في كتاب “الطيب صالح – سير وشهادات من محطات العمر”، يعرض مؤلفه الكاتب خالد غازي لما دار بينه وبين صاحب السيرة الروائي السوداني الراحل، فعندما عرض المؤلف الكتاب، الذي يضمّ حوارات وشهادات للطيب صالح عليه قبل وفاته بشهور قليلة، علّق صالح بقوله “يا أخي أنت والله شاغل نفسك بي في جمع حوارات وشهادات، هناك من هو أهم مني وأشمخ مني قامة لتبذل هذا الجهد”. لو كان لنا أن نختار من بين الشخصيات التي كتبت في الرواية العربية، ونقوم بحصر ثلاثة أسماء منها مثلا، فسنجد ما يشبه الإجماع على ثلاث شخصيات خالدة وراسخة في ذهن القارئ العربي، بداية من سعيد مهران لنجيب محفوظ مرورا بمصطفى سعيد للطيب صالح إلى زكريا المرسنلي لحنا مينا. شخصيات تركت أثرا بالغا، وهو ما سنلاحظه مثلا عند الطيب صالح في كتاب حول سيرته. ويقول المؤلف: إنه بعد أن انتهى من الكتاب في طبعته الأولى بعنوان “الطيب صالح .. أوراق من محطات العمر” أرسل نسخة بالبريد لصاحب السيرة، لكن المظروف عاد للمؤلف مرة أخرى ومكتوب عليه “لم يسلّم لمن أرسل إليه”، لأن الموت كان قد سبق ساعي البريد. ويصف المؤلف صاحب السيرة بأنه روائي غريب، سجّل اسمه كإحدى قامات الرواية في العالم العربي بل وفي العالم، بالرغم من أنه كتب روايات معدودة، بل ترك أعمالا مميّزة ينبع تميّزها من غرائبيتها ومفرداتها المشحونة بدلالات عميقة. لعنة الهجرة للشمال كما في عنوان رواية الطيب صالح الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال”، ينقل المؤلف ما قاله صاحب السيرة عن نفسه بأنه كمن أصابته لعنة الهجرة إلى الشمال، فهو قد وُلد في قرية كَرْمَكوْل في إقليم مروي شمالي السودان، لكنه عاش على ضفاف النيل في العاصمة المصرية القاهرة، قبل أن يجد نفسه متنقلا بين لندن وباريس والدوحة، بالرغم من أن أمنيته على الدوام كانت أن يرحل إلى منابع النيل في الحبشة. لكن وعلى الرغم من الترحال المستمر لصاحب السيرة نحو الشمال، إلا أن الطيب صالح يقول عن بلده المنتمي للجنوب “أما السودان، فأنا أحمله بين جوانحي، وحيثما ذهبت وحيثما أذهب، هذا هو الوجع البدائي واللانهائي الأول، السودان بلد مليء بالثراء النفسي والروحي، فيه طاقات ومواهب، فيه نساء ورجال إبداع.. كان من الممكن أن يكون السودان أحسن صورة.. السودان حاضر في مخيلتي أكثر”. ويصف الطيب صالح بلده السودان بأنه “الوجع البدائي واللانهائي الأول” بما يشي بعدم رضائه عن الأوضاع في بلاده حيث يقول “يكون السودان أحسن صورة”، إلا أن ذلك لم يمنع أن يكون انحياز الطيب صالح لقضايا بلاده انحيازا معبّرا عن فكره ورؤيته بلا قيد ولا شرط، ولا انحيازا لفكر حزب أو جماعة. ويقول المؤلف “إن صاحب السيرة، ويصفه ب‘عبقري الرواية العربية‘، تطرّق في أعماله إلى السياسة والجنس والمجتمع، كما تطرّق للاختلافات بين الحضارتين العربية والغربية”، ويعتبر المؤلف أن صاحب السيرة من خلال قصصه القصيرة، يقف في صف واحد مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس. وعلى خلاف ما اعتاد عليه المؤلفون العرب من تقسيم كتبهم إلى فصول أو أبواب، فإن خالد غازي في كتابه الذي بين أيدينا اختار أن يقسّم كتابه عن الطيب صالح إلى مقدمة وبوابتين، البوابة الأولى تضمّ سيرا لصاحب السيرة وصفها المؤلف بأنها “أوراق في محطات الزمن”، أما البوابة الثانية فتضمّ شهادات إنسانية عن قرب للطيب صالح كتبها كل من إبراهيم الصلحي، أحمد عبدالمعطي حجازي، بشير محمد صالح، حسن أبشر الطيب، صلاح أحمد محمد صالح، طلحة جبريل، محمد إبراهيم الشوش، محمد الحسن أحمد، محمد خير عثمان ومحمد صالح خضر. منسي ومصطفى سعيد في شهادته حول الطيب صالح، يجيب إبراهيم الصلحي عن سؤال كبير شغل مئات الآلاف من الشبان والفتيات العرب، بل والأجانب الذين افتتنوا بشخصية الفتى الشاب السوداني مصطفى سعيد في رواية “موسم الهجرة للشمال”، هذه الشخصية التي اكتست بثوب زير النساء وصياد الفرائس من فاتنات الإنكليز في بلاد الضباب، فللوهلة الأولى ظن كل من قرأ “موسم الهجرة للشمال” أن مصطفى سعيد هو الطيب صالح نفسه، خاصة مع وجود تقاطعات في الشخصية الروائية وشخصية مؤلفها، وظل السؤال الذي لا يخلو من إعجاب من جانب الشباب وفتنة ورغبة جانب من الفتيات المفتونات بسحر الشرق وطقوس البخور السوداني؛ هل الطيب صالح هو نفسه مصطفى سعيد؟ والإجابة التي تركها الطيب صالح لغز بلا إجابة، كشفها إبراهيم الصلحي في شهادته حول صديقه الطيب صالح بتأكيد أن مصطفى سعيد شخصية اختلقها الطيب صالح ورسمها بحرفية ودقة ليدلل على صراع بين عالمين متباينين يختلفان لكن قد يلتقيان على قدم المساواة، لكن لا صلة لها من قريب ولا من بعيد بالشخصية الحقيقية للطيب صالح حتى في عنفوان شبابه وخلال فترة إقامته وعمله في العاصمة البريطانية لندن. لكن إذا كانت شخصية مصطفى سعيد في “موسم الهجرة للشمال” شخصية خيالية، فإن شخصية صديقه المصري القبطي “منسي”، هي شخصية حقيقية بالرغم من ملامحها الأسطورية، فهي لرجل خارق القدرات، يستطيع أن يقوم بكل الأدوار بالرغم من تناقضها، عاش على ملة ومات على ملة أخرى، لكنه عندما يموت يترك مزرعة من مئتي فدان في إنكلترا، ومزرعة من مئة فدان في الولاياتالمتحدة، وقصرا ذا أجنحة في جنوب إنكلترا، وبيتا في واشنطن، ومطعما، وشركة سياحية. أما حسن أبشر الطيب، فقد وصف الطيب صالح بأنه شأنه شأن شاعره الأثير أبي الطيب المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وتوطّدت مكانته في الآفاق، كما أشار الطيب إلى أن انتشار أعمال الطيب صالح لم تقتصر على الجمهور العربي واللغة العربية فقط، بل ترجمت أعماله للغات الإنكليزية والفرنسية والتشيكية والألمانية والصينية واليابانية والمجرية والإسبانية والإيطالية والهولندية والتركية والبولندية والنرويجية والبلغارية والسلافية والمجرية والدنماركية والكورية وحتى اللغة العبرية .