اليوم يجب ألا نضحك على أنفسنا ونبتلع أقراص الوهم التى توحى لنا - على غير الحقيقة - أن الصحافة سلطة رابعة إلى جوار السلطات الثلاثة (التشريعية - القضائية - التنفيذية) وقد لا ينقص هذا الاعتراف الصريح من قيمة الصحافة كأداة تعبير تنويرية وكرافد من أهم روافد التوعية الجماهيرية، حيث إننا ربما نكون فى بعض الأوقات أكثر أهمية وأقوى تأثيرا من كل السلطات الثلاث، وذلك إذا ما أحسنا القيام بدورنا المنوط بكشف الحقائق الغائبة عن الجماهير، وزدناه تفعيلاً إيجابيا يستفيد منه المواطن ويغتنمه الوطن كنبراس يضيئ إليهما معا كل السبل المعتمة ويزيل ما يعترى طريق المعرفة لديهما من ضبابية قد تحجب عنهما أحياناً ما يجب أن يعلماه من أحوال المجتمع وحقائق حول ما لهما من حقوق مشروعة وما عليهما من واجبات تدعم الانتماء القومى الذى هو اللبنة الأولى لضمان الارتقاء بالوطن والمواطن فى نفس الوقت. وإذا كنا نحن الصحفيين لم نغادر أجواء ثورة الخامس والعشرين من يناير فإن هذه الأجواء كما ترسم لنا تقاليد جديدة للمستقبل فإنها أيضاً ترسم قيما مستحدثة وربما تكون موروثة عن حضارات عريقة فى التاريخ المصرى ولكنها كانت غائبة لفترة طويلة أو كانت مختطفة بفعل فاعل.. وقد جاءت ثورة الشباب المصرى لتقشع ما تصورناه غمامة حالت دون إبراز هذه التقاليد وتلك القيم وآثارها الإيجابية على المجتمع المصرى، وذلك فى ظل شرعية ثورية مستنيرة وفى نفس الوقت تستند إلى مرجعية دستورية تضمن لكل ذى حق حقه. وإذا كانت هناك إرهاصات قد بدت لنا فى الفترة الأخيرة تلوح فى الأفق الصحفى حول تغيير بعض مواقع القيادات الصحفية ممن قدموا استقالاتهم وممن تجاوزوا السن القانونية فإن الواجب المنبثق من القيم الصحفية العليا يستوجب كلمة شكر انطلاقا من قيمة مؤكدة لدينا جميعا نحن الصحفيين وهى احترام الرأى والرأى الآخر، وذلك إذا كنا جادين فى مطلبنا التاريخى بترسيخ حرية الصحافة ونحن بالفعل كذلك، حيث إن لكل فترة مفاهيمها التى تسود وفقا للظروف والملابسات التى تكتنف كل مرحلة من مراحل العمل الصحفى المرتبط ارتباطا وثيقا بحقب التاريخ لأى وطن، وما بالك إن كان هذا الوطن هو مصر صاحبة التاريخ الوثيق الذى يمتد بجذوره عبر آلاف السنين والتى صنعت من خلاله كبريات الحضارات الإنسانية. وحتى يتواصل ما تحقق من نهضة صحفية مشهودة كانت بها مصر كما عهدناها دائما هى الرائدة فى الشرق الأوسط فإن المجلس الأعلى للصحافة بقيادته المؤقتة الجديدة والتى يقف على قمتها واحد من أشهر فقهاء القانون الدستورى فى بلادنا وهو الدكتور يحيى الجمل وما يحمله من نوايا طيبة ورغبة مخلصة فى أداء هذا الدور المهم فى هذه الأوقات الدقيقة والمصيرية التى تمر بها مصر، وهو اختيار قيادات جديدة تحمل راية الصحافة المصرية ممن حملوها فى المرحلة السابقة، تحدوهم ما حققوه من نجاحات ولهم أعذارهم فيما صادفهم من إخفاقات، ولكن حسبهم رغبتهم الجادة - من وجهة نظرهم على الأقل - فى الارتقاء بالصحافة المصرية والمساهمة على قدر استطاعتهم فى النهوض بها. وانطلاقا من هذا كله فإنه ينبغى على رئيس وأعضاء هذا المجلس الموقر اتخاذ ما يجب من الحيطة والدقة معا فيمن ترشحه اختياراتهم لتقلد هذه المناصب القيادية، وإذا جاز لنا المشاركة بالرأى فى هذا المجال فإن من أهم المواصفات والتى ترقى لمستوى الشروط حتمية الوجوب هى الكفاءة المهنية التى تؤهل القيادات الجديدة لأداء دور احترافى فى الممارسة الصحفية بما من شأنه عودة الدور الوطنى للصحافة القومية وإلى سابق عهدها من الازدهار بعد أن شهدت السنوات الأخيرة تراجعا واضحا جعلها جميعا تخرج من حلبة المنافسة وخاصة بعد انتشار ما يسمى بالصحافة المستقلة ومن هنا تكمن الأهمية القصوى لحسن الاختيار لكل من رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير الجدد بما يحقق الأجواء الملائمة والتى يسودها التفاهم الخلاق بين الرئيس والمرؤوس، حيث يكون هذا دافعا للتجويد كما يؤكد الرغبة المخلصة لدى الجميع فى الارتقاء بسائر الإصدارات الصحفية القومية المختلفة. ولن يأتى ذلك إذا لم تتبع معايير موضوعية ومقاييس منطقية قوامها اختيار أهل الخبرة بعيدا عن أهل الثقة مع الحرص على إيجاد مساحة من التوافق بين القيادات الجديدة ومن يعمل معهم فى شتى مراحل العمل الصحفى، وذلك من خلال المشاركة الفعلية لكل الصحفيين داخل مؤسساتهم فى اختيار قياداتهم من داخل هذه المؤسسات بما يشبه الاستفتاء الذى يقوم على التقييم المعتمد على سابق المعرفة والزمالة المشتركة، ولعل هذا الأسلوب الجديد يكون باكورة تعيين القيادات الصحفية بالانتخاب كما يحدث فى اختيار عمداء الكليات بالجامعات المصرية وقد أثبتت التجربة نجاحا ملحوظا رغم حداثتها وقد يشجع ذلك أولى الأمر على تعميمها فى كل المؤسسات الصحفية مستقبلاً. ودون استباق للأحداث دعونا ننتظر النتائج وكلنا أمل فى أن تسفر هذه الاختيارات عن إزالة أجواء الاحتقان الراهنة على الساحة الصحفية بجميع مؤسساتها دون استثناء واعتمادنا فى ذلك على ما يمتلكه الدكتور يحيى الجمل من خلفية قانونية تجعله فى هذه الظروف الاستثنائية يقوم مقام القاضى المنصف العادل حرصا على مصلحة الصحافة والصحفيين.