ليست هوية الأدب سوى مجموعة من مُقومات أسس تُخصصه. ولن نذكرها جميعَها، وسنكتفي بإيراد الحاسم منها، وهي كالآتي: أ يُعَد الأدب تخييلا يُخلخل البنية الإسنادية (العلاقات التي تربط بين الموضوعات والأفعال في الحياة الاجتماعية) التي تتصل بالمُتعالي؛ حيث يُوضع كل شيء موضع مُساءلة، ويُجهَز على اليقين الاجتماعي والأخلاقي؛ فالتخييل الأدبي يتأسس على الخلقي بوصفه اختيارًا فرديا على مُستوى القيم، بينما يتأسس التخييل في ما قبل الأدب على صلاحية التخلقي الاجتماعي، ولا يُمارِس خلخلة البنية الإسنادية إلا داخل مُتاح المُتعالي من دون هدمه؛ فالذات تُؤسس في الأدب في إطار منظومة من الخروق المُستمرة للترابطات والاقترانات التي تُميز كل هيمنة أيديولوجية. ب لا يُمْكِن فهم خرق البنية الإسنادية إلا بربطه بتغير السكن في العالم بفعل تحول جذري في فهم الإنسان له؛ فقد نشأ من جراء انهيار الحقائق المُتعالية الجاهزة البحثُ عن معنى للعالم بوساطة الجهد الخاص، وتحمل عبء المسؤولية في ذلك. ومن ثمة كان الأدب تعبيرًا عن عدم كفاية العالم بفعل فقدانه خاصيتيْن: 1- التلاؤم بين الوسيلة والهدف. 2- النظر إلى العالم بكونه قابلًا لأن يكُون مُكتمِلًا. وقد ترتب على الشرخ الذي حدث بين الإنسان والعالم أنْ لم يَعُدْ هذا الأخير يُفصح عن نفسه بما يكفي، وصار السكن فيه غير مُلائم. ويتجلى نقص العالم في طبيعته المُجزأة، والافتقار إلى المعنى الذي يجعله مُستوعبًا من قبل نظام كُلي من التأويل؛ فالعالم الواقعي مُمفصَل بطريقة تمنع تجلي الصميم في الإنسان، وتُقلص إمكانات الاختيار المٌتاحة أمامه. لهذا يتأسس الأدب على تعذر البحث عن كل ما بفعل تنكر العالم لأصل أول. وهذا التعذر هو ما يقوله الأدب. ج يوزع التخييل الأدبي المادةَ التي يعمل على صياغتها إلى نوعين: الخارج بكل مظاهره المُختلفة، والداخل بكل أبعاده. لقد كان ما قبل الأدب يُقام على الاحتفاء بالخارج وإقصاء لغة الداخل، ووقف في تمثيله الخارجَ عند التوصيفات العامة التي تخدم الحكاية، بيد أن الخارج صار- في الأدب- مقصودا في ذاته؛ حيث يُحتفى بالحياة الجارية (اليومي بكل تفاصيله). لكن ما يُهم في هذا هو كيف يُصاغ الخارج؛ فقد اُسْتُخدِم سطحًا تتخفى وراءه قوى لا بد من الكشف عنها. ويتميز الأدب إلى جانب هذا بكونه قد انفتح على الحياة الداخلية. وقد كان هذا ناجمًا عن تحول الإنسان من كونه مركزًا للكون إلى ذرة تائهة فيه، وما جلبه التقدم والحروب من أسئلة حول طبيعته؛ فالحماس والتفاؤل سيختفيان ليحل محلهما اليأس والتشاؤم. وقد كان هذا التحول في المزاج كافيًا لخفوت الواقعية والطبيعية بوصفهما مدرستيْن أَعْلَيَتا من شأن الخارج، ولظهور الانحلال مع شارل بودلير ومجموعة من الأدباء المُتشبعين بالحساسية الجديدة، حيث ظهر الهوس بالعدمية وانصرف الاهتمام إلى الإحساسات النادرة، أو ما سماه موريس بارس بالآلة الإنسانية التي تشتغل على نفسها. كما ظهرت الرمزية