انتهى الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذى يمكن اعتباره تاريخياً أول استفتاء حقيقى تشهده مصر.. على الأقل منذ ستين عاما!.. انتهى الاستفتاء الذى شهد الجميع بنزاهته وشفافيته رغم بعض السلبيات والتجاوزات التى توافق الجميع على أنها محصلة ضيق الوقت وكثافة الحضور واستبدال البطاقات الانتخابية ببطاقة الرقم القومى.. انتهى الاستفتاء الذى كان معروفاً أن نتيجته “بنعم” تقودنا إلى طريق محدد الملامح معروف الهوية.. بينما كانت نتيجته “بلا” تقودنا إلى مجهول!.. وماذا بعد؟!.. ماذا بعد أن انتهى الاستفتاء وقالت الأغلبية نعم للتعديلات الدستورية الجديدة؟.. طبقاً لما أعلنه المجلس الأعلى للقوات المسلحة فإن هناك “إعلان دستورى” يتضمن أحكام المواد الدستورية التى وافق عليها الشعب فى الاستفتاء.. بالإضافة لبعض المواد الأخرى اللازمة والضرورية لتنظيم عملية الانتخابات وتحديد صلاحيات الرئيس المنتخب لحين إقرار دستور جديد.. يعقب ذلك الإعلان الدستورى إجراء الانتخابات التشريعية ثم الانتخابات الرئاسية.. وبعدها يقوم الجيش بنقل السلطة للرئيس المنتخب.. لكن ليست هذه هى الإجابة وليس هذا هو السؤال!.. السؤال أكبر وأشمل.. والإجابة يجب أن تكون كذلك!.. المعنى الذى أقصده أنه إذا كان السؤال: وماذا بعد الاستفتاء؟ ماذا بعد أن قال الشعب نعم للتعديلات الدستورية.. فإن الإجابة ليست هى الإجراءات التى حددها المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. الإجراءات ليست هى الإجابة وإنما الإجابة هى كيف سيتم تطبيق هذه الإجراءات؟.. كيف ستتم الانتخابات التشريعية؟.. كيف ستجرى الانتخابات الرئاسية؟.. وكيف نختار الرئيس الجديد؟.. وكيف سيتم عمل دستور جديد وسط مخاوف كثيرة ومتعددة؟.. وإذا كانت الانتخابات التشريعية هى الخطوة الأولى فى الإجراءات التى أعلن عنها المجلس الأعلى للقوات المسلحة فإنه من المناسب أن نبدأ بها.. كيف ستتم هذه الانتخابات؟!.. كيف سيتم انتخاب أعضاء مجلسى الشعب والشورى؟!.. لعل أكثر ما يفرض نفسه من اعتبارات ونحن نتحدث عن الانتخابات التشريعية القادمة هو المسألة الأمنية.. كيف تستطيع الأجهزة الأمنية تأمين هذه الانتخابات وحمايتها من الاختطاف؟!.. القوات المسلحة قامت بجهد كبير بمساعدة أجهزة الأمن فى تأمين عملية الاستفتاء وحماية المقار التى جرت فيها عملية الاستفتاء.. لكن الانتخابات التشريعية تختلف وخاصة انتخابات مجلس الشعب.. والسؤال: إذا كانت هذه الانتخابات شهدت تجاوزات أمنية خطيرة فى السنوات السابقة وفى ظل نظام أحكم قبضته الأمنية على الشارع.. فكيف سيكون الحال فى انتخابات تجرى فى مناخ تسوده الفوضى والغياب الأمنى؟!.. الحقيقة أن مسألة الغياب الأمنى أصبحت تقترب من أن تكون لغزا!.. لا أتحدث عن الغياب الأمنى الذى حدث فى أعقاب نزول الجيش للشوارع خلال أحداث الثورة ولكننى أتحدث عن غياب لا يزال مستمرا حتى الآن وبعد مرور ما يقرب من شهرين على تلك