(1) ترددت في الدخول وهي تقف أمام الباب، ثمّ دفعته ببطء، وتريثت قليلا متأملة المكان، وقد تبدّت الخيبة في ملامح وجهها، وفي وقفتها. اختارت طاولة صغيرة في الزاوية الأمامية للكافتيريا، وهو ما يمكنها من مراقبة حركة الشارع عبر الزجاج الفسيح. أخرجت ما بدا أنها رسالة من حقيبتها، وشملتها بنظرة ثابتة. لوت رسغها، وتأملت ساعتها، ثم زفرت وعادت تتأمل الرسالة. قررت أن لا أزعجها بالتوجه إليها لسؤالها عمّا تطلب. أومأت لأحمد برأسي باتجاه الفتاة، فتوارى في الداخل، ثم عاد حاملاً علبة محارم وكأس ماء بلاستيكي مغلق، ووضعهما أمامها. توارى داخل الكافتيريا وراء الباب الذي يفصل قاعة الزبائن عن الإدارة والمطبخ، وشغّل آلة التسجيل فتدفق صوت فيروز: نطرتك بالصيف نطرتك بالشتي تجنبت النظر إليها حتى لا أزعجها وأربكها، خاصة وهي الزبونة الوحيدة في هذا الصباح، والتي يبدو أنها تنتظر أحدا ما. وجدتني أتساءل: أهي تنتظر صديقة، أم حبيبا ؟ تشاغلت بالنظر عبر زجاج الواجهة، كأنني أيضا أنتظر أحدا. قلت لنفسي: طيلة النهار ونحن ننتظر حضور زبائن غالبا لا نعرفهم، حتى وإن أبدينا اهتماما ببعضهم، ممن يترددون على الكافتيريا، وطلب فنجان قهوة، أو كابتشينو، أو كأس شاي، أو مشروب بارد. هناك من يلوذون بالكافيتريا هربا من الحر صيفا، أو البرد شتاء، أو تنفيذا لموعد، أو تمريرا للوقت بانتظار أن يأزف موعد ما. اختلست نظرة إليها، فانتبهت أنها تضع على رأسها منديلا شفيفا، يكشف عن جبينها، وبعض شعرها الخرنوبي. أشعة الشمس تعبر الواجهة الزجاجية الفسيحة التي تمكن الجالس خلفها من رؤية كل شيء في الشارع، ومراقبة حركة الناس، والسيارات، وواجهات بعض المحال التجارية في الجهة المقابلة، وتأمل القارمات المثبتة على مداخل البنايات. كورت شفتيها ثم نفخت بشيء من الملل والتوتر، ثم طوت الورقة ودستها في حقيبتها، ورفعت رأسها، وحددت نظرة ثابتة عبر الزجاج، وبدت كأنها تراقب بلهفة، ثمّ نترت جسدها ووقفت متهيئة للانصراف. بدا كأنها تراني فجأة، حركت رأسها بسرعة كأنها تنفض خاطرا سيئا، أو تبدي اعتذارا عن ذنب لم تقترفه، وحركت حاجبيها كأنها تقول: ها أنا ذا قد انتظرت..ومن انتظرته لم يحضر. وهي تهم بدفع الباب نظرت إلي نظرة مواربة معتذرة كونها لم تطلب شيئا، فوجدتني ابتسم لها ابتسامة صغيرة كأنني أقول لها: لا عليك...هذا يحدث أحيانا. وددت لو أسالها: هل وعدك باللقاء هنا في كافتيريا( الأحبة) ؟ وددت لو أنصحها بأن لا تغضب، فالغائب عذره معه. أرسلت نظري لمتابعتها وهي تمضي متمهلة على الرصيف. كانت تتمشى خطوات قليلة ثم تعود لتقف في نفس المكان غير بعيد عن مدخل الكافتيريا. مرّت دقائق وهي تتمشى ذهابا وإيابا، ثم تقف متأملة سيارات التاكسي العمومي التي تتوقف غير بعيد عنها، لينزل منها بعض الركاب. فتحت حقيبتها، وأخرجت الرسالة. مزقتها، ورمت بها بقوة في سلة المهملات المثبتة بعمود النور، ومضت بخطى سريعة دون أن تنظر خلفها. (2) دفع الباب بقوة، وأجال النظر في المكان، وكأنه يتوقع أن يكون من يبحث عنه متواريا لسبب ما. ملامحه ليست غريبة، فهو تردد على الكافتيريا مرارا، لذا بات وجهه مألوفا. شاب متوسط الطول، عيناه سوداوان واسعتان، شعره أجعد يبدو غير معتنى به، فهو يمشطه ويتركه، لا يرده إلى الخلف لخشونته البادية، ولا يفرقه. كان دائما يحمل كتابا أو أكثر، ويقرأ بصمت. يُنقّل نظره على الصفحات، تارة يتنهد وتارة يبتسم، وأحيانا يخرج دفترا صغيرا ويدون فيه كلمات ثم يطوي الدفتر ويدسه في جيب سترته السوداء. ( يبدو كأنه لا يملك غيرها). جلس في الزاوية، تماما على مقعدها، ونظر في ساعته، وهز رأسه، وفي عينيه لحظت أسفا وحزنا. تساءلت: أيكون هو صاحب الموعد مع الفتاة ؟ نظر إلي وسألني بشيء من الحرج: _ هل أنا أول زبون هذا الصباح؟ فكرت قبل أن أجيبه (هذا الفتى ذكي، فهو لا يسأل إن كانت فتاة قد حضرت وانتظرت، ومضت قبل حضوره) أجبته ببطء متمعنا أثر كلماتي على وجهه: - حضرت فتاة، وجلست في الزاوية التي تجلس فيها، وانتظرت، ثم غادرت..و..انتظرت على الرصيف، و..بعدئذ... أخرج كتيبا من جيبه، ودفتره الصغير، وانهمك في تدوين كلمات، وهو ينقل نظره على الصفحة، وعبر الزجاج كأنه ينتظر عودتها. تساءلت: ما يدريني أن تلك الفتاة كانت تنتظره هو؟ تنبه إلى علبة المناديل الورقية المغلقة، فأخذ ينقر عليها، وبدا كأنه يهم بفتحها، ثم تأملها طويلاً وقلبها كأنها تحوي سرا يهمه معرفته. هل أدرك أن الفتاة لم تطلب شيئا، ولم تفتح العلبة، ولم تشرب حتى كأس الماء؟ أزال غطاء كأس الماء، ثم أخذ جرعات صغيرة متلاحقة، ومسح فمه بمنديل من العلبة التي فتحها. وقف بعد أن انتزع بعض المناديل. مررها على وجهه. عاد وجلس، وكتب شيئا على العلبة. ترك ورقة نقدية، هزّ رأسه . رأيت دموعا في عينيه، حاول أن يخفيها. عندما صار في الخارج جلست مكانه في الزاوية، وأخذت أتابعه وهو يتوارى بخطوات بطيئة، في حين وجدتني أتساءل عن سر هذين الشابين. تأملت الكلمات التي دونها على العلبة بخط مشوّش: لماذا أتأخر دائما؟ هل هذا ذنبي يا حبيبتي؟ لماذا لا ينتظرني أحد؟ رفعت العلبة، و..قررت أن أحتفظ بها. إن جاءا معا ذات يوم، سأفاجئهما بها. من يدري: لعله يسبقها في الحضور في المرّة القادمة. لعله لا يتأخر عن الموعد..لعلهما يحضران معا!. من يدري!. ...... *هذه ( القصة) تقع في حركتين لا ثالثة لهما، فهي لم تكتمل، وكثير من قصص ( الحب) لا تكتمل، وأنا لست متأكدا أنها قصة حب، ولذا تركتها بلا خاتمة.. لعل القارئ، أو القارئة، يكملانها بمخيلتهما... * إلى أحمد المديني، الروائي والقاص.