التي عملت على تكليم الغامض الذي يقع خارج الوعي الواضح (جوناثان كيللر) بوساطة الرمز. د ومما يُميز الأدب أنه يضع نفسه موضع مُساءلة. والمقصود بهذا أنه يُخضع ذاته لتفكيره الخاص (كيللر). ولا يعني هذا ما ذهب إليه هذا الأخير من أن هذا التفكير يتخذ صبغة نقد ينصب على التجارب السابقة فحسب، بل يعني أيضًا التفكير في الهدف الاستراتيجي للنص الأدبي (التنظير من الداخل)؛ ويحدث هذا بوسائل التخييل، لا بوسائل التجريد النقدي. وتظهر هذه الخاصية في رواية «مزيفو النقود» لأندريه جيد التي يُفكر فيها في فن الرواية وحدود الكتابة ومسألة الخلق الأدبي. وقد يطرح الأدب قضايا نظرية تتجاوز تفكير النص الأدبي في نفسه إلى مُناقشة أسئلة تتصل بالجمال ومُحدداته، كما الأمر في رواية «صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس التي يعود فيها بنظرية الجمال إلى كل من أفلاطون وأرسطو، ومسألة الأجناس الأدبية إلى سانت توما. ه عدم قيام الأدب على المعيارية، ويتعدى الأمر- هنا- الرواية أو القصة القصيرة (والتر ريد) إلى غيرهما من النتاج الأدبي؛ إذ يُعَد التجريب الملح الأساس الذي يُميز الأدب طيلة تاريخه. وينبغي فهم التجريب بوصفه حركة تجديد تُشوش على النماذج السابقة، وتُمجد الحرية والاختيارات الفردية في الإنتاج الأدبي؛ الشيء الذي نتجت عنه مدارس أدبية مُختلفة، ما أن تستقر إحداها يظهر ما يُناقضها. إن الكتابة الأدبية لا تتميز إلا بمقدار ما تُحققه من مُغايرة بفعل انتهاجها مسافة جمالية تُجاه ما سبقها (كارلو جينزبورغ). وينبغي فهم عدم المعيارية بوصفها حدثًا فرديا مرتبطا بالتجريب، بيد أنها كانت دوما مصحوبة بالجدال حول تحولها عبر التراكم إلى معيارية. و هناك خاصيتان أدبيتان أخيرتان، خاصة في مجال الرواية والقصة القصيرة، تتمثل أولاهما في كون الشخصيات الروائية تُعَد نتاج الأدب نفسه؛ أي إنها تستمد منظوراتها إلى العالم من كتب أو قراءات مُعينة، ويصير مصيرها مُرتبطًا بما تُحاول تجسيده من هذه المنظورات. فهناك العديد من الروايات التي تأسست شخصياتها وفق هذه الخاصية، ونذكر منها ثلاثا: رواية «دون كيخوتة» لميغيل سرفانتس التي تُعَد فيها الشخصيةُ الرئيسة نتاجَ مقروئها الخاص المُتمثل في الروايات الفروسية، ورواية «مدام بوفاري» لجوستاف فلوبير التي تُعَد فيها شخصيةُ «إيما» نتاجَ ما كانت تقرأه من روايات رومانسية في أثناء وجودها في الدير. كما تُعَد شخصية راسكولنيكوف في رواية «الجريمة والعقاب» لفيودور دوستويفسكي نتاج قراءتها الفكرَ الفوضوي، ونتاجَ اطلاعها على حياة نابليون بونابرت. وتتمثل الخاصية الثانية في استعادة شخصية مُعينة أو شخصيات مُتعددة من نصوص أخرى للكاتب نفسه في نص آخر له، كما هو الحال في المجموعة القصصية «موسيقى سوداء» للروائي والقاص وليم فولكنر، وكما في رواية «الطوف الحجري» للروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو التي تُستعاد فيها شخصية الