يحكى أنه فى زمن بعيد كان يعيش رجل عجوز ثرى يُدعى «بيناريس»، وكان له صديق حكيم، وله أيضا زوجة جميلة شابة، وله منها ابن يحبه للغاية. جال بخاطر «بيناريس» يوما أنه سيموت قريبا وأن زوجته ستتزوج رجلا آخر وأنهما سيضيعان الثروة الكبيرة التى بذل عمره كله لتوفيرها لابنه. وبالتالى لن يبقى لابنه أى شيء يرثه من أمه. وهنا خطر للرجل أن يقوم بشيء يضمن لولده أن يحصل على كل الثروة وهو أن يدفنها فى مكان ما، وهنا نادى خادمه الأمين «ناندا» وذهبا معا وهما يحملان كل ما لديه من مال إلى غابة قريبة ودفناه فى مكان اتفقا عليه. وقال «بيناريس» لخادمه: عزيزى «ناندا» أنا أعرف أنك مطيع وأمين.. بعد أن أموت عليك أن تعطى هذه الثروة لولدى وإلى أن يحدث هذا عليك أن تحتفظ بالأمر كله سرا بيننا. وحين تعطى الثروة لابنى انصحه أن يتصرف فيها بحكمة وأن يكون كريما. ولم يمض وقت طويل إلا وقد انتقل «بيناريس» إلى جوار ربه ومضت سنوات أكمل فيها ابنه تعليمه، وأصبح شابا ناضجا عليه أن يكون مسئولا عن الأسرة. قالت له أمه عندئذ:«يا ولدى.. لقد تلاعبت الظنون بوالدك، حتى أنه أخفى ثروته فى مكان ما، وأنا متأكدة أن خادمه «ناندا» يعرف مكانها وعليك أن تحصل على هذه الثروة لتستطيع أن تتزوج وتكوّن أسرة. ذهب الابن إلى «ناندا» وسأله عما إذا كان يعرف المكان الذى أخفى فيه أبوه ثروته، فصرّح له «ناندا» بأن الثروة مدفونة فى الغابة بمكان ما يعرفه جيدا. وعليه فقد ذهب الاثنان للغابة ومعهما سلة كبيرة ومجرفة. سحر الإحساس بالقوة حينما وصل الشاب والخادم للمكان الذى دفنت به الثروة، شعر «ناندا» فجأة بمدى أهميته فى هذا الموقف وإذا به يتحول إلى شخص فى غاية العجرفة ويقول فى نفسه:«رغم أننى مجرد خادم لهذا الشاب إلا أنى وحدى الذى أعرف مكان الثروة، وهذا يجعلنى فى موضع قوة لا يملكها أحد آخر!» وهنا ملأ «ناندا» الغرور إلى الدرجة التى جعلته يتجرأ على سيده قائلا: «يا ابن الخادمة.. من أين ستحصل على ميراثك من الثروة؟». تحلى الفتى بالصبر ولم يرد على إهانات «ناندا» خادم أبيه، رغم أنه تألم من إيذائه للغاية. وبعد قليل عادا إلى المنزل خاليى الوفاض. تكرر هذا الموقف مرتين. وقال الفتى فى نفسه وهو يتأمل سلوك «ناندا»: «حين نكون بالمنزل يبدو «ناندا» أنه يريد أن يكشف عن مكان الثروة الخفي، ولكن عندما نصل للغابة ومعنا السلة والمجرفة، يفقد حماسه للبوح بالسر. لا أعرف لماذا يتغير حاله كل مرة». الحكيم يعرف سر النفوس قرر الفتى أن يُفضى بحيرته لصديق والده الحكيم فذهب إليه ووصف له ما حدث تماما. قال له الرجل الحكيم:«إذهب مرة أخرى مع «ناندا» إلى الغابة، وتنبه إلى المكان الذى يقف عنده حين يبدأ فى إيذائه لك، وهو سيفعل ذلك بدون شك. وعندها قل له «لا حق لك فى أن تحدثنى بهذا الشكل، اتركنى الآن واذهب بعيدا». وبعد أن يمضى راجعا، ابدأ عندها فى الحفر فى البقعة التى كان يقف عليها وستجد ثروتك هناك «ناندا» رجل ضعيف، لذلك فهو حين يقترب من الشىء الذى يُشعره بقوته، فهو يحول تلك القوة إلى قوة على الإيذاء».تبع الفتى نصيحة الرجل الحكيم بكل دقة، وفعلا وصلت الثروة المدفونة له كما أراد والده، وقام باستعمالها بكرم وسخاء مع كثير من الناس». ماذا حدث ل «ناندا»؟ تلك القصة من الأدب البوذى مليئة بالرموز، ومنها أن نقاط الضعف فى الإنسان، قد تكون كامنة إلى أن تأتى لحظة معينة، يظهر فيها هذا الضعف، ويغير سلوك الشخص حتى لكأنه تغيرت طبيعته تماما. ف «ناندا» كان خادما مخلصا وأمينا لسيده، بدليل أنه لم يخطر على باله مثلا أن يسرق الثروة، وكانت نواياه تبدو حسنة جدا وهو يكشف لصاحب الثروة عن مكانها، ويأخذه معه لإحضارها، ولكن فى اللحظة التى يشعر فيها بأن له «سلطة مطلقة» على سيده تقفز النفس بدونيتها فجأة، وتجعله يستمتع بإذلال سيده. كما توحى له تلك النفس أيضا بألا يكشف له عن مكان الثروة لتستمر «أسباب السطوة» متأججة حين كان «ناندا» يبتعد عن موضع القوة (يعود للمنزل)، كان «سحرها» يتضاءل، ويعود لنفسه، ويود أن يُسلّم الثروة لصاحبها، وما أن يقترب من «سبب القوة» إلا أن يتصرف بدنو وخسة. الحقيقة أن القصة تتحدث عن كل إنسان، إلا من تحرر من سطوة تلك النفس الدنيا التى تخرج عليه من مكمنها ومن حيث لا يحتسب، وتجعله يؤتى من التصرفات السيئة ما كان يظنه مستحيلا. وليس «ناندا» ببعيد عن واقعنا الإنسانى بدرجات مختلفة. فكم من إنسان طاهر اليد وأمين أفسدته «السلطة» سمعت تعليقا من شخص كان من أعتى رجال نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قال فيه وهو يتحدث لابنته بنبرة بها الكثير من الندم:«لا أعرف شخصا لم تفسده السلطة إلا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ومن هم فى مقامه». وإذا كانت «السلطة السياسية» هى أبرز أنواع القوة لأنها تتيح لشخص واحد أو نخبة من الأشخاص إيذاء الملايين من البشر، إلا أن «سحر القوة» يذهب بعقول معظم البشر فى دوائر متعددة، إلا من رحم ربى. الاستعداد للنجاة من العدو الخفى قصة «ناندا» تجعلنا نتفهم حاجة الإنسان لتهذيب النفس قبل أن تفاجئه بالهجوم وتكون لها القيادة عليه. وهذا الاحتياج ضرورى لكل إنسان مهما كانت درجة نزاهته، ذلك لأن «النفس الدنيا» جزء طبيعى من تواجدنا الأرضى، وهى لها أهمية لأنها تعطى الإنسان الدوافع الطبيعية للحفاظ على حياته، فهى التى تجعله مثلا يحمى نفسه من الأخطار والمهالك، وبدونها لا يستطيع الحياة على الأرض لكنها فى الغالب تتجاوز دورها حين تحاول أن تجعل من نفسها الحاكمة على الشخص فتعتدى بذلك على الجانب الأكثر علوًّا ونقاء فيه وهو «النفس العليا» التى هى منبع كل الخلق القويم فى الإنسان بدون الوعى الأخلاقى يحدث الخلل النفسى الذى يتيح لها أن تتحين الفرصة وتأخذ القيادة فى تصرفات الإنسان ومن هنا نفهم قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول لنا: «أعدى أعدائك نفسك التى بين جنبيك» فهى «البوابة» التى تفتح على مصراعيها لأى قوة شر أو إغواء خارجية وبتهذيبها تعود لمكانها وتترك للنفس العليا دور القيادة، فيكون الإنسان فى كل تصرف مقدرا لمسئوليته، أمينا، محبا للخدمة. وأعتقد أن تهذيب النفس يتم أولا من معرفة الإنسان لأبعاد نفسه، بطبيعتها العليا والدنيا، ويصحب هذا الوعى اختيار طوعى بأن يستمع لنفسه العليا. هنا سيجد احتياجه للانتظام فى تدريبات أساسية، يتواصل فيها، بمنطقة عميقة، نقية، بداخله، فيخرج من ضوضاء الدنيا، إلى سكون الروح. فهذا يمده بطاقة من النور الذى يجعل وجوده كله بيئة نقية لا مجال فيها للانصياع للنفس الدنيا. وهذا هو جوهر جميع العبادات فى كل الأديان، وكذلك «التأمل» فى كل الرياضات الروحية. إنها جميعا تغذى الروح وتقويها، وتكون لها بمثابة الحصن المعنوى الذى يجعل رؤيته أكثر صفاء ووضوحا. النوع الآخر من التدريب المنتظم والمستمر الذى يُنجى الإنسان من «سطوة» النفس الدنيا هو وعيه بأن عليه أن يربط كل عمل له بهدف أكبر وأعلى من ذاته المحدودة. أى أنه يذكّر نفسه بأن «الخدمة» هى جزء لا يتجزأ من عمله، وهذا لا يمنع أن يكون هذا العمل هو المهنة التى يمتهنها. وإذا أضاف لهذا أى نشاط تطوعى، مهما كان صغيرا، فهذا أيضا إثراء كبير للنفس. إن هذا الوعى للاحتياج للتهذيب، والتنقية، والتحلية للنفس هو الحماية الوحيدة للإنسان من الوقوع فى براثن «سحر القوة»، وأى نقيصة أخرى تؤدى به للتدنى، كما أنها تجعله فى حال من الخشية الدائمة، والتواضع لله لأنه لا يدرى من أين ستغدر به نفسه. وكلما كان حجم القوة أو السلطة التى تتاح للشخص، كلما كان فى حاجة أكثر وأكثر لتهذيب النفس حتى لا تُذهب السلطة بعقله!