الجديد، وربما المفاجئ، الذي يراهن عليه صُنّاع عرض المسرحية المصرية “السيرة الهلامية”، هو تقديم هاملت في إطار كوميدي ساخر، واستعراضي غنائي من جهة أخرى، فضلا عن إلباس المسرحية ثوبا صعيديا معاصرا من حيث المكان والزمان واللغة، وخلط أحداثها بالسيرة الهلالية المنتمية إلى الثقافة الشعبية العربية. المثير كذلك أن “هاملت شكسبير”، الذي يمثل أيقونة للازدواجية والصراع النفسي و”المونولوغ” الذاتي الذي يبرز تناقضاته وانقساماته الداخلية خصوصا في اللحظات العصيبة التي يكتشف فيها خيانة عمه ويقرر الانتقام، يتحوّل في “السيرة الهلامية” إلى شخصيتين متصارعتين بدلا من شخصية واحدة، وذلك من أجل إفساح مجال أوسع لإبراز هذا الصراع الثنائي بداخله. وحمل عرض “السيرة الهلامية” بصمات فرقة “مسرح الطليعة” التي يديرها الفنان شادي سرور، ومن أبرز أعضاء فريق العمل: الحسن محمد (التأليف)، محمد الصغير (الإخراج)، محمود وحيد (التأليف الموسيقي)، مصطفى حامد (الديكور)، هبة مجدي (الأزياء)، عبدالله الشاعر (الأشعار)، بالإضافة إلى فريق التمثيل: محمود المصري، مصطفى السعيد، مها حمدي، محمد إبراهيم، رأفت سعيد، حسن عبدالله، رامي عبدالمقصود، بلال علي ومحمود سليمان. ويكشف عرض “السيرة الهلامية” وعيا لدى صنّاعه، من حيث انتقاء العناصر الملائمة من الحقول المتنافرة التي تمتزج بسلاسة في العرض المحمّل بتقاطعات تراثية متعدّدة وروح عصرية، فهذه “الهلامية” التي يطرحها العنوان تحمل في بواطنها قدرة على الحسابات الدقيقة، والهندسة الإيقاعية، كي لا يطغى رافد موضوعي على الروافد الأخرى، أو تتحوّل الهلامية إلى مجرد تهويمات من غير جسد. عن هذه “التوليفة الموزونة بعناية” يقول الفنان شادي سرور مدير فرقة مسرح الطليعة في حديثه : “يقترح العرض خطوة تجريبية في المقام الأول، لكن من خلال معطيات مدروسة ومشروطة، حيث تمتزج كلاسيكية النص الشكسبيري وشعبية تغريبة بني هلال و'الحدوتة المعاصرة' في بيئة صعيدية مصرية، وتغلف الكوميديا الساخرة المأساة الانتقامية، مع إفساح الفضاء للغناء والموسيقى والأشعار العامية والاستعراض والتعبير الجسدي”. الرغبة في الانتقام، وازدواج الشخصية، وجوهر الحكاية، هي أبرز الخطوط التي استدعاها عرض “السيرة الهلامية” من “هاملت” شكسبير، مع إعادة طرح السؤال الهاملتي الأشهر “أكون أو لا أكون؟” باللهجة الصعيدية على لسان هاملت العصري “هرّاس”، الذي يقول مستحضرا رغبته في الانتقام من عمه “أكون ولا ما أكونش؟ آخد بالتار ولا ما آخدش؟”. واستقت “السيرة الهلامية” جوهر حكاية “هاملت”، فالقصة الاستعراضية المأساوية الكوميدية (على حد تعبير راوية العرض) تبدأ بظهور شبح الأب لبطل المسرحية هرّاس، ويخبر الشبح هرّاس بخيانة عمه وتورطه في قتل أبيه بدس السم له في العسل الأسود، وزواجه من أم هرّاس بهدف السيطرة على الأرض التي كان يمتلكها الأب المغدور. ويستدعي العرض المصري “السيرة الهلامية” فن الأراجوز الشعبي في مشهد بديع تتأكّد فيه لهرّاس خيانة عمه، إذ عندما يشرع الأراجوز في سرد حكاية خيانة شبيهة انتهت بقتل الخائن، يصاب العم بالفزع الشديد، وكأنما يخشى مصيره المحتوم إذا اتخذ هرّاس قرار الانتقام، وهنا يتأكد هرّاس من خيانة عمه وتواطؤ أمه، وتبدأ رحلته مع الصراع النفسي “هل أنتقم فعلا من عمي وأمي؟”. والصراع الهاملتي الشهير، الذي تجسد في مسرحية شكسبير كمونولوغ، قدمه عرض “السيرة الهلامية” من خلال حيلة درامية مبتكرة، إذ انقسم هرّاس إلى شخصين، الأول: ضعيف متردّد، يحلم بالانتقام ولا يقوى عليه، والثاني: متحمس مقدام يتخذ قراره سريعا بضرورة القصاص. والمدهش أن الذي نفّذ الانتقام في النهاية هو هرّاس الضعيف، في إشارة إلى مدى تأثره بهرّاس القوي، وتماهي كل شخص منهما مع الآخر. ولم تأتِ الكوميديا في المسرحية عرضا خارجيا أو “إفيهات” مقحمة عليها، لكن جاءت نصّا أصيلا، إذ تحوّلت التراجيديا بالكامل إلى ملهاة ساخرة من بدايتها حتى نهايتها. كل شيء يوحي بالهزل، فالراوية تتّخذ سمت المهرج، والأراجوز يسرد المفارقات في حكيه الشعبي المصحوب بموسيقى مرحة. وتتوالد جملة من المواقف والحوارات بين هرّاس وأبيه، يتفجّر فيها الضحك من خلال “سوء الفهم”، أو عدم قدرة هرّاس على استيعاب رغبة أبيه في تنفيذ الانتقام من العم والأم الخائنين، وهنا سر تميّز العمل، إذ تتحوّل التراجيديا الكلاسيكية إلى كوميديا معاصرة، قلبا وقالبا.