في احتفالية كلية الإعلام الأخيرة التي تم فيها تكريم دفعات 75، 76، 77 فإن التكريم الحقيقي كان للراحل أستاذنا الجليل جلال الدين الحمامصي الذي قام بالتدريس لهذه الدفعات الثلاث فقط وبعدها امتنع عن التدريس بجامعة القاهرة لأسباب سياسية. وقد ذكرنا هذا الاحتفال الذي بذلت فيه الدكتورة ليلي عبدالمجيد عميدة الكلية جهدا كبيرا بالأيام الخوالي التي كنا فيها تلاميذ للاستاذ جلال الحمامصي. ففي هذه الأيام التي كنا فيها نتعلم من الأستاذ كيف يمكن أن تكون هناك صحافة مثالية كانت تطلعاتنا لا حدود لها وثقتنا بأنفسنا ليس لها حدود. فقد تعلمنا من الأستاذ معني وأهمية كلمة الصحفي وكيف يمكن أن تكون الصحافة رسالة وأمانة وليست مهنة أو وظيفة. وكان الأستاذ حريصا علي أن يبث فينا روح الثقة وأن يكون الصحفي دائما مرفوع الرأس معتزا بكرامته، قويا في الحق، شجاعا في المواقف، لا يخاف سلطانا ولا مسئولا مادام مؤمنا بما يفعل، مسلحا بالحقائق والأدلة التي تعزز ما ينشر وتؤكد ما يقول. ولعل أعظم دروس الاستاذ الراحل هو قدرته الطبيعية الهائلة علي أن يحول مجموعة من الطلاب في بداية حياتهم الأكاديمية إلي مجموعة من النجوم منذ بدايةحياتهم العملية. فالذين تخرجوا من هذه الدفعات الثلاث الاولي ذهبوا يواجهون تحديا بالغ الصعوبة عندما اقتحموا خطوط المواجهة وتقدموا للعمل في المؤسسات الصحفية الكبري حيث واجهوا حرسا قديما متمركزا متخوفا في وجه أي تغيير رافضا وكما هي العادة لدماء شابة جديدة متحفزة ومتطلعة للوثوب الي القمة. وكانت المعركة التقليدية بين القديم والجديد في غاية الشراسة أحيانا كثيرة، ولكنها حسمت لصالح الجديد بشكل سريع أمام اصرار القادمين الجدد علي الصمود والثبات وعدم إهدار الفرصة التي حصلوا عليها، وأمام دخول عناصر قيادية مؤثرة إلي الصحافة المصرية منحت الفرصة كاملة لتلاميذ جلال الدين الحمامصي في أن يكون لهم تواجدهم المؤثر والفعال في مسيرة الصحافة. وهنا نذكر بكل التقدير الأستاذ محسن محمد رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير الجمهورية سابقا الذي احتضن بقوة شباب الصحفيين من خريجي كلية الإعلام وصنع معهم وبهم المعجزة في رفع نسبة توزيع جريدة الجمهورية من عدة آلاف نسخة إلي أكثر من نصف مليون نسخة يوميا في قصة نجاح مثيرة تستحق الدراسة والتدريس. فقد فطن محسن محمد إلي المعادلة السرية التي تحقق النجاح وهي أن تكون صحيفة الناس وللناس، اجعل كل مواطن عادي يجد نفسه في الصحيفة وأن تغطي الصحيفة كل اهتماماته واحتياجاته، إلي الحد الذي ذهب معه محسن محمد إلي الاهتمام بأخبار سوق الخضر والفاكهة، حيث خصص مندوبا يرصد حركة السوق والأسعار وينقل للقراء كل جديد مما يدور في هذه الأسواق، ويكون بمثابة الرقابة الشعبية اليومية الواعية والمدافعة عن حقوق البسطاء والعاديين. ومع محسن محمد كان الأستاذ الكبير الراحل موسي صبري رئيس تحرير "الأخبار" الذي منح فرصة هائلة أيضا لأعداد كبيرة من تلاميذ الحمامصي ليلتحقوا بكل أقسام الصحيفة وليكونوا في غضون سنوات قليلة عمودها الفقري الذي حافظ علي طابعها التحريري الخاص كمدرسة صحفية مستقلة تعتمد علي الخبر أكثر من اعتمادها علي الرأي والمقال. وفي سنوات قليلة كان تلاميذ الحمامصي نجوما في شارع الصحافة، ومن أعلامها البارزين، وكانت لهم سماتهم الواضحة وشخصيتهم المستقلة حتي ان البعض كان قادرا علي التمييز بين خريجي كلية الإعلام من تلاميذ الحمامصي وبقية العاملين في بلاط صاحبة الجلالة، فقد كان هناك نوع من الثقة الزائدة والاعتداد بالنفس لدي تلاميذ الأستاذ وصلت إلي حد اعتقاد هذا البعض بأنه نوع من الغرور والتعالي علي الآخرين في حين أنه لم يكن إلا احتراما للذات وترفعا عن الصغائر وسموا فوق الصراعات والنظرة الضيقة والمكاسب الوقتية التي ينشغل بها البعض في المجال الصحفي ويهدر وقته وطاقته فيها، فالصحفي الناجح لا ينظر أبدا للوراء ولا ينشغل بالحديث عن آخرين، ولا يلتفت إلي ما يقوله منافسوه لأن أمامه هدفا أسمي وهو العطاء والابداع واثبات الذات. ولو تحدثنا عن نجوم الصحافة الحاليين من تلاميذ جلال الحامصي فإننا سوف نحتاج إلي أكثر من مقال وأكثر من كتاب، فالعديد منهم أصبح لكل واحد منهم تجربة صحفية مميزة تستحق الرصد والاعجاب أيضا. ولكن القيمة الاساسية في حديثنا عن الاستاذ هي للتذكير والتنويه بأن هذه المهنة أصبحت في أمس الحاجة لجيل آخر من الاساتذة يقدم خبراته عن طبيب خاطر للأجيال القادمة ويبث فيهم روح الأمل ويدفعهم للأمام بخطي واثقة تماما كما فعل معنا الاستاذ وكما علمنا. فم يؤسف له أن المناخ الصحفي الحالي لم يعد صالحا أو مناسباً لوجود جيل الاساتذة وأصبح هناك نوع من الحرب الخفية والعلنية لتدمير وتحجيم وضرب الكفاءات والدفع إلي الأمام بالضعفاء وغير الموهوبين والدخلاء علي المهنة من أجل تصفية حسابات شخصية أو الحفاظ علي مكاسب مرحلية وذلك علي حساب المهنة وواقعها وطموحاتها. وهو مناخ أصبح يدفع الكثيرين إلي التواري والاحتجاب والبقاء بعيدا مفضلين الاحتفاظ بذكريات الماضي الجميل والأيام الخوالي عن الدخول في معارك كل من فيها مهزوم. [email protected]