فيها مسيرة احترافى للمهنة إلى مجلة أكتوبر.. كان التحاقا بمدرسة صحفية جديدة.. افتتحها وأسسها الأستاذ الكبير أنيس منصور، ووجدتنى أجمع بين مدرستين متميزتين فى الصحافة المصرية. ولأن أنيس منصور كان نجما ساطعاً متألقاً فى مدرسة ومؤسسة أخبار اليوم التى أسسها جلال الدين الحمامصى مع الأخوين مصطفى وعلى أمين، ولأن كبار الصحفيين من الجيل السابق انتقلوا من أخبار اليوم إلى أكتوبر، فقد بدت المجلة ومنذ البداية فرعا من تلك المؤسسة والمدرسة الصحفية العريقة، وإن تميزت «أكتوبر» بخصوصيتها التى استمدتها من شخص وشخصية مؤسسها أنيس منصور. *** لم أكن قد عرفت أنيس منصور عن قرب قبل انتقالى إلى «أكتوبر» للعمل معه وتحت رئاسته بترشيح وتزكية من الأستاذة مريم روبين أهم وأكبر صحفية متخصصة فى الشئون العربية والنجمة الساطعة فى أخبار اليوم والتى عملت تحت رئاستها محرراً للشئون العربية فى «الأخبار» بترشيح وتزكية من أستاذى جلال الدين الحمامصى.. رئيس التحرير فى ذلك الوقت. ومع أن الكثيرين من زملائى الصحفيين اعترضوا على قرارى بالانتقال من جريدة الأخبار ومؤسسة أخبار اليوم باعتبارها مؤسسة صحفية عريقة ومستقرة إلى «أكتوبر» المجلة الناشئة الجديدة.. باعتبار هذا الانتقال ذهابا إلى المجهول، إلا أننى كنت سعيداً بهذا الانتقال.. ساعيا إلى هذه النقلة.. رهانا على نجاح هذه التجربة الجديدة بضمان مؤسسها أنيس منصور.. وسعادة غامرة لا توصف بالعمل مع هذا العملاق. *** ولدت مجلة أكتوبر عملاقا صحفيا منذ العدد الأول، وخسر كبار الصحفيين رهانهم على فشل التجربة بينما ربح أنيس منصور رهانه على نجاحها. بل على تميزها حتى صارت وظلت وفى سنواتها الأولى الزاهرة المجلة العربية الأولى، ومازلنا نحن المؤسسين معه نتذكر انتظار المراسلين العرب والأجانب خروج المجلة من المطبعة لكى ينقلوا عنها انفراداتها الإخبارية والسياسية التى ينفرد بها أنيس منصور. وإذا كان أنيس منصور هو المؤسس وصاحب التجربة وله الفضل الأول بل الأوحد فى نجاحها الباهر، فإنه وللتاريخ كان الرئيس الراحل أنور السادات هو صاحب الفكرة وصاحب قرار إصدار المجلة وإسناد مهمة تأسيسها ورئاسة تحريرها للأستاذ أنيس، وهو أيضاً من قدّم لها كل الدعم المادى والمعنوى.. حرصاً على نجاحها ولتكون كما أوضح فى قرار إصدارها.. تخليداً وتمجيداً لحرب أكتوبر المجيدة والنصر العظيم.. وقد كانت. هذه الحقيقة هى ما حرص الأستاذ أنيس منصور على تأكيدها حين دعانا الرئيس السادات.. نحن أسرة مجلة أكتوبر وقد كان أغلب صحفييها من الشباب إلى لقاء معه فى بيته الريفى بقرية ميت أبوالكوم فى أواخر شهر أبريل من عام 1981.. فقد قدمنا إلى السادات قائلاً: «هؤلاء هم أحفادك يا سيادة الرئيس، فهم أبناء إحدى بنات أفكارك.. مجلة «أكتوبر». ومن مفارقات الأقدار أن يجمع شهر أكتوبر بين هؤلاء الثلاثة.. المجلة ومؤسسها وصاحب قرار إصدارها.. بين ميلاد «أكتوبر» ورحيل السادات وأنيس منصور، فقد صدر العدد الأول فى اليوم الأخير من شهر أكتوبر عام 1976، ورحل السادات مغتالاً شهيداً فى يوم السادس من نفس الشهر عام 1981 فى يوم عرسه وذكرى انتصاره، وهاهو ذا أنيس منصور يرحل يوم الحادى والعشرين من أكتوبر وحيث يصدر هذا العدد الخاص من المجلة فى عيد ميلادها الخامس والثلاثين.. اعترافا بفضل وعطاء مؤسسها الذى رحل فى ذكرى ميلادها. *** مستعيراً عنوان كتابه «فى صالون العقاد.. كانت لنا أيام» والذى يعد توثيقاً وتوصيفاً لأهم وأخصب حقبة ثقافية وفكرية وأدبية فى عقدى الخمسينات والستينات، أجدنى أقول إننا فى مجلة أكتوبر التى كانت صالون أنيس منصور الفكرى والأدبى والفلسفى بل الصحفى أيضاً.. كانت لنا أيام.. امتدت لأكثر قليلاً من ثمانى سنوات هى فترة رئاسته للتحرير.. وليتها طالت أكثر. لقد أتاح لنا أنيس منصور بحكم عملنا الصحفى تحت رئاسته للتحرير طوال تلك السنوات.. حضورا يوميا فى صالونه الفكرى والصحفى، وحيث كان يطوّف بنا عبر التاريخ والجغرافيا ويحلّق بنا إلى آفاق واسعة ورحبة من الفكر والأدب والثقافة والفلسفة بحكايات ومواقف لا تنتهى. المثير للدهشة مع ملاحظة أن الدهشة هى بداية وأصل الفلسفة.. المثير للدهشة.. دهشتنا نحن جيل الصحفيين الشباب فى ذلك الوقت من أن أنيس منصور الكاتب والمفكر والأديب والفيلسوف الذى أثار انبهارنا، كان يثير وبنفس القدر انبهارنا بأستاذيته الصحفية وحرفيته المهنية رفيعة المستوى، إذ كيف يجتمع الأدب والثقافة والفكر والفلسفة مع الصحافة بهذه الروعة وبهذا التألق؟! لقد كنا ومازلنا نحن الذين كان من حُسن حظنا ممارسة العمل الصحفى تحت رئاسته مشدوهين مأخوذين بهذا العملاق الذى كان حديثه متدفقا بليغا.. سهلاً ممتنعاً فى نفس الوقت.. حاشدا بأفكار ومعلومات ورؤى.. ألهبت خيالنا ووسّعت آفاق معرفتنا، فكنا كمن يقرأ كتابا جديداً كل يوم وفى كل لقاء معه. أما أغرب ما اكتشفناه فى رحلتنا الصحفية مع أنيس منصور إلى جانب انبهارنا بصياغته الفريدة والرائعة لعناوين المقالات والموضوعات والأخبار، فهى قدرته الفائقة بل ملكته المتفردة عن غيره من كبار الكُتّاب والمفكرين فى أن يتحدث مثلما يكتب تماما.. نفس التدفق.. نفس العبارات الرشيقة التى تنساب فى سلاسة مدهشة.. نفس المفردات المتميزة التى ينحتها نحتا ويشتقها من مفردات اللغة العربية اشتقاقا بليغا، فكان حديثه مقالا ومقاله حديثا! هذا الأسلوب المتفرد وتلك العبارات الرشيقة التى تدفع القارئ لمقالاته ومؤلفاته دفعاً إلى الاستمرار فى القراءة دون ملل أو توقف.. هو التفسير الحقيقى لأنه أكثر الكُتّاب على الإطلاق انتشاراً وأكثر المتحدثين استماعا إليه، ولأن مؤلفاته التى زادت على مائتى كتاب هى الأكثر مبيعا خاصة بين الشباب الذين يمثلون غالبية قرائه، إذ نجح بكتاباته الرشيقة المتفردة فى استمالتهم وعلى غير عادة الشباب إلى القراءة. لقد كانت قراءات أنيس منصور فى كل العلوم والمعارف ونهمه الشديد للقراءة منذ شبابه وحيث حكى أنه فى صيف واحد قرأ كل الكتب الموجودة فى مكتبة المنصورة العامة، وكذلك اطلاعه على مختلف الثقافات والآداب العالمية وتنقله بين النظريات الفلسفية من أرسطو وسقراط حتى عبد الرحمن بدوى وحيث استقر فى مرحلة من مراحل مسيرته الفكرية والفلسفية على «الوجودية».. مضافاً إلى ذلك كله تأثره بأستاذيه العقاد وطه حسين، وحيث كان القرآن الكريم الذى حفظه فى طفولته فى الخلفية دائماً.. كل ذلك كان الخلطة السحرية التى صنعت أنيس منصور.. الأديب والمفكر والفيلسوف والمثقف الموسوعى. وبهذه الخلطة السحرية بدت كتابات أنيس منصور خليطاً رائعاً وإن ظل محتفظا بخصوصيته من العقاد وطه حسين.. متأثرا فى نفس الوقت بالأسلوب القرآنى، بينما لم تغب الفلسفة التى درسها وعشقها ودرّسها وتبدّت حاضرة دائماً فى ثنايا وسطور مؤلفاته ومقالاته، ولذا لم يكن غريبا أن يتفلسف كما كان يقول لنا وهو يكتب أدبا أو يكون أديبا وهو يكتب فى الفلسفة، أما الغريب حقا أن تكون الفلسفة والأدب مدخله إلى الصحافة التى جعلها حرفته، فكانت مكانته الصحفية الرفيعة بقدر مكانته فى الفكر والأدب. *** هذا هو أنيس منصور الذى عرفناه عن قرب واقتربنا منه واقترب منا.. تأثرنا به كثيراً، فقد كان الرمز والمثل الأعلى الذى نعتز به بقدر اعتزازه الخاص بتأسيس «أكتوبر» دون غيرها من الإصدارات الأخرى التى سبق له تأسيسها، باعتبارها مدرسته الصحفية الخاصة وتجربته المهنية شديدة الخصوصية. إننا مازلنا وسنظل نستعيد ذكرياتنا معه فى «أكتوبر» فى عهدها الزاهر تحت رئاسته للتحرير.. وفيها ومعه.. كانت لنا أيام.. هى عزاؤنا فى رحيله بجسده وإن بقى معنا وبيننا بفكره وعطائه وأيضاً بهذه المجلة.