كانت شمس القاهرة لا تزال فى منتصف السماء بعد أن انتصف شهر نوفمبر من عام 1977 وكنت فى زيارة تهنئة بمناسبة اقتراب عيد الأضحى لزملاء الدفعة الأولى بكلية الإعلام الذين جمعنى بهم العمل فى جريدة «الأخبار» بعد التخرج، وشاءت الأقدار أن أفترق عنهم بانتقالى إلى المجلة الجديدة التى أصدرها الرئيس السادات باسم «أكتوبر» تمجيدا وتخليدا لذكرى النصر العظيم، وأسند تأسيسها ورئاسة تحريرها إلى الأستاذ أنيس منصور، والتى صدر عددها الأول يوم «31» من شهر أكتوبر عام 1976. وفى «الأخبار» علمت بالخبر.. المفاجأة المذهلة.. الرئيس السادات سيسافر بالفعل إلى إسرائيل.. غادرت «الأخبار» مهرولا إلى «أكتوبر»، وجدت الأستاذ حامد دنيا مدير التحرير «رحمه الله» فى مكتبه ومعه بعض الزملاء أبلغتهم بالخبر وكأنى فجرت قنبلة مدوية.. ساد الصمت والذهول لحظات، ثم بدأت المداولات والتحليلات ثم الاجتماعات للترتيبات والاستعدادات لتغطية الحدث فى عدد المجلة الذى سيصدر بعد أيام. ولأن الأستاذة مريم روبين مدير تحرير المجلة للشئون العربية «والتى انتقلت إلى «أكتوبر» بترشيح منها.. كانت فى تونس لتغطية اجتماعات وزراء الخارجية العرب، فقد تم ضمى لفريق العمل نائبا عنها. فى صبيحة اليوم التالى.. عشية سفر الرئيس لإسرائيل اتصلت رئاسة الجمهورية بالأستاذ جميل عارف مدير التحرير للشئون السياسية لإبلاغه بالاستعداد للسفر مع الرئيس بدلا من الأستاذ أنيس رئيس التحرير الذى كان مسافرا وكل رؤساء التحرير لأداء فريضة الحج. ولما كان الأستاذ جميل عارف يستعد للسفر بعد عيد الأضحى بأيام إلى السودان بدعوة من الرئيس نميرى فقد أحال إلى الدعوة للسفر بدلا منه.. اكتفاء بسفره المفاجئ إلى إسرائيل وإيثارا منه ومكافأة لى على حد تعبيره رحمه الله. غير أن ثمة مفاجأة أخرى وقعت إذ وجدنا الأستاذ أنيس بيننا فى المجلة فقد أرسل الرئيس طائرة خاصة بعد إغلاق مطار جدة عادت به ورؤساء تحرير الصحف للقاهرة قبل وقفة عرفات بيوم واحد لمصاحبته فى تلك الرحلة باستثناء الأستاذ محسن محمد رئيس تحرير الجمهورية الذى أثر البقاء لأداء الحج. وعن هذه العودة المفاجئة من مكة إلى القاهرة ثم السفر إلى إسرائيل فى اليوم التالى.. كان الأستاذ أنيس وببديهته الحاضرة دائما يقول مازحا: لقد أسرى بى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والذى أدى فيه صلاة العيد مع الرئيس فى اليوم التالى لوصوله إلى تل أبيب. *** ظلت قلوب المصريين جميعا معلقة فى الصدور تترقب، ولم تهدأ إلا بعد أن شاهدنا الرئيس على شاشات التليفزيون ينزل من الطائرة وخلفه الوفد المصرى الذى ضم الدكتور بطرس غالى الذى عينه السادات وزير دولة للشئون الخارجية قبيل السفر بساعات، بعد أن قدم إسماعيل فهمى وزير الخارجية فى ذلك الوقت استقالته.. رفضا للمبادرة. ومن المشاهد التى لا تنسى أن الدكتور بطرس غالى ومعه الأستاذ موسى صبرى رئيس تحرير «الأخبار».. دخلا المسجد الأقصى بصحبة الرئيس السادات والوفد المصرى، وحضر الاثنان صلاة العيد.. وقوفا فى أحد جوانب المسجد. بعد الصلاة بدأت زيارة الرئيس الرسمية وأنظار العالم تتابع ذلك الحدث الكبير، وحيث ألقى السادات خطابه البليغ الحضارى فى «الكنيست».. شارحا موضحا مبادرته والتى هزت إسرائيل كلها.. وحظيت باحترام وتقدير المجتمع الدولى إذ أن القائد المنتصر فى الحرب يفتح ذراعيه بالسلام وللسلام.. السلام العادل.. داعيا إلى نبذ الحروب.. مخاطبا كل زوجة ترملت وكل أم ثكلى وكل ابن ذاق مرارة اليتم.. مطالبا إسرائيل بأن تتجاوب مع نداء السلام من أجل الحياة والبناء بدلا من الموت والدمار.. فاستحق أن يصفه العالم بأنه بطل الحرب والسلام. *** وفى «أكتوبر» وبعد أن عاد الأستاذ أنيس.. أطلعنا على تفاصيل الزيارة وكواليسها وتداعيات المبادرة المتوقعة.. مؤكدا أن السلام آت وأن إسرائيل سوف تنسحب من سيناء بالكامل.. أى أن المبادرة قد نجحت. كيف يا أستاذ أنيس؟!.. نحن الصحفيين نسأله فيقول لقد سألنى الرئيس كيف وجدت الشارع الإسرائيلى فقلت له: إن الإسرائيليين سعداء غير مصدقين أن السلام قادم، فقال الرئيس: إذن لقد نجحت المبادرة يا أنيس. أما الدليل على نجاح المبادرة ومنذ اليوم الأول فكان آلاف الخطابات التى أرسلها الإسرائيليون إلى الرئيس السادات على مقر إقامته فى فندق «الملك داوود» يشكرونه على مبادرته بالسلام ويؤكدون تأييدهم لها ولأن الخطابات باللغة العبرية فقد كلف الأستاذ أنيس زميلنا الأستاذ رفعت فودة محرر الشئون الإسرائيلية ومعه زميلتنا الأستاذة وفاء طه ناجى بترجمة تلك الخطابات حتى يقرأها الرئيس. *** ولقد كانت مبادرة السادات للسلام وما تلاها من أحداث وتطورات سببا فى توسيع قسم الشئون الإسرائيلية بالمجلة وانضمام زملاء من دارسى اللغة العبرية تباعا وهم على التوالى.. الزميلة الأستاذة ميرفت الحصرى و «هى الآن محررة اقتصادية بجريدة الأهرام والزميل الأستاذ حسام رشاد «سافر للخارج ثم عاد إلى عمله الأصلى بهيئة الاستعلامات» ثم الزميلة الأستاذة أسماء سيف التى مازالت حتى الآن تواصل عملها فى تغطية ورصد وتحليل الأوضاع داخل إسرائيل ثم الزميل الأستاذ حسين سراج الذى مازال أيضا يواصل تحليلاته السياسية المتميزة. بهؤلاء الزملاء المتميزين كان لدى «أكتوبر» أول وأهم وأكبر قسم شئون إسرائيلة فى الصحف المصرية والعربية، وكانت متابعاتهم وتغطياتهم الصحفية منذ المبادرة وتوقيع «كامب ديفيد» ثم معاهدة السلام عام 1979 هى الأهم والأفضل. وقد لا يعلم هؤلاء الزملاء المتميزون أن الأستاذ أنيس منصور أراد أن يتأكد من تمكنهم وإجادتهم للغة العبرية خاصة أن تلك الفترة كانت تتطلب متخصصين على مستوى عال، وحدث أن كان الصحفى الإسرائيلى المعروف يعقوب خزمة وهو عراقى الأصل ومتزوج من مذيعة تليفزيونية إسرائيلية مصرية الأصل هى ليلى نجار.. كان فى زيارة للمجلة وإذا بالأستاذ أنيس يستدعى بعض هؤلاء الزملاء «لم يكن الأستاذ حسين سراج قد انضم بعد لأسرة التحرير» وتركهم يتحدثون مع ذلك الصحفى الإسرائيلى، وبعد انصرافهم أكد أنهم ممتازون فى اللغة وكذلك فى متابعة الشأن الإسرائيلى، فاطمأن الأستاذ أنيس وأطلق لهم العنان فأجادوا جميعا وفى فترة لاحقة انضم إليهم الزميل الأستاذ حسنين الدرس. ومما يذكر أيضا أن الزميل رفعت فودة والذى كان أول محرر للشئون الإسرائيلية بالمجلة منذ صدورها.. وقف فى المؤتمر الصحفى المشترك للرئيس السادات ومناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل فى «ميناهاوس» مستأذنا الرئيس أن يسأل بيجين بلغته أى بالعبرية، وبعد أن وجه سؤاله وقبل أن يجيب رئيس الوزراء الإسرائيلى قال للسادات: يا سيادة الرئيس إن هذا الشاب عبريته أفضل من عبريتى ولأن المؤتمر الصحفى كان مذاعا على الهواء وشاهده العالم كله، فقد أصبح رفعت فودة أشهر صحفى مصرى وقتها، وكان ذلك مصدر سعادة لنا جميعا على المستوى المهنى. غير أن فودة هاجر بعد سنوات إلى أستراليا.. تاركا وراءه الصحافة والنجاح واستقر هناك حتى الآن وحصل على «الدكتوراه» فى أدب أنيس منصور. *** أما أنا.. وعودة إلى دعوة السفر إلى السودان، فقد كان من الطبيعى أن يستردها منى الأستاذ جميل عارف بعد إلغاء سفره مع الرئيس إلى إسرائيل، ولكنه أبى أن يتراجع عن قراره ويسترد هديته لى وقال: أنت الذى ستسافر.. وهكذا كان تصرف الكبار. ولكن رئاسة الجمهورية السودانية أصرت على توجيه دعوة ثانية لمجلة أكتوبر، وسافرنا نحن الاثنين.. الأستاذ جميل وأنا. وصلنا الخرطوم.. بعد مبادرة السادات بنحو عشرة أيام ورغم أن دعوة الزيارة كانت لحضور افتتاح الرئيس نميرى لمشروع «الرهد» الزراعى أكبر المشروعات الزراعية فى السودان، إلا أننى بالتشاور مع الأستاذ جميل عارف وجدتها فرصة لاستطلاع رأى الشارع السودانى وردود أفعاله إزاء المبادرة. وبالفعل أجريت الاستطلاع الذى شمل كل فئات الشعب السودانى.. النساء والرجال والشباب.. من العمال وأساتذة الجامعة وطلابها وأصحاب المتاجر ورجل الشارع فى تجمعات الأسواق والمقاهى فى الخرطوم وأم درمان. كان رد الفعل مذهلا وعلى غير ما توقعت، فقد كان الشعب السودانى كله مؤيدا بالإجماع للمبادرة، وقد أصر الأستاذ جميل أيضا.. حرصا وتشجيعا منه على أن أحقق نجاحا فى أول مهمة صحفية خارج مصر. أن تكون رسالتى هى أول رسالة صحفية من الخرطوم بينما أجل كتابة مقاله عن الزيارة إلى ما بعد عودتنا وبمعاونة من الأستاذ محمد محجوب «رحمه الله» المستشار الإعلامى للرئيس نميرى.. طارت رسالتى على أول طائرة متجهة إلى القاهرة.. حملها طيار سودانى وسلمها للمجلة.. تحت عنوان: الشعب السودانى يؤيد مبادرة السلام. وبعد عودتنا.. استقبلنى الأستاذ أنيس وهنأنى على فكرة الاستطلاع ومضمونه ثم أبلغنى أيضا بإعجاب الرئيس السادات وإشادته. *** مرت الأيام والشهور.. متثاقلة.. وبدأت مراحل الانسحاب الإسرائيلى من سيناء.. تابعنا خلالها على صفحات «أكتوبر» مماطلات ومماحكات إسرائيل حتى تحقق الانسحاب الكامل وإن كان القدر لم يمهل قائد النصر وصاحب المبادرة حتى يشهد انسحاب إسرائيل من آخر شبر من سيناء، إذ رحل فى يوم عرسه وذكرى انتصاره «6 أكتوبر». *** ومن الذكريات التى لا تنسى أيضا.. تلك المقالات التى كانت تكتبها الأستاذة مريم روبين.. إحدى أهم مؤسسى «أكتوبر» فى كشف ممارسات ومماطلات إسرائيل ورئيس وزرائها مناحم بيجين وفى فضح جرائمه الإرهابية ضد الشعب الفلسطينى حتى من قبل قيام إسرائيل. ومن طرائف تلك الذكريات أن الأستاذ أنيس منصور كان يقول لكل من يتصل به عاتبا غاضبا من المسئولين الإسرائيليين والإعلاميين أيضا.. إنها «أى الأستاذة مريم روبين» تقف على باب مكتبه وفى يدها بندقية.. تهدده بها إذا لم ينشر مقالاتها.. ها. ها. ها. *** ومرت سنوات وسنوات.. جرت خلالها مياه كثيرة تحت الجسور.. فى المنطقة وفى المجلة أيضا. *** هذه بعض الذكريات التى عشناها فى «أكتوبر» استدعتها ذاكرتى فى الذكرى الثالثة والثلاثين لمبادرة السلام التى قام بها الرئيس السادات يوم «19» من شهر نوفمبر عام 1977، وحيث استدار الزمن وجاءت ذكرى المبادرة متزامنة مثلما تزامنت منذ ثلث قرن مع عيد الأضحى المبارك. هذا التزامن هو ما دفعنى لكتابة هذه السطور واستدعاء تلك الذكريات.. احتفالا وإحياء لذكرى بطل الحرب والسلام.. صاحب مبادرة السلام.. الذى أكدت الأيام أنه كان بعيد النظر.. ثاقب الرؤية.. سابقا لعصره. ثم إنها أيضا احتفال بعيد ميلاد مجلة أكتوبر الرابع والثلاثين.. وبداية عامها الخامس والثلاثين.