منذ سنوات طويلة لم أصفِّق أثناء أو بعد مشاهدة فيلم مصرى، ولكنى فعلتها مؤخراً، وبحماسة شديدة، لأحد أهم وأفضل الأفلام الطويلة وهو فيلم «ميكروفون» الحاصل على جائزة «التانيت الذهبى» من مهرجان قرطاج. عمل كبير وفريد ومختلف كتبه وأخرجه «أحمد عبد الله» فى تجربته الثانية بعد فيلم «هليوبوليس»، فوضع من خلاله بصمة لا تنسى فى عالم الأفلام الروائية الطويلة، وعبّر به عن جيل كامل يحاول أن يقدم فناً مختلفاً، جيل يريد أن يصل إلى الناس ويتحقق من خلال التواصل معهم، وعن طريق الموسيقى والغناء يقول «ميكروفون» أشياء كثيرة، ويقدم التحية لمدينة الأسكندرية.. عاصمة الفن والجمال. بدأت فكرة «ميكروفون» عندما ذهب «أحمد عبد الله» إلى مدينة الإسكندرية واكتشف فيها ما يقرب من 30 فرقة شبابية تقدم إبداعاتها فى الشوارع والمنازل والجراجات، عاد مبهوراً ليتحدث مع المنتج «محمد حفظى» الذى تحمس تماماً لصناعة فيلم عن هؤلاء الموهوبين، واشترك الموهوب «خالد أبو النجا» فى الحماسة ليولد فيلم «ميكروفون» الذى يبدو صغيراً بحجم النفقات والتكاليف، ولكنه كبير بمعيار قيمته الفنية والإبداعية. لا ينطلق السرد فى الفيلم بطريقة تقليدية، ولكن من خلال مشاهد متناثرة تحكى عن بطل الفيلم وعن المدينة وشبابها وعن المشكلات التى تواجههم لتحقيق أنفسهم، وطوال الوقت يندمج الروائى مع التسجيلى، وكلمات الحوار مع كلمات الأغانى البديعة التى تقدمها فرق لم يسمع عنها معظم الناس مثل فريق «مسار إجبارى» و«واى كرو» و «ماسكارا» و «صوت فى الزحمة». إنها فرق «تحت الأرض» ولكنها تريد أن يكون لها صوت، هو أيضاً ما يريده جيل كامل من الشباب المتمرد، وهناك خيط درامى رفيع يربط هذا السرد الحرّ هو حكاية «خالد» «خالد أبو النجا» العائد من أمريكا بعد غياب سبع سنوات، وبينما يزيد إحباطه عندما يكتشف أن حبيبته السابقة «هدير» «منّة شلبى» تريد الهجرة إلى بريطانيا للحصول على الدكتوراة، فإنه يستعيد إحساسه بالحياة، ويكتشف نفسه مرة أخرى من خلال هذه الفرقة الغنائية المنطلقة، شباب متفائلون، لا يتوقفون عن الغناء رغم فشلهم فى العثور على فرصة من خلال الدوائر الرسمية، وتندمج مع رحلة «خالد» لاكتشاف هذه الفرق، رحلة متوازية لفتاة اسمها «سلمى» «يسرا اللوزى» وزميلها «مجدى» لتصوير فيلم وثائقى عن هؤلاء الشباب، وتمتلىء الصورة بكل مفردات المدنية وعالمها الصاخب وحيويتها الدافقة، وتبدو فى الصورة شخوص أخرى مثل بائع الشرائط الذى يطارده البوليس، والصبية الموهوبة «آية» التى ترسم على الحوائط، ويندمج الغناء والموسيقى مع اللوحات والأماكن والبشر والبحر والصخور ليقول لنا فى النهاية إن من حق هؤلاء أن يكون لهم «ميكروفون»، وأن على الأسماك أن تعوم بحرية وإلا ماتت فى أماكنها. تُثبت السينما المستقلة بهذا الفيلم الصادق والحميم والساخر أنها قادرة على تقديم روائع حقيقية، ويُثبت خالد أبو النجا كممثل وكمشارك فى الإنتاج أن الفنان المثقف يستطيع أن يفعل الكثير بدعمه للموهوبين وللتجارب غير التقليدية، كما يولد من خلال هذا العمل مخرج كبير اسمه «أحمد عبد الله» الذى سيطر بمهارة واحتراف مع المونتير «هشام صقر» على طوفان هائل من اللقطات ليصنعا منها فى النهاية مدينة للجمال والفن، لدينا أيضا الاكتشاف المذهل لمدير التصوير «طارق حفنى»، وللفرق الغنائية الرائعة، وللموهوبين الذين يظهرون لأول مرة مثل «محمد صالح» و«عاطف يوسف» و«آية» و«ياسين قُبطان»، وتحية خاصة للمحترفين الذين ساندوا التجربة مثل «منة شلبى» و«يسرا اللوزى» و«سلوى محمد على».