للمرة الثانية خلال عدة شهور أهرب إلى الجنوب.. إلى الصعيد، حيث الشهامة والرجولة وحسن الاستقبال وكرم الضيافة، والأهم هو الإحساس بصفاء القلوب وجمال الابتسامة رغم سمار الوجه وحدة الكلام، فضلاً عن الطبيعة الجميلة والخضرة المنتشرة على جانبى الطريق السياحى بين الأقصروقنا. نعم لقد هربت من زحام القاهرة وأنانية قاطنيها والضجيج المفتعل فى الإعلام والسياسة إلى الهدوء والسكينة، حيث أهلنا فى محافظة قنا والأصدقاء والأحباب فى جامعة جنوب الوادى. وذلك بدعوة من الصديق الإعلامى أحمد لطفى مدير شبكة «إنترنيوز» والتى تتولى تنفيذ برنامج (الإعلام والمواطنة) فى الجامعات المصرية، والذى يستهدف تعميق مفهوم المواطنة لدى طلاب الجامعات وتشجيعهم على المشاركة الايجابية فى العمل العام، ونشر ثقافة العمل الجماعى بينهم وتدريبهم على كيفية مواجهة المشاكل المحيطة بهم وتأهيلهم لمواجهة مشاكل الحياة العملية بعد التخرج. وهذا البرنامج (الشباب والمشاركة الاجتماعية) فى مرحلته الثالثة حاليا ويتم تنفيذه فى 9 جامعات مصرية، حيث يتم إنشاء «نوادى المواطنة» والتى يتدرب فيها الطلاب على المشاركة الايجابية فى العمل العام، مستخدمين فى ذلك وسائل الإعلام المختلفة لعرض ما يواجههم من مشاكل واقتراحاتهم لحلها. وقد كان لى حظ اللقاء مع أساتذة وطلاب كلية الآداب وعميدها الصديق د. محمد أبو الفضل بدران وهو أديب وشاعر معروف.. سمعته يقول:(قنا يا مدينة.. حلوة وحزينة، وقنا ما تبقاش بلد من غير بنات المدينة) وسألته من هن «بنات المدينة؟» فسارع بالإيضاح: (بنات المدينة الجامعية طبعا!). وفى ورشة العمل التى عقدت بالكلية أشار العميد إلى أهمية المواطنة فى الإحساس بالذات والشعور بالانتماء، مشيراً إلى بعض مشكلات الصعيد وأهمها البطالة والعادات والتقاليد وعودة القبلية بسبب الانتخابات وتداعياتها والنفخ الإعلامى فى بعض الأحداث الصغيرة والوارد حدوثها فى مثل هذه المناسبات، خاصة عندما قام البعض بتغطية انتخابات الصعيد من القاهرة وبدون علم بطبيعة العلاقات فى هذا الجزء الجغرافى من الوطن، وانتقد تغطية الفضائيات وخاصة قناة الجزيرة التى ادعت وجود قتلى فى إحدى اللجان التى كان متواجدا فيها بالصدفة، وحقيقة ما حدث أن أحد الشباب كان على خلاف مع زوج أمه وضربه بمطواة انتقل بسببها إلى المستشفى، فالمشكلة بعيدة تماما عن الانتخابات وموضوعها ولكنه النفخ والاستسهال الإعلامى! وقد أخبرنى د. أبو الفضل أنهم تلقوا فى الكلية هدية قيمة من القصر الجمهورى بالقبة عبارة عن 7 آلاف كتاب، وجار الآن إعادة تبويبها وفهرستها تمهيداً لافتتاحها باسم مكتبة الملك فاروق. وقد كان للدكتور أبو الفضل موقف نبيل عندما اطلع على الصحيفة التى أعدها طلاب الكلية ضمن إطار التدريب فى البرنامج ووجد فيها رسالة من طالب معاق يطلب المساعدة بتوفير وسيلة مواصلات، حيث سارع بالإعلان عن قيام الكلية بشراء موتوسيكل للطالب، وطلب من زملائه إبلاغه بسرعة الحضور لمكتبه. وقد أوضح أحمد لطفى فى كلمته بورشة العمل أن فكرة المواطنة لم تكن معروفة بين الطلاب فى بداية البرنامج مع أنها أمر واقع على مدى التاريخ المصرى، ولكن بعد العمل مع الطلاب لاحظ وضوح الفكرة والسعى لتطبيقها عمليا بين طلاب الجامعات التى تنفذ البرنامج. وأعلن عن قيام مؤسسة «انترنيوز» بإنشاء استوديو إعلامى فى قسم الإعلام بكلية الآداب بجامعة جنوب الوادى، بالإضافة إلى نادى المواطنة الموجود بها والذى تم تأسيسه بأجهزة كمبيوتر وآلات عرض وكاميرات تصوير وبعض الأجهزة الفنية الأخرى. *** كنا نضطر للسفر يوميا إلى مدينة قنا، حيث مكان انعقاد ورشة العمل بكلية الآداب جامعة جنوب الوادى، وهو ما يعنى استخدام الطريق الأساسى بين الأقصروقنا وبمسافة 65 كيلومتراً وهو طريق ضيق وكثير الحوادث ولولا الإجراءات الأمنية وتعدد الكمائن المرورية عليه لكانت حصيلة المصابين أكثر مما نسمع عنه الآن بكثير. وهذا ما جعل وزارة السياحة تقوم بتعميم تركيب «الصندوق الأسود» بجميع الأتوبيسات والسيارات السياحية - باستثناء السيارات المملوكة لشركات وزير السياحة - والصندوق لا يسمح بزيادة السرعة أكثر من 80 ك/م فى الساعة، ويقوم بتسجيل ما يحدث فى السيارة وهو ما يسهل معرفة أسباب الحوادث التى وقعت. من جهة أخرى أتاحت فترة الإقامة فى الأقصر فرصة اللقاء مع عدد كبير من أبناء المدينة والمحافظة ولاحظت فتور حماسهم السابق للإصلاحات التى يقوم بها المحافظ الدكتور سمير فرج على الرغم من توسعة الشوارع وانتشار النظافة فى كل مكان وإنارة البر الغربى وتحديث المرافق والخدمات، واستكمال طريق «الكباش» بين معبدى الأقصر والكرنك، وعندما سألت عن السبب.. تعددت الأقاويل، فمنهم من قال إن المدينة افتقدت الحيوية، حيث بدت وكأنها «مدينة الموتى» شوارع واسعة نظيفة ولكنها خاوية من البشر بعد هدم الكثير من المنازل وإزالة العديد من العشوائيات. ومنهم من قال إن السبب فى عدم حصول من هدمت منازلهم على تعويضات مناسبة، وفسر البعض الأمر بالحصول على شقق فى مساكن شعبية لا تستوفى متطلبات المعيشة لأسرة من 6 أفراد، كما هو حال أغلب الأسر فى المدينة - فى حين أن البعض حصل على 20 فدانا وأراض لبناء ما يحلو لهم من مساكن عليها. وفى رأيى أن ما شهدته فى الأقصر هو عمل غير مسبوق، ونقلة نوعية لم تشهدها المدينة والمحافظة على مدى سنوات طويلة وإن كان هناك بعض القصور فلا بأس مادام الهدف هو المصلحة العامة، واعتقد أن المحافظ الجسور والنشط د. سمير فرج لن يتأخر عن سداد تعويضات أهالى الأقصر فهم أحبابه وسنده فيما يقوم به على أرضهم. *** ولقد أسعدنى ما علمته من توقف برنامج الخصخصة عمليا، بل بدء العودة لما يسمى «بالعمعمة» أى إدارة الفنادق المصرية المملوكة للقطاع العام والتى انتهت عقود إدارتها من قبل الشركات الأجنبية، وهو ما حدث فعلا فى أربعة فنادق مملوكة لشركة مصر للسياحة منها (هلنان) فى بورسعيد والأقصر و(إيتاب سابقا) فى الأقصر وشبرد فى القاهرة وفندق آخر فى الغردقة. وفى رأى الخبير السياحى مجدى عبد الحليم مدير عام فندق مصر للسياحة بالأقصر أن المصريين لا يقلون خبرة عن الأجانب، بل هم الذين كانوا يديرون تلك الفنادق بالفعل ولكن تحت مظلة الشركات الأجنبية والتى كانت تستهدف الربح أولاً دون الاهتمام بصيانة الفندق أو تنمية الموارد البشرية به، تماما مثل مدرب الكرة الأجنبى الذى يشترط على النادى المتعاقد معه أن يحضر له قائمة بأغلى اللاعبين بغض النظر عن الجنسية. ولقد نجحت الإدارة المصرية فى مضاعفة الإشغال ومن ثم الأرباح، وعلى سبيل المثال، فالفندق حقق حتى الآن زيادة بنسبة 52% مقارنة مع شهر ديسمبر الماضى، على الرغم من مدة انتهاء أيام الشهر، وذلك لأننا نعمل بمنطق الإدارة المرنة فى القطاع الخاص والشركات الأجنبية مع استمرار خضوعنا لرقابة كافة الأجهزة المعنية باعتبار أن ما نديرها هى أموال عامة. ولكنه عاتب على الإعلام السياحى لكونه لا يقوم بالدور المنوط به فى التوعية ونشر المفهوم الصحيح للتعامل السياحى، فضلاً عن التوعية ونشر ثقافة السياحة الداخلية بين المصريين. *** أخيرا كل الشكر والتقدير للأصدقاء الأعزاء بجامعة جنوب الوادى على حسن الاستقبال وكرم الضيافة وعلى رأسهم د.محمد ثروت نائب رئيس الجامعة لشئون التعليم ود.عبد العزيز سليم رئيس قسم الإعلام بكلية الآداب بالجامعة.