وُلد مصطلح الفيلم الوثائقي من رحم الممارسة المبكرة ولادةً صاحَبَها الارتباك. فحين بدأ رواد السينما في أواخر القرن التاسع عشر للمرة الأولى في تسجيل أفلام لأحداث من واقع الحياة، أطلق البعض على ما كانوا يصنعونه اسم أفلام وثائقية بيد أن المصطلح، ظل غير ثابت لعقود وأطلق آخرون على أفلامهم واقعية وتشويقية وتعليمية، وعرَّف الفيلم الوثائقي بأنه التجسيد الفني للواقع يؤرخ للحياة اليومية وهو التعريف الذي أثبت صموده ربما لمرونته الشديدة. هكذا بدأت الكاتبة باتريشيا أوفدرهايي كتابها «الفيلم الوثائقي» والذي قامت بترجمته إلى العربية شيماء طه الريدي. ففي التسعينات من القرن الماضي شرعت الأفلام الوثائقية في التحول إلى مجال تجاري كبير في كل أنحاء العالم، وبحلول عام 2004، بلغ حجم النشاط التجاري العالمي في مجال الأفلام الوثائقية التلفزيونية وحده 4.5 بليون دولار سنوياً وازدهر أيضاً تلفزيون الواقع والمسلسلات الوثائقية، وفي مطلع القرن الحادي والعشرين تضاعفت الإيرادات السينمائية وبات تأجير الأفلام الوثائقية مجالاً تجارياً كبيراً. وتؤكد أوفدرهايي أن صدقية ودقة وموثوقية الأفلام الوثائقية مهمة لنا جميعاً وعندما تخدعنا تلك الأفلام، فإنها لاتخدع المشاهدين فحسب، ولكنها تخدع أفراد الجمهور الذين يتصرفون من منطلق المعرفة المستقاة من الفيلم؛ فالأفلام الوثائقية جزء من وسائل الإعلام التي لا تساعدنا فقط على فهم عالمنا، ولكن على استيعاب دورنا فيه، والتي تشكِّلنا بوصفها وسيلة إعلام جماهيرية. ودائماً ما يكون لفن الفيلم الوثائقي عنصران متصارعان غاية في الأهمية: التجسيد والواقع... فصنَّاعه يعالجون الواقع ويحرفونه مثل جميع صناع الأفلام، ولكنهم لا يزالون يدَّعون أنهم يقدمون تجسيداً حقيقياً للواقع، وعلى مدار تاريخ الأفلام الوثائقية دار جدال بين المخرجين والنقاد والمشاهدين في شأن مقومات الحكي الجدير بالثقة للواقع. ومع ظهور الإمكانات التكنولوجية تطور الفيلم الوثائقي. فقد أدى حلول الألوان والصوت وتكنولوجيا 16 ملليمتراً إلى تغيير الطريقة التي يمكن لصناع الأفلام من خلالها تصوير الواقع ورواية قصصهم كما أحدث حلول الفيديو أيضاً تغييراً جذرياً على صعيد الأشخاص الذين استطاعوا تصوير الواقع. ويُعرَّف الفيلم الوثائقي - كما تقول الكاتبة أوفدرهايي - كشكل فني بالتوتر القائم بين ادعاء الصدقية والحاجة لاختيار وتجسيد الواقع الذي يرغب المرء في إطلاع الآخرين عليه، فالأفلام الوثائقية هي مجموعة من الاختيارات عن الموضوع وأشكال التعبير ووجهة النظر وحبكة القصة والجمهور المستهدف فإن الفيلم الوثائقي دائماً ما يجسد الواقع بدلاً من الاكتفاء بعرضه. وستظل مشكلة كيفية تجسيد الواقع مشكلة تستحق المصارعة معها لأن الفيلم الوثائقي يقول لك: «لقد حدث هذا بالفعل وكان مهماً بما يكفي لعرضه عليك فلتشاهده" . ( الحياة)