«فى بداية حياتى المهنية كصحفى اكتشفت إلى أى حد كان افتقارى للقدرة على «ضبط النفس» يؤثر فى حياتى. جاء هذا الاكتشاف من خلال حادث عادى للغاية، ولكنه كان من أهم الدروس التى تعلمتها فى حياتى. ففى أحد الأيام وفى المبنى الذى كان فيه مكتبى، حدث نوع من سوء التفاهم بينى وبين حارس المبنى، مما أدى إلى درجة عالية من التنافر بيننا. وكنوع من إظهار كراهيته لى كان الحارس يسحب الكهرباء من المبنى حين يعلم أنى أعمل بمفردى فى المكتب. حدث ذلك عدة مرات حتى أننى قررت أن أرد له الصاع صاعين».هذه فقرة من قصة يحكيها الكاتب الأمريكى الراحل نابليون هيل فى كتابه «قانون النجاح» الذى كتبه عام 1928، إلا أنه يُعاد طبعه الآن بصور متعددة، لأنه يعتبر الملهم الأول لعدد كبير من كتب التنمية الذاتية الأكثر مبيعا فى عالم اليوم. وفى هذا الكتاب يضع نابليون هيل خمس عشرة «قانونا»، لكل واحد منها جانب نفسى وآخر روحى، وثالث عملى، يقول إنها وراء نجاح الإنسان فى حياته ماديا ومعنويا. وقد رصد هيل هذه القوانين بناء على بحث استمر نحو عشرين عاما تتبع فيه قصص حياة أكثر من مائة شخص من كبار الشخصيات التى حققت نجاحا ملموسا فى الحياة، وأثرت فى حياة البشرية، كما تحدث بنفسه مع هذه الشخصيات ليكتشف الصفات المشتركة بينهم، ومن أشهر هذه الشخصيات توماس إديسون، وجراهام بيل، وهنرى فورد، وتيودور روزفلت، وغيرهم كثيرون. مصيدة الانفعال العاطفى ومن بين مئات القصص التى يحتويها الكتاب وتستحق الإشارة لها فى مقالات قادمة بإذن الله، اخترت هذه القصة التى يحكيها نابليون هيل عن نفسه، فى الفصل الخاص بقانون «ضبط النفس». فيكمل الكاتب قصته قائلا:«جاءت الفرصة لأنفذ ما نويت عليه تجاه ذلك الحارس حين جئت لمكتبى يوم العطلة الأسبوعية لأحضر خطابا كان علىّ أن ألقيه فى اليوم التالى. وما كدت أجلس على مقعدى حتى أُطفئت الأنوار. قفزت سريعا وتوجهت للبدروم حيث توقعت أن أجده. وحين وصلت رأيته يجرف الفحم فى المدفأة، وهو يصفر بشفتيه نغمات موسيقية، وكأن شيئا لم يكن. وبدون أى مقدمات أخذت أوجه له أنواعا من السباب أكثر حرارة من النار التى كان يشعلها. وحين أفرغت كل ما عندي، وجدته يقف بكل شموخ، ويقول لى بكل هدوء وعلى وجهه ابتسامة عريضة: لابد أن شيئا ما قد أثارك هذا الصباح، أليس كذلك؟». «شعرت بكلماته وكأنها خنجر طعننى به فى صدرى، ووقفت أمام هذا الرجل الذى لا يعرف حتى أن يقرأ أو يكتب، لكنه هزمنى هزيمة ساحقة فى مبارزة قد اخترتها بنفسى. بعدها وجدت ضميرى يؤنبنى للغاية، فلم يكن ما بى مجرد إحساس بالانهزام فحسب، وإنما شعور قوى بأننى أنا المعتدى، مما ضاعف من إحساسى بالمهانة، فأنا الطالب بالدراسات العليا فى علم النفس، ودارس الفلسفة، وقارئ شكسبير، وسقراط، وأفلاطون وإميرسون، والكتاب المقدس، يقف أمامى رجل أمى لا يعرف أى شىء عن الأدب والفلسفة، لكنه جلدنى فى معركة كلامية». من الانفعال إلى تدبر الأمر «لم أرد عليه، وعدت إلى مكتبى بأقصى سرعة ممكنة، فلم يكن أمامى أى شىء يمكننى فعله. وأخذت أفكر فى الأمر برمته وعرفت خطئ، لكن لم تكن لدى الرغبة والشجاعة الكافية لأفعل ما كان يجب علىّ فعله حتى أصحح خطئ. كنت أعرف أنه كان على أن أعتذر لهذا الرجل حتى أستعيد السلام مع نفسى والسلام معه. وأخيراً قررت أن أعود للبدروم، وأتحلى بما يجب على من التواضع. لم يكن القرار سهلا ولم أتخذه بسرعة. أخذت طريقى للبدروم، وأنا أسير ببطء محاولا أن أفكر كيف سأنجز مهمة الاعتذار بأقل قدر من التعرض لمزيد من المهانة». «حين وصلت للبدروم ناديت الحارس ليأتى إلى عند الباب. حضر عندى، وبصوت هادئ ونبرة طيبة قال لى: ماذا تريد هذه المرة؟ قلت له أنى جئت لأعتذر له عما فعلته معه من أذى، وأطلب منه أن يسمح لى بذلك. ومرة أخرى ملأت الابتسامة العريضة وجهه وقال: «بحق الله ليس واجبا عليك أن تعتذر، لم يسمع أحد ما قلته، إلا الجدران، وأنا، وأنت. وأنا لن أروى ما حدث لأى مخلوق، وأعرف أنك لن تفعل ذلك أيضا. إذا.. انس الأمر كله». «كانت ملحوظته هذه المرة طعنة لى أقسى من الأولى. فهو لم يُعرب فقط عن استعداده للعفو عنى وإنما أعلن أيضا عن رغبته فى أن أسدل الستار على كل ما حدث حتى لا تنتشر القصة وتسبب لى أى أذى. لكنى سرت إليه وأمسكت بيده وأخذت أربت عليها ليس بيدى فحسب ولكن بقلبي. عدت إلى مكتبى وأنا أشعر بارتياح لأننى استجمعت الشجاعة التى استطعت بها أن أصحح الخطأ الذى فعلته». تطور نفسى كبير «ولم تكن هذه نهاية القصة، إنما هى البداية، فبعد هذه الواقعة صممت بينى وبين نفسى ألا أضعها أبدا فى موقف أتيح فيه لإنسان ما، جاهلا أم عالما، أن يهيننى بسبب أنى لم أتمكن من ضبط نفسى. وبعد هذا القرار حدث داخلى تغيير ملحوظ. صار قلمى أكثر قوة، وصار لأحاديثى وزن أكبر، صرت أكسب أصدقاء أكثر، وأعداء أقل بين معارفى من الناس. لقد كان هذا الحدث واحدا من أهم نقاط التحول فى حياتى. لقد علمنى أن الإنسان لا يمكن أن يتحكم فى أحد قبل أن يتعلم كيف يتحكم فى نفسه». لقد جعلتنى هذه التجربة أفهم معنى العبارة القائلة:«إن من يريد الله أن يهلكهم يصابون أولا بالجنون». لقد أعطتنى أيضا مفهوما واضحا عن قانون «اللامقاومة»، وساعدنى أن أفهم مواضع كثيرة فى الكتب المقدسة عن هذا القانون كما لم أفهمها من قبل. هذه الواقعة وضعت فى يدى مفتاح المرور لمخزون من المعرفة التى أضاءت طريقى فى كل ما قمت به فى حياتى فيما بعد. صارت القدرة على ضبط النفس سلاحا قويا للدفاع عن نفسى حين كان أعدائى يحاولون تحطيمى. وهو سلاح لم يخذلنى أبدا». «ضبط النفس» صاحب أمين ليس من الواضح فى القصة ما إذا كان ذلك الحارس بريئا من التهمة التى وجهها له نابليون هيل، أم أنه كان ماكرا إلى الدرجة التى جعلته يتعامل بذلك القدر من «البرود»، متظاهرا بالبراءة والطيبة. وطبعا ليس المقصود فى ذاته أن نعرف حقيقة ذلك الحارس، وإنما المقصود أن نعرف أن عدم ضبط النفس يسبب المهانة لصاحبه فى كلا الحالين. فلو كان الرجل لئيما إلى الحد الذى جرجر نابليون هيل إلى هذه المهانة عن قصد، فعدم ضبط الأخير لنفسه جعله فريسة سهلة لمصيدة الحارس. ولو كان الحارس بريئا، فعدم ضبط النفس جعل نابليون هيل يظلمه ظلما بينا ويهينه بلا داعى. إن المهانة والإحساس بالذنب والندم الذى ذاقه هيل بعد أن جرّب الانصياع للمشاعر الانفعالية الخالية من التأنى والحكمة، جعله يكتشف قيمة التحلى بصفة «ضبط النفس». ويوضح الكاتب أن ضبط النفس يبدأ بضبط «الأفكار»، فالعواطف والانفعالات السريعة وغير المنضبطة تتكون فى رحم أفكار سلبية آلية سطحية. فإذا ما تدرب الشخص على أن يكتشف سريعا أنه معرّض لخطر الانصياع للانفعالات الغريزية، فستهدأ عواطفه، و يعرض الموقف على منطقة الحكمة داخله، فتلهمه بما يفعله فى مثل هذا الموقف بما يضمن له حقه، ودون أن يظلم أحدا. تجربة «ضبط النفس» عند نابليون هيل كانت أيضا بابا من أبواب الدخول إلى مملكة النفس العليا بكل ما فيها من صفات جميلة. فقوله عن قيمة «اللامقاومة» لا تعنى طبعا ألا يقاوم الإنسان الظلم أو الشر، وإنما تعنى أن يكتسب الحكمة والإيمان الذى يجعله يشهد بقلبه وعقله ما يمكن أن يتعلمه من وراء هذا الحدث، بدلا من مجرد رفضه، والاعتراض عليه. لقد ساعدته هذه المَلَكة على أن ينجو من أعدائه لأنه ما عاد يتناغم مع شرورهم. وساعدته بنفس القدر على أن يعمق ارتباطه بالأصدقاء وكل الأخيار. لقد تعلم نابليون هيل من خطئه ما لم يكن ممكنا أن يتعلمه من «صوابه». لكنه لم يكرر الخطأ نفسه أبدا. تدريب: تأمل فى المواقف التى تقابلك وتحتاج إلى «ضبط النفس». هل تنجح أم تفشل؟ ابحث عن السبب فى الحالين[email protected]