الأحداث.. اللواء محمود وجدى وزير الداخلية السابق تحدث عن عودة جزئية لأجهزة الأمن المختلفة.. واللواء منصور عيسوى وزير الداخلية الحالى يؤكد أن أجهزة الأمن عادت بشكل كامل إلا قليلا.. جداً!.. لكن الواقع يقول العكس!.. لا تزال الدوريات الأمنية المسلحة غائبة عن الشارع المصرى.. لا يزال أفراد الشرطة سواء ضباط أو أمناء أو جنود غائبين.. التواجد الملحوظ لرجال المرور فقط وهؤلاء يقفون فى أماكنهم على استحياء غير قادرين عمليا على منع السائقين من ارتكاب المخالفات خاصة سائقى سيارات الميكروباص!.. فى كل الأحوال الغياب الأمنى ملحوظ.. والمواطن يفتقد الشعور بالأمان.. ولابد أن تكون هناك وقفة حازمة لهذه المسألة.. مسألة الانكسار النفسى والإحباط وغيرها لا يصح ولا يجوز أن تقترن برجل الشرطة!.. لابد من وقفة حازمة للحكومة وللمجلس الأعلى للقوات المسلحة لإعادة الشرطة بكاملها وبقوتها وهيبتها للشارع.. ولابد أن تكون هناك أولوية لاستعاضة ما فقدته من إمكانات.. وإذا لم يحدث ذلك فستتحول الانتخابات التشريعية إلى.. كارثة!.. وليست هذه هى الكارثة الوحيدة التى تنتظر الانتخابات التشريعية القادمة.. فهناك كارثة الدين.. أو بمعنى أدق كارثة توظيف الدين واستخدامه!.. *** على الرغم من أن الدستور والقانون يجرمان خلط الدين بالسياسة وقيام أحزاب سياسية على أسس دينية.. إلا أن الاستفتاء الأخير شهد هذا الخلط الآثم!.. لم يكن هناك أى ارتباط بين الاعتبار الدينى والتعديلات الدستورية التى تم الاستفتاء عنها.. لم يكن من بين المواد المعدلة المادة الثانية التى تتحدث عن أن الدين الإسلامى هو مصدر التشريع.. ومع ذلك نجح البعض فى تحويل الاستفتاء إلى حرب غير معلنة بين المسلمين والمسيحيين!.. أظننا جميعا تابعنا التسجيل الذى أذاعه التليفزيون للشيخ «يعقوب» الذى احتفل وسط أتباعه بانتصار الإسلام فى «غزوة الصندوق»!.. أظننا تابعنا كلامه الذى يحمل دلالات خطيرة عن انتصار المسلمين وهزيمة غيرهم!.. وعن أنه إذا لم يعجبهم ذلك فعليهم الرحيل!.. مثل هذا الكلام أخطر من ألف قنبلة تنفجر!.. وعلى الحكومة والجيش التصدى له بمنتهى الحزم والقوة.. ثم هل من المعقول أن يدعو «الإخوان المسلمين» للموافقة على التعديلات الدستورية وتدعو الكنيسة لرفضها؟!.. إلى أين نحن ذاهبون يا سادة؟!.. وهل ستجرى الانتخابات التشريعية فى مثل هذه الأجواء؟!.. كارثة بكل المقاييس.. وإن كانت هناك كوارث أخرى!.. *** ليس معروفاً متى تنتهى هذه الحالة من الفوضى الشاملة التى تسود البلاد؟.. ليس معروفا متى تتوقف الاعتصامات والاحتجاجات العنيفة التى تصل إلى حد القتل والحرق؟!.. ليس مفهوما استمرار هذه المطالبات الفئوية التى لا تتفق مع عقل أو منطق!.. ليس لى علاقة بالجدل الدائر حول ارتباط هذه المظاهرات والاحتجاجات الفئوية بالثورة المضادة.. المسألة أننا أمام واقع غريب يطالب فيه كل الناس بطلبات وحقوق - حتى وإن كان لهم فيها حق - فمن المستحيل أن تتحقق بين يوم وليلة.. كل