لا خلاف على أن الوضعين.. الأمنى والاقتصادى هما التحدى الحقيقى أمام الحكومة الانتقالية حسبما قال رئيسها الدكتور عصام شرف فى لقائه الأسبوع الماضى برؤساء تحرير الصحف، إذ أن الوضع الاقتصادى الحالى وعلى حد تعبيره غير مطمئن وبه «مصائب» فى ظل تعثر الانتاج واستمرار الاحتجاجات الفئوية وانخفاض التصدير وعائدات السياحة، مثلما لايزال الوضع الأمنى وعلى حد تعبيره أيضا غير مستقر فى ظل استمرار إعادة بناء المؤسسة الأمنية التى انهارت خلال ثورة 25 يناير، ومن ثم فإن المهمة الأساسية للحكومة الانتقالية كما حددّها الدكتور شرف هى تحسين الوضع الاقتصادى وتحقيق الأمن والأمان فى الشارع المصرى. وإذا كان تحسين الوضع الاقتصادى يتطّلب إجراءات وتدابير وجهودًا غير عادية من جانب الحكومة.. سوف تستغرق بالضرورة وقتا طويلا وحيث بدا أن الدكتور عصام شرف لديه رؤية واضحة وخطط محددة فى هذا الصدد.. من بينها بل أهمها جذب الاستثمارات الخارجية وخاصة العربية؛ فإن الأمر يتطلّب ايضا وفى نفس الوقت توقف الاحتجاجات والمطالب الفئوية وهى وإن كانت مطالب مشروعة فى مجملها، إلا أنه من المستحيل تلبيتها كلها أو معظمها على الفور أو حتى خلال المرحلة الانتقالية، وهى حقيقة يتعين على الحكومة والمجلس العسكرى توضيحها للمواطنين بقدر ما يتعين تجنب الإفراط فى الوعود وعلى النحو الذى يرفع سقف توقعات المواطنين بأكثر مما يجب وبما يفوق الامكانات والقدرات الحقيقية فى الوقت الراهن. أما الوضع الأمنى المقلق وغير المستقر والذى يعد التحدى الأكبر وذو الأولوية التى تسبق التحدى الاقتصادى، فإنه يتطلب حلولا عاجلة وحاسمة وجذرية.. سبيلاً لتحقيق الأمن والأمان الغائبين بدرجة كبيرة، إذ أن استمرار حالة الانفلات الأمنى من شأنها ضرب هيبة الدولة وسيادة القانون فى الصميم، وبما يمثل انتكاسة حقيقية لثورة 25 يناير وانتقاصا كبيرا من قيمتها ومكتسباتها، وفى نفس الوقت فإنها تعكس ضعفا غير لائق للسلطة الحالية.. حكومة ومجلس أعلى للقوات المسلحة. قد يكون ممكنا بل ضروريا تفهم مبررات وأسباب «مصائب» الوضع الاقتصادى الحالى بقدر ما يمكن تقبل تداعياته والتى قد تطول لشهور وحتى لسنوات قليلة مقبلة، لكنه من غير الممكن ومن غير المقبول الاقتناع بأية مبررات وأسباب لاستمرار حالة الانفلات الأمنى التى تتصاعد وتتزايد بين حين وآخر، بينما لاتزال الشرطة غائبة أو بالأحرى فى حالة إضراب عن العمل سواء كان إضرابا صريحا أو ضمنيا، إذ أن حضورها وتواجدها النسبى لا يزال حتى الآن تواجدا شكليا ومظهريا دون أداء حقيقى وفاعل لدورها ومهمتها. واقع الأمر فإن استمرار غياب الشرطة لا يزال لغزا مقلقا ومريبًا فى آن واحد، إذ أنه لا الحكومة ولا المجلس العسكرى أعلنا بوضوح الحقيقة وراء استمرار هذا الغياب، كما أنه لم يتم حتى الآن الإعلان عن موعد وخطوات عودة الشرطة بكامل طاقتها وأجهزتها، بل إنه مما يزيد من غموض هذا اللغز أن يقول السيد منصور العيسوى وزير الداخلية فى حديث صحفى أنه سيقضى على الانفلات الأمنى خلال (عدة أشهر) وهو تصريح يضاعف من قلق المواطنين حيث أراد الوزير المسئول عن الأمن طمأنتهم! *** ومع كل التقدير للغة خطاب الدكتور عصام شرف الودود وسعة الصدر إزاء الاحتجاجات المستمرة والمتتالية بطول البلاد وعرضها وهو أمر لا يعنى صحة اتهام الحكومة بأنها «حكومة ضعيفة» وهو الاتهام الذى نفاه بشدة بقدر ما يعنى أنها وبحسب تعبيره تتعامل مع شعب جريح بسبب ما عاناه من فساد السلطة لسنوات طويلة قبل الثورة، وهو تعامل يعكس حسا سياسيًا وطنيًا مرهفًا لدى الدكتور شرف. غير أنه يبقى أن استمرار حالة الانفلات الأمنى لايتفق مع إصرار الدكتور عصام شرف على وصف حكومته بأنها ليست حكومة تسيير أعمال ولكنها حكومة انتقالية تعمل على خروج البلاد من عنق الزجاجة وتسليم الراية للحكومة المنتخبة المقبلة. *** إن ثمة إشارة مهمة ومطمئنة فى حديث الدكتور عصام شرف وهى تأكيده على وجود تنسيق كامل بين الحكومة والمجلس العسكرى بهدف تحويل مصر إلى دولة مدنية فى أسرع وقت ممكن.. أى فى نهاية المرحلة الانتقالية والتى لايزال موعد انتهائها غير محدد بدقة. وإذ ما زلت عند رأيى الذى ختمت به مقالى الأسبوع الماضى بأن مصر بعد الثورة بحاجة ملحة إلى إعادة ترتيب أولويات مسيرة العملية السياسية وبما يعنى ضرورة التوافق الوطنى العام على خريطة الطريق للخروج من المرحلة الانتقالية وبما يضمن نقل السلطة إلى شرعية مدنية منتخبة.. رئاسية وبرلمانية يرتضيها الشعب دون التفاف على مكاسب الثورة.. لذا فإن ترتيبات نقل السلطة وحيث تبدأ بانتخاب البرلمان بمجلسيه ثم الرئاسة ثم الدستور وفقا لما تضمنه الإعلان الدستورى الذى أصدره المجلس العسكرى.. يتعين إعادة النظر بشأنها أى من حيث الترتيب والأولوية. إنه ليس من الصواب البدء بإجراء الانتخابات البرلمانية أولاً وقبل انتخاب رئيس الجمهورية الجديد بل قبل إقرار دستور جديد للبلاد، إذ أن حالة السيولة التى تتبدى فى المشهد السياسى مع استمرار الانفلات الأمنى وأعمال البلطجة وترويع المواطنين وكذلك عودة ظاهرة اقتحام السجون وأقسام الشرطة لإخراج المساجين.. كلها أوضاع لايتوافر معها المناخ المناسب الذى يضمن إجراء الانتخابات البرلمانية بنزاهة وشفافية، بل إنها سوف تفتح الباب أمام المزيد من الفوضى والاضطراب. الصحيح والصواب هو إعادة ترتيب تدابير نقل السلطة بحيث تبدأ أولا وقبل إجراء أية انتخابات بإقرار الدستور الجديد والذى تجرى الانتخابات وفقا لنصوصه وبحيث يتضمن كل الضمانات لديمقراطية الدولة المصرية وبما يحول دون تأبيد السلطة والرئاسة وبما يحد من سلطات الرئيس ويضمن فى نفس الوقت ترسيخ دولة القانون، مع ملاحظة أن إعداد مشروع الدستور ليس مهمة صعبة ولا أمرا عسيرا، إذ لايستغرق إعداده أكثر من شهر واحد يجرى بعده الاستفتاء الشعبى ثم إقراره، ومع ملاحظة أخرى وهى أنه ليس ضروريا انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور بل يمكن التوافق على لجنة وطنية تضم كل أطياف المجتمع المصرى تقوم بهذه المهمة. الخطوة الثانية هى انتخاب رئيس الجمهورية وهى فى تقديرى الخطوة التى تسبق فى أهميتها وضرورتها انتخاب البرلمان، باعتبار أن وجود رأس للدولة منتخب انتخابا ديمقراطيا ولأول مرة فى تاريخ مصر كله من شأنه تحقيق الاستقرار السياسى الضرورى لنقل السلطة إلى رئيس مدنى منتخب وهو أمر من شأنه أيضا ترسيخ شرعية الثورة الشعبية ضد النظام السابق الفاسد. أما التعلل بضرورة انتخاب البرلمان أولاً حتى يؤدى الرئيس اليمين الدستورية أمامه فمردود عليه بأنه فى ضوء الظروف الاستثنائية بعد الثورة فإنه يجوز أن يؤدى الرئيس اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا. وبانتخاب رئيس الجمهورية بعد إقرار الدستور الجديد.. تنتهى مهمة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسليم السلطة وقيادة الدولة إلى الرئيس الجديد المنتخب، ثم يمكن بعد ذلك إجراء الانتخابات البرلمانية وفقا للدستور والذى قد يتضمن - إذا ما تم التوافق الوطنى - إلغاء مجلس الشورى كغرفة ثانية بالبرلمان فى ضوء التجربة السابقة الفاشلة لهذا المجلس. *** ولعله ليس تكرارا أن ثمة خطوة ضرورية وبالغة الأهمية يتعين التعجيل بها بحل المجالس المحلية أخطر فلول النظام السابق وحزبه المنحل، باعتبارها إجراء يتعين أن يسبق كل إجراءات نقل السلطة بضمان نزاهة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية على حد سواء. *** الدستور الجديد أولا.. انتخاب رئيس الجمهورية ثانيا.. الانتخابات البرلمانية ثالثا.. هذه فى تقديرى هى أولويات وترتيبات العملية السياسية لنقل السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة يرتضيها الشعب. .. وهذه هى خريطة الطريق للخروج الآمن من المرحلة الانتقالية إلى الدولة المدنية الديمقراطية.