الثقافة فاكهة شجرة المجتمع. ومتى كانت التربة غير ملائمة، ولا راع يحرص على العناية بها، تظل الشجرة واقفة بلا ثمار، وتبدو أوراقها ذابلة بلا حياة، تنغل فيها الحشرات، ويجترئ عليها النمل والهوام. لا يمكننا الحديث عن الثقافة بدون تناول البيئة التي تحيط بها، ومتعهديها بالصيانة والحدب عليها لتعطي ما يرجى منها. أقصد بالبيئة الثقافية المجال الذي يوفر الاتصال والتواصل والعمل. وحين نتأمل أغلب الوجوه الثقافية المغربية التي أعطت الكثير في مجال الفن والفكر والأدب، نجدها قد تكونت في بيئة ثقافية ملائمة: دور الشباب، والأندية السينمائية، ومكتبة المدرسة، وفضاءات الفرجة في الساحات العمومية (الحلاقي). هذه هي الفضاءات التي كنا نفتح أعيننا عليها، ونقصدها في ساعات الفراغ، ومنها جاءتنا هموم الانخراط في الساحة الثقافية. كانت دور الشباب في مختلف أحياء المدن الكبرى، وكانت فعالياتها تمتد من الشطرنج والموسيقى والرياضة إلى الجمعيات الثقافية المختلفة. كما كانت الإعدادية والثانوية تضم «قاعة الانتظار» والمكتبة. كانت قاعة الانتظار تستوعبنا متى تغيب أستاذ، أو تأخر عن الحضور. يراقبنا فيها إداري، وننشغل بمراجعة دروسنا. كما أننا في الساعات الفارغة بين الدروس نذهب إلى المكتبة. وفي المناسبات الوطنية كنا نعد الأغاني والمسرحيات. وتلك نافذة الانتقال إلى دور الشباب لتأسيس الجمعيات الثقافية المختلفة. وفي السبعينيات وحتى أواسط الثمانينيات كان مسرح الهواة والأندية السينمائية والجمعيات الثقافية والموسيقية نتاج هذه البيئة الثقافية، التي كانت امتدادا للأنشطة الكشفية التي رعتها الحركة الوطنية إبان الاستعمار. وكانت الساحات العمومية في الأحياء الشعبية تتسع للحلقات الشعبية التي كانت تتنوع أنشطتها وفعاليتها الفرجوية. كان من نتائج هذه البيئة الثقافية بروز ظاهرة ناس الغيوان وجيل جيلالة، وظاهرة الثنائيات الساخرة (بزيز وباز مثلا)، وحركة مسرحية ناضجة مع الطيب الصديقي والبدوي، وعبد الرؤوف، ومع مسرح الهواة وتياراته الفكرية والفنية، وتطور اتحاد كتاب المغرب وفروعه المختلفة، وحركة تشكيلية نشيطة، وبروز حركة نشر يضطلع بها المثقفون وجرائد ومجلات ثقافية لا حصر لها، تعرض الكثير منها للمنع. وبداية تشكل ممارسة جنينية للإنتاج السينمائي. جاءت مذكرة منع النشاط الجمعوي بذريعة كونه لم يعمل سوى على تفريخ اليسار وتوطيد المعارضة. كما تم حظر الحلاقي في العديد من الساحات التي أقيمت فيها العمارات، بل ومنعت المواسم القروية التي كانت تقام في الصيف. ولما كان المسجد فضاء مفتوحا يقوم بدور خاص في الجانب الديني، فقد تعرض بدوره للإغلاق، وصار لا يفتح إلا في وقت الصلاة، بعد تفاقم استغلاله من لدن بعض الدعاة والوعاظ للتحريض، منذ بدايات السبعينيات. لم يخلق بديل عن هذه البيئة التي تربينا فيها ثقافيا، ومختلف فضاءاتها. صارت المدرسة للمقررات، والشارع للتسكع، والتلفزيون للمسلسلات، إنها البيئة البديل. لكن كل هذه الفضاءات كانت بلا روح ولا معنى ولا نتيجة. مع التطور، صارت القنوات الفضائية البيئة «الثقافية» التي توسع دائرة العين على مشاهدة ما لم تتعرف عليه من قبل. وصار الإشهار سيد الموقف، فسادت ثقافة استهلاك ما يأتي من الخارج، فقل الإنتاج الفني والمسرحي والغنائي، وحتى الرياضة لم تصبح متصلة إلا بالهزائم المتوالية في مختلف أصنافها. ومع اتساع دائرة الوسائط الجديدة، حتى البيت لم تبق له حرمته ولا سلطته. صارت لكل فرد لوحته وهاتفه، وهو منخرط في عالمه الافتراضي الخاص. وتعددت البيئات «الثقافية» التي ينهل منها الفرد ما يشكل وعيه، أو يبلور رؤيته للحياة، بدون توجيه ولا رعاية ولا آفاق. فما هي البيئة الثقافية التي هيأناها للأجيال الجديدة بعد اندثار البيئة القديمة؟ لقد تركناهم للوسائط الجديدة يتلهون بها ويضيعون الوقت، وللقنوات الفضائية يتابعون مسلسلاتها ومبارياتها، فصارت نماذجهم «نجوم» الغناء والكرة، فبدا ذلك في الأزياء وتسريحة الشعر؟ تركناهم لبيئات المحلات التجارية والإشهار، فباتوا يتنافسون على الأكلات السريعة وملابس الموضة. وتركتهم المدرسة «الجديدة» لا يفكرون إلا في الحصول على الدرجات والنقاط بدون بذل أي جهد، ونيل شهادات عليا مؤدى عنها، بلا تكوين حقيقي، وحلم الحصول على وظائف سامية بمرتبات خيالية. كل ذلك يتم بلا تكوين معرفي حقيقي، وبلا هاجس وطني وإنساني. يتساوى في هذه الصورة أبناء الأغنياء والفقراء، رغم الفروق الاجتماعية، لذلك لا عجب أن نجد غياب البيئة الثقافية الملائمة التي تسهم في خلق المواطن، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التطرف بمختلف صوره وأشكاله: التطرف في حب المظاهر، في الاستهلاك، في المخدرات، في ممارسة العنف الاجتماعي. وما التطرف الديني سوى وجه آخر من أوجه العنف الاجتماعي الذي يتشكل في تربة غير طبيعية ولا ملائمة. ولقد ساهم غياب دور الشباب والأندية السينمائية وفضاءات الرياضة والفرجة الشعبية ومكتبة المدرسة ومكتبة البيت، والحوار الإيجابي، وسيادة الفكر النقدي، بين مختلف مكونات المجتمع في إشاعة روح الاستهلاك والتواكل والانتهازية والفساد. إذا لم نهيئ التربة المناسبة للثقافة وللعمل الثقافي الجاد بقصد خلق المواطن القادر على التفاعل مع عصره بكيفية إيجابية، لا يمكننا إلا أن نخلق أجيالا كأنها أعجاز نخل خاوية؟ ... ٭ كاتب مغربي