بات كل فرد اليوم يمتلك جهاز موبايل خاصا به، من الأطفال إلى الشيوخ، هذا الجهاز الذي فرض تغييرات هائلة في ظرف زمني قصير نسبيا، محدثا ثورة في عالم التواصل والتحصيل المعرفي وفي المجال الاجتماعي والثقافي، وانتشر تأثيره ليتغلغل في أبسط مظاهر وأحاسيس وأفكار الفرد ومنها إلى التأثير الاقتصادي وحتى السياسي الكبير على مسار الدول من خلال تمكنه من احتلال واجهة الأدوات الإعلامية. التأثير الكبير للموبايل بين رافض له ومرحب به ومحذر منه كان محورا هاما انفردت مجلة الجديد بملف كامل عنه، ناقش فيه مثقفون وكتاب عرب هذه الظاهرة بالغة الدقة والأهمية. كرّست مجلة “الجديد” الثقافية الشهرية اللندنية عددها ال46، الصادر في نوفمبر الحالي 2018، لظاهرة أسمتها “ثقافة الموبايل”، في 7 أبواب هي: الافتتاحية، مقالات، رؤى غربية، سينما، أصوات، تحقيقات واستطلاعات، والأخيرة. وهي مبادرة ربما لم تقدم عليها أي مجلة ثقافية عربية منذ ظهور هذا الجهاز الخطير في حياتنا حتى الآن. الجهاز الخطير نقرأ في العدد الجديد من المجلة مقالات وتحقيقات واستطلاعات لكل من سمية عزام، أحمد برقاوي، حسن مشهور، رجاء البوعلي، أحمد العجمي، جعفر حسن، عبدالله الهميلي، أحمد الماجد، ميموزا العراوي، محمد الحجيري، رضا إبراهيم محمود، عباس الحايك، طاهر الزارعي، ريما إبراهيم حمود، محمد السيد إسماعيل، علي كريم السيد، أيمن بكر، محمد عبدالباسط عيد، إيهاب سلطان، محمد طيفوري، إبراهيم قعدوني، أبوبكر العيادي، جونثان دوداي، زكي الصدير، مخلص الصغير، صابر بليدي، أمين الزاوي، طاهر علوان، وهيثم الزبيدي. تتعرض المقالات إلى الإشكاليات التي تفتح بابا للباحثين عن أجوبة لأسئلتهم الحائرة، بصدد هذا الجهاز الخطير الذي دخل على حياة البشر من دون استئذان، فصدم المخيلة والعقل معا، وخلخل الصيغ القديمة التي كان الناس قد ألفوها في سلوكهم ومعاشهم، وفي طرائق تواصلهم مع العالم، وسبل نيلهم المعارف، بل وفي طرائق تعريفهم لأنفسهم وطرح هويتهم في عالم يزداد اتصالا بين أطرافه على نحو غير مسبوق في التاريخ. كما تقدم المقالات معرفة وتثير نقاشا لم يكونا متاحين، حتى الآن، فباستثناء مقالات متفرقة هنا وهناك، لم يُقرأ هذا الجهاز قراءة ثقافية عربيا، ولم يجر تناول الموضوعات والظواهر المتصلة به. أما التحقيقات والاستطلاعات التي تضمنها العدد، فإنها ترصد التحولات التي أدخلها الموبايل على حياتنا بوصفه بوابة ثقافية وطريقة للحصول على المعارف أخذت تسود وتتحول إلى ضرورة لا يمكن مقاومتها على الإطلاق، ما يجعل السؤال الأكثر واقعية ليس: كيف نتجنب الموبايل، بل كيف نطور أداءنا لنجعل من هذا الجهاز ضرورة إيجابية؟ في افتتاحية العدد كتب رئيس التحرير نوري الجراح عن الخوف من الموبايل، الذي يبدو لدى فئات واسعة من المجتمعات العربية عنوانا مستجدا للخوف المزمن من الجديد. فالعائلات العربية تصب على هذا الابتكار اللعنات ليل نهار لما أدخله على حياتها من فوضى ثقافية عصفت بالبيت وطمأنينته، واستولت على أفراد الأسرة من الطفل إلى الشيخ. لكنها، رغم ذلك، تستسلم له مهزومة ومقهورة أمام وجوده الجامح المفروض بقوة الواقع وقوانين السوق والعصر. ويخيّل إليه أن ما يجرى، اليوم، على شبكة الإنترنت، وعبر الموبايل خصوصا، هو صورة من صور الانفتاح الواسع للثقافات والحضارات على بعضها البعض، وصورة، أيضا، من صور التسابق الحضاري، فهذا الواقع الافتراضي بات حقيقة قصوى، إنه أرض وسماء لحركة الفكر، ومناطق شاسعة محررة للعقل البشري. بيت الإنسان الجديد تشبّه سمية عزام، في مقالها “إنسان متواصل في زمن مفتوح”، السؤال عن معنى الموبايل، ودوره في حياة الإنسان العصري، يافعا كان أو ناضجا، بسؤال الكتابة وما تمثّله بالنسبة إلى من يحترفها، فإن كانت الكتابة هي الحياة لمبدعها، فإنّ الموبايل تخطّى أن يكون وسيلة لإتقان فنّ العيش، ولم يبلغ حدود كونه غاية، غير أنّه، لحضوره الكثيف والمبالغ به، كاد يتملّكنا، متجاوزا الحدّ الذي رسم له بأن يكون خادما حين ابتكره العقل البشري وطوّره. ويرى أحمد برقاوي، في مقاله “البيت الجديد: الأنا والآخر والموبايل، منظور فلسفي”، أن أدق تعريف فلسفي لجهاز الموبايل هو أنه بيت الإنسان الجديد، فالإنسان يسكن الآن في بيت لا تتجاوز مساحته 30 سنتيمترا مربعا، والزمن الذي يقضيه خارج هذا البيت لا يتجاوز نسبة ضئيلة من زمنه اليومي، داخل هذا البيت توجد مختلف أشكال الحياة المعرفية والروحية والتواصلية. وصار الأنا مع الموبايل أقدر على الظهور كما يشاء، وضاق حجم المكبوت الشعوري الأخطر على الذات. فلقد أصبح التواصل الذي ينطوي على البوح بما كان مقموعا حالة عادية من حالات التعبير دون أي إحساس بالخطر. تعتقد ميموزا العراوي، في مقالها “الأرنب الأبيض والجيل الديجيتالي وفتنة الموبايل” أن ليس كل ما يحدث في عالم الموبايل يبعث على التشاؤم، بل ثمة فوائد كثيرة وأكيدة حظي بها الجيل اليافع منه “الجيل الديجيتالي”، الذي يرافق الأبناء أينما ذهبوا، حتى وإن قصدوا سريرهم مساء إلى النوم، فقد استخدمت الهواتف الذكية وغيرها من الآلات الإلكترونية في مجال التربية، وساهمت في تقديم كم كبير ومتنوع من المعلومات شأنها شأن مكتبة هائلة فيها الثمين والرخيص في آن واحد، وتتطلب معرفة وأدنى حدّ من الوعي الفكري والثقافي لتحديد الفرق. لكن العراوي توضح، من جانب آخر، أن الخبراء من مختلف أرجاء العالم يخلصون إلى أن الهواتف المحمولة بين يدي هذا الجيل تجعله أكثر كسلا وانعزالية وحزنا وليس بالعكس. ويرى علي كريم السيد، في مقاله “وسيلة المحبين والمثقف الشبكي”، أن الموبايل الحديث وفّر فرصة إمكانية للحب في مجتمع معزول يفرض الفصل بين الجنسين، فمعه صار الحب أسرع وأسهل، وأصبح التعارف ممكنا، وهذا شيء مهم ومفصلي، وغدت السيطرة الاجتماعية أصعب على الشباب واختياراتهم، حتى ظهر مصطلح “الحب عن بعد” في كتاب من تأليف عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غدنز بعنوان يحمل نفس المصطلح، ليشير إلى الأنماط والعلاقات العاطفية الجديدة التي فرضتها العولمة والتكنولوجيا الحديثة. لكن في المقابل صار التواصل في المناسبات والأعياد عن طريق الموبايل، ما أدى إلى إضعاف التفاعل والتواصل الاجتماعي والزيارات العائلية المليئة بالدفء، وصار الفرد يعبر عن مشاعره ويتعامل مع المناسبات من خلال الموبايل برسائل قصيرة فقط! وتجد ريما إبراهيم حمود أن الموبايل أصبح منبرا ثقافيا يمنح صاحبه القدرة على الوصول إلى الجمهور رغما عن قوانين دور النشر، ويمكّنه من تلقي النقد المباشر، فيكفي أن تنشئ صفحة على أحد مواقع التواصل، وتضيف الأصدقاء لتتسع الدائرة وتبدأ بالنشر لتتلقى الآراء، وتكتشف مدى قبولك لدى الجمهور، هذا على افتراض صدق الأصدقاء الافتراضيين، وجديتهم في قراءة ما ينشر. على أن الموبايل أيضا مكّن أدعياء الثقافة من نشر ما يظنون أنه ينتمي إلى الأدب بكل سهولة، وأعطاهم القدرة على الثرثرة والدخول في سجالات لا منفعة منها، والتطفل على ساحة الأدب. تغييرات هائلة ينفي طاهر الزارعي، في مقاله “الموبايل وحاجاتنا السلوكية والثقافية”، إمكانية الاستغناء عن الموبايل الذكي، الذي انخرط في حياتنا، حيث يوفر لأي مقتن له حزمة من التطبيقات لا يمكن أن نجدها في جهاز الكمبيوتر أو التلفاز أو أي اختراع آخر، ومن ثم فنحن موجهون إلى هذا الموبايل في كل لحظاتنا وأوقاتنا، فأصبح رفيقا لنا في سفرنا وإقامتنا ومشاعرنا، بل أصبح ضرورة تواكب العالم بعد أن كنا منذ عقود مضت نعتمد على الورقة والقلم والبريد اليدوي وأمور أخرى اتسمت بالبطء واللامنهجية. المجلة تفتح بابا للباحثين عن أجوبة لأسئلتهم الحائرة، حول هذا الجهاز الخطير الذي دخل على حياتهم من دون استئذان يستعرض محمد الحجيري، في مقاله “التفاحة التي غيرت العالم”، التغييرات الهائلة التي أحدثها الموبايل الذكي في حياة الناس، مؤكدا أنه نسف المعايير، وقلب الموازين والعلاقات الاجتماعية. كما يقف على حجم الإقبال على اقتنائه، مشيرا إلى أن نحو نصف البالغين في العالم اليوم يحملون هاتفا ذكيا، وفي سنة 2020 سترتفع النسبة إلى 80 بالمئة من البالغين. وبات بعض المراقبين يرددون أن ثلاث تفاحات غيّرت العالم: تفاحة آدم وتفاحة نيوتن، مكتشف قانون الجاذبية، وتفاحة شركة “أبل” التي أسسها جوبز، ويبين الكاتب أن المراهقين البريطانيين يفضلونه على التلفزيون والكمبيوتر وألواح الألعاب الإلكترونية، فالعلاقة العصابية بالهاتف ظاهرة بلغت مبلغا من الانتشار حمل البريطانيين على اشتقاق كلمة لوصفها “نوموفوبيا”، أو ما نسميه ب”رهاب فقدان الهاتف الذكي”، ويعني توتر الشخص حينما لا يكون هاتفه الذكي بحوزته. يقدم طاهر علوان، في مقاله “الموبايل والسينما: الاستخدام الإشكالي للجوال في فضاء السرد الفيلمي” مقاربة لتحول الهاتف النقال في الدراما الفيلمية إلى وسيلة لا غنى عنها لكشف الحقائق والوصول إلى حالة من الانقلاب الدرامي والتحولات الدرامية، فالموبايل هنا، يكشف الحقيقة، ويراقب الخصم، ويفتعل الأصوات، ويشهد على الجريمة ويصورها، ويصبح أيضا أداة قاتلة في بعض الأحيان، وقد اختار الكاتب من بين العديد من الأفلام ثلاثة أفلام بمثابة عينات لاستقصاء الظاهرة من زوايا عدة، وهي فيلم “خلوي” للمخرج ديفيد إيليس، وفيلم “كابينة الهاتف” للمخرج جويل شوماخر، وفيلم “هاتف خلوي” للمخرج تود وليامس. يختم مؤسس المجلة وناشرها هيثم الزبيدي العدد بمقال عنوانه “المصباح الذكي X.. السارق من الآخرين كل عزيز”، يؤكد فيه أن الهاتف الذكي طوّح بالكثير من الأجهزة التكنولوجية، سرق منها كل عزيز، الخبر المرئي والمسلسل والفيلم من التلفزيون، الخبر المكتوب من الصحيفة، النص من الكتاب، الصوت من الهاتف، الصورة والفيديو من الكاميرا، الغرور من الكمبيوتر. الهاتف الذكي كما كتب الزبيدي انقلاب حقيقي كامل الأوصاف، معه تغيّرنا، ولم نعد كما كنا. فحرية الحركة جعلتنا نفكر بالأشياء بشكل مختلف. ومع هذا التغيير تغيّرت أشياء كثيرة لعل أبرزها الإعلام، فقد صارت القنوات تشتغل وعينها على الهاتف الذكي كمنصة، والصحف تنشر مقالات أقصر وبعناصر بصرية، الكتاب يتحوّل بالحجم الذي يناسب حجم الشاشة، الهاتف يعمل على الشبكات المدفوعة التقليدية لكنه يستخدم المكالمات عبر البرامج المجانية للتحادث والتواصل المرئي بدلا من المكالمات التقليدية، الكمبيوتر صار في جيبنا. تغيرت ثقافة الاستهلاك تماما.، تغيّرت ثقافة النقل، تغيّرت ثقافة الثقافة، تغيرت ثقافة العلاقة الاجتماعية.