الناس يريدون تغيير كل الناس!.. الخفير يطلب مرتب الأمير!.. والنتيجة أن كل المصالح والوزارات والمؤسسات العامة والخاصة متوقفة عن العمل والإنتاج.. فمن أين تأتى الحكومة بميزانية تسمح بتلبية الطلبات والمطالبات المعقولة والمشروعة؟.. ثم إن كل الجهات الخارجية التى تتحدث بمنتهى الجدية عن تقديم مساعدات لمصر.. لم تتحرك خطوة واحدة عملياً لأن كل التقارير تؤكد أن مصر لم تستقر بعد.. فكيف يحصل بلد على مساعدات وهو لم يستقر؟!.. إلى أين تذهب هذه المساعدات؟!.. ومن يضمن عدم ضياعها وسط حالة الفوضى السائدة؟!.. فى كل الأحوال الفوضى تمثل كارثة.. وقد أقدم المجلس الأعلى للقوات المسلحة أخيراً على خطوة رآها كثيرون خطوة متأخرة لمنع هذه الفوضى..الخطوة هى تكليف الحكومة بإصدار قانون بمرسوم يجرم الاعتصامات والإضرابات التى تعطل العمل.. الكارثة أن البعض يردد أن مثل هذا الإجراء يقيد الحريات العامة ويعود بنا إلى الوراء.. فما هو البديل؟.. وهل تشمل الحريات العامة حرية الفوضى التى يمكن معها أن تشهد مصر إفلاسها؟!.. *** فإذا جاء الدور على الانتخابات الرئاسية والدستور الجديد فنحن أمام مشكلة أخرى.. الانتخابات الرئاسية القادمة فى الواقع تمثل خطوة أساسية ورئيسية فى خريطة مستقبل مصر.. فى نفس الوقت فإن الرئيس القادم المنتخب سيواجه مصاعب لم يواجهها رئيس قبله وبعده!.. وقد يطيح به الدستور الجديد!.. فى كل الأحوال الرئيس القادم المنتخب سيواجه مصاعب جمة.. وليست هذه هى المشكلة.. المشكلة هى عملية الانتخابات الرئاسية نفسها.. كيف ستتم إذا استمرت الفوضى؟.. ثم كيف نضمن أن تكون انتخابات محترمة تليق بمصر واسم مصر ومكانتها؟!.. الحقيقة أن قائمة المرشحين للانتخابات الرئاسية أصبحت تمثل نوعاً من القلق على مستقبل مصر!.. كثيرون جداً أعلنوا فى الصحف أنهم سيرشحون أنفسهم لرئاسة مصر.. بعض المرشحين بالطبع لهم إمكانات تؤهلهم لهذا الترشح.. لكن الغالبية العظمى تضحك على أنفسها.. وعلينا!.. فماذا سيحدث إذا وجدنا عدد المرشحين للرئاسة بالمئات وليس بالعشرات؟!.. مع أنه مفترض ألا يزيد عدد المرشحين على عدد أصابع اليد الواحدة!.. ثم إن حرب الانتخابات الرئاسية اشتعلت قبل الهنا بسنة كما يقولون.. هناك من يشكك فى قدرة هذا المرشح على ممارسة العمل السياسى.. وهناك من يشكك فى نزاهة ذلك المرشح.. وهناك من يتهم آخرين بالانتماء للنظام القديم.. ولا يمثل ذلك كله إلا فوضى تضاف للفوضى الموجودة والسائدة.. أما الدستور الجديد فهو مشكلة المشاكل أو هكذا سيكون. فإذا كنا قد سمحنا للفوضى وللفتنة الطائفية والانفلات أن يلعبوا دورا فى الاستفتاء.. فماذا سيكون الحال عند إعداد دستور.. مطلوب أن يتوافق عليه كل المصريين؟!.. *** وماذا بعد؟.. ماذا بعد أن قال الشعب كلمته ووافق على التعديلات الدستورية؟.. السؤال سهل.. لكن بقدر سهولة السؤال فإن الإجابة فى منتهى الصعوبة.. وعلينا جميعاً أن نشارك فى صياغتها.. إن كان المعنى قد وصل!..