يحقق الكاتب الروائي عزت القمحاوي نقلة جديدة في روايته الحارس الصادرة حديثا عن دار العين للنشر، فبعد روايته الصاخبة والمأساوية غرفة تري النيل يستبطن القمحاوي فكرة الهيراركية والتراتبية داخل أحد أشكال النظام الاجتماعي الذي تثقله الظلال السياسية عبر فكرة الحارس ويمثله بطل الرواية وحير ، والمحروس، وهو شخص الرئيس الذي يظل رمزيا طيلة الرواية، لدرجة يعتقد معها بعض الحراس في مرات كثيرة أنهم يحرسون الوهم، وربما كانت المواكب الكثيرة التي ينهض بحراستها لا تضم سوي واحد من كلاب الحراسة أو الكلاب المنزلية. ينتقل القمحاوي علي مستوي بناء الرواية إلي صرامة وهندسة غير مسبوقتين تتحدد في إطاريهما شخوص الرواية ويتمحور البناء حول شخصية البطل وحيد دون أن تتشظي السرود الي تفتيت بؤرة الحكي، وكأن ثمة قصدية تكمن وراء بناء القامع والمقموع معا داخل إطار تحكمه علاقات لا إنسانية في معظمها وتهدف الي خلق حالة من التماهي بين الدور الاجتماعي وبين الكيان الإنساني لدرجة أن البطل ينسي اسمه تماما ويصبح مجرد ترديده يثير الكثير من الغرابة مكتفيا بصفة ونداء حضرة الملازم . تتخلق صورة الحارس في إطار مكاني يشي ولا يفصح، فهو علي الأرجح، ومن خلال علاماته الروائية، مكان في العالم الثالث يعتمد علي هوس غير مسبوق بتقديس السلطة ومن ثم تقديس الكثير من طقوسها، وتأتي حراسة الرئيس علي هذا المستوي من الولع والإفراط في قمع الشعب مجتمعا لصالح سلامة المواكب الرئاسية، ولعل تلك الدلالة تتجسد في العديد من أحداث الرواية، فعندما يفتح الضابط وحيد النار في احدي الليالي علي طائرة ورقية رغم تأكده من هويتها يحال هو وزميل الوردية المسائية الي التحقيق الذي يتباري خلاله قائدا الضابطين كل في الدفاع عن ضابطه ثم تنتهي المحاكمة بترقية كلا الضابطين، كذلك ينال ترقية أخري في حادث مماثل لمجرد أن واحدا هجس بملامسة الزعيم أو حلم أو تصور أنه يؤذيه. كذلك تظل صورة سيدة تقف في إحدي إشارات المرور لا تغادر مخيلة الضابط وحيد الذي تنتابه العديد من المشاعر حيال سعادته بقمعها علي هذا النحو، ولا تخلو الرغبة في هذا القمع من رغبات جنسية مكبوتة. أيضا لا تكاد تفارقنا صورة الحبيبة التي ارتبط بها وحيد وكان يعد للزواج منها، حيث ترتبط بآخر بسبب غيابه الطويل والمتكرر، فلا يستغرق الأمر منه مجرد سماع الخبر، ولا يعود ثانية للتفكير فيه، ثم نشاهد علاقات وحيد فيما قبل وظيفته الجديدة وهي تتلاشي واحدة بعد أخري، بعد أن فشل الضابط في التأقلم مع الحياة المدنية، وهو في هذا السياق لا يفتأ أن يذكرنا بقولة أحد قواده وهو يكررها علي مسمعه: المدنيون والجنود أحط مخلوقات الله، وأنتم كضباط يجب أن تنأوا بأنفسكم عن الاختلاط بهم . يصل الخوف من السلطة وفرط تقديسها في اعتقاد الضابط وحيد الي أن السلطة يمكنها أن تعرف فيما يفكر وذات قيلولة راودته امرأة في حلمه، ونتيجة التباس غير مقصود في كلمة السر التي يتلقاها يوميا اعتقد أن القيادة اطلعت علي حلمه، فاصيب بارتجاف بالغ، وهذا ليس بغريب إذا ما طالعنا ذلك الحوار الساخر الذي يدور بين أحد الضباط وبين وحيد عندما تسأله الأول عن اسمه بسخرية طالبا إليه أن يشرح له ماذا يعني هذا الاسم وعندما يجيب تبدو الإجابة غير مقنعة ويدور هذا الحوار: الآن نعم، لكن كل من رأيتهم هنا كانت لهم في البداية أسماء، بعضها أجمل من اسمك أيها الملازم. ومن سلبكم أسماءكم يا سيادة الرائد؟ لا أحد أيها الملازم، نحن تخلينا عنها. لم سيادة الرائد؟ الناس يكونون بحاجة إلي الأسماء عندما يعيشون لأنفسهم، أما الحراس الذين يعيشون من أجل الرئيس فلا حاجة بهم للأسماء. الأسماء جزء من وجودنا يا سيادة الرائد، هي دليل وجودنا تقريبا. دليل وجودنا في سلامة الرئيس. هذا هو الحوار الذي ينتهي بنسيان وحيد لاسمه اكتفاء بصفته الأولي سيادة الملازم . وتستمر إغراءات السلطة في التصاعد، وفي الاعتقاد اليقيني بالأهمية القصوي لذلك الدور عبر تفكير وحيد الجدي في الإقدام علي ابتكار غريب أوحي به إليه تقسيم شاشة التليفزيون الي أكثر من شاشة، ويتصور أنه يمكن اختراع ذراع للتحكم في سير الناس في الشارع وكذلك في الموكب الرئاسي حيث من الممكن أن يتجاور كلاهما دون أن يكون ثمة علاقة بينهما مثلما يمكننا أن نشاهد علي الشاشة نفسها فيلما غراميا، ومباراة لكرة القدم، يقول الراوي مشيرا الي مبعث تلك الفكرة علي لسان الضابط وحيد: من غير المعقول أن تبقي حياة الرئيس معلقة بضغطة إصبع علي زناد من مجهول، وربما من جندي او ضابط مختل من صفوف الحرس، أو انتحاري يفجر نفسه وسط الموكب . ويضيف الراوي: وشيئنا فشيئا بدأت الفكرة تتحرك نحو مركز دماغه، وشرع في تصور الوسائل العلمية الممكنة، التي اتخذت شكل التجارب المتقنة في أحلامه، لكنه يستيقظ في كل مرة فلا يتذكر شيئا من منظومته التي كانت أثناء النوم شديدة المنطقة والأحكام . هذا هو المكان الروائي الذي تتحدد ملامحه دون إفصاح وهو ما يحفظ للحدث الروائي الكثير من الطزاجة والحرية. أما الزمان الروائي فهو الآخر وإن كان غير محدد إلا أنه يعد زمنا مستمرا علامته الوحيدة الأبرز: القمع، وهيراركية السلطة، تبدي ذلك في الحراك العام لقيادة كتائب الحرس حيث تبدأ الأوامر من أعلي ويتقلص نصيب الضابط من إصدار هذه الأوامر ويصبح متلقيا لها في معظم الحالات كلما تصاغرت رتبته. وزمن السلطة هنا زمن متصل لا يقطعه تغير القواد أو الضباط أو الجنود وحتي الرئيس نفسه لا يملك تغيير طبيعة هذا الزمن، ولا طبيعة تجلياته، فالنظر الي أحداث الرواية يؤكد أن البناء السلطوي يبدو من فرط قوته وقسوته وكأنه زمن إلهي تدخلت العناية في صياغته، ومن ثم تبدو كل الأشياء والعوالم خارج هذه المنظومة الدقيقة وكأنها لا شيء، لذلك فإن تغييب العامة أو الشعب في الرواية يبدو مقصودا، علي ما في ذلك من تكريس لقسوة وتعاظم السلطة، إلا أنه يشير إلي الوجود الاعتباري لهذه الكتلة الضخمة الشعب في بؤرة بعيدة في عقل الرئيس. كذلك يبدو غياب الرئيس نفسه عن المشهد وانعقاد الدراما علي شخوص الحراس نوعا من التغييب المتعمد الذي يستهدف إضفاء مزيد من القداسة علي هذا الغياب، فهذا الكم الهائل من الإمكانات والبشر والعتاد من أجل شخص لا يراه أحد، إنه شيء يبدو أحيانا أكبر من الرؤية، ومن ثم يبدو أكثر إلغازا، وهو ما يعمق فكرة القداسة المكتظة بالقمع. تتبدي أكثر هذه التجليات التي تقف علي سلم الميتافيزيقا من خلال فكرة الكتيبة الخفية ، وهي الكتائب المنوط بها حراسة الرئيس لكن لا أحد يعرفها لا أحد يعرف أعضاءها، تبدو أحيانا كشائعة وأحيانا تتبدي كحقيقة مطلقة، فهي المنوط بها التخلص من الضباط المخطئين بطرق مختلفة، أحيانا ما يكون ذلك بالتصفية الجسدية الفورية رميا بالرصاص، وأحيانا ما يكون ذلك بالعزل، وأحيانا بالإقصاء والنقل إلي أحد الأماكن النائية المنسية. لقد سمع الضابط وحيد عن الكتيبة الخفية، لكنه لا يعرف عنها شيئا أكثر من كونها تشبه العناء في الاسطورة، غير انه تأكد فيما يبدو من وجودها عبر موقفين: الأول عندما يكتشف وحيد أمر أحد الضباط من زملائه في سهرة بغرفته ويفاجأ به يمد يده بين فخذيه أي فخذي وحيد بعد ذلك لا يجد الضابط في الكتيبة ولا يجد تفسيرا لذلك سوي الجملة التي تتردد في هذه الحالات: الكتيبة الخفية تولت أمره ، أما الموقف الثاني فيحدث عندما كان يفكر في الذهاب إلي المكتبة للبحث في إمكانات تنفيذ اكتشافه لتأمين الموكب الرئاسي، فيحذره أحد الضباط بشكل واضح: اياك والمكتبة، بعدها يختفي الضابط، لكن وحيد لا يتجرأ علي مجرد السؤال عنه، غير انه يعلم أن الكتيبة الخفية تولت أمره هو الآخر. وتنتهي الرواية بينما الضابط وحيد ينتظر دوراً كقائد لكتائب الحرس، لكنه كان قد أمسي مريضا. في البداية كان الأمر يبدو وكأنه نزلة برد لكنه استحال الي ضيق في التنفس يبدو جزءا من وباء اجتاح البلاد مؤخرا، ومع ذلك فإنه يخرج لتفقد نوبة الحراسة مع قائده لكنه يتداعي، وهنا يقول الراوي: ابتسم القائد مغتبطا بكونه استطاع أن يخمن بالضبط حدود قدرة نائبه، ولم يقترح عليه الجولة من دون استعداد يناسب وهنه. أشار إلي أحد الجنديين فخرج مستدعيا جنودا أربعة كانوا ينتظرون في الخارج بمحفة، استلقي النائب عليها، ووتروه ببطانية، تقدم القائد وخلفه حمل الجنود محفة نائبه الذي أخذ شهيقا عميقا متلذذا برائحة الاسطبلات التي تهب عليهم رغم سكون الهواء . إن رواية الحارس رغم تحللها كما أسلفنا من الزمان والمكان وتحويلهما الي زمن ومكان مطلقين، إلا أنها لا يمكن فصلها عن مناخات القمع التي يعايشها الكاتب وشعبه سواء كان ذلك في المحيط الصغير للحياة اليومية في بعدها الشخصي، أو للمحيط الأوسع الذي تمثله كافة طوائف الشعب في وجه سلطات غاشمة تحولت لديها فكرة الحراسة الي عبادة للقمع بكافة تجلياته وتحول فيها شخص الرئيس إلي أقنوم يرتقي الي أعلي مراتب الميتافيزيقا، غير أن عدم تورط الرواية في التعيين وتركها الفكرة الأساسية طليقة من الأسماء جعلها تأتي مخترقة للزمن الروائي وهو ما سيكتب لها حياة أخري. علي مستوي آخر تبدو لغة القمحاوي شديدة التقطير والحذق، وتستمر طيلة الرواية دون أية تزايدات أو ترهلات، وهي سمة تميز لغة القمحاوي في معظم أعماله، وربما كان البناء المحكم الذي يتمحور حول شخصية البطل الملازم وحيد حافزا لهذا التقشف الذي حدد النمو الدرامي في إطار لم ينشغل بالثرثرة أو التداعيات، أو الرغبة في البحث عن السيرة الشخصية في أضابير الحكايات المترامية هنا وهناك، علي ما نري في الرواية الجديدة المطروحة في السنوات الأخيرة. إن رواية الحارس لعزت القمحاوي هي إضافة لعالمه الروائي وإضافة للرواية الجديدة، التي تتخلق بعيدا عن فوضي الجوائز والمؤتمرات والترجمات والضجيج الإعلامي. عن القدس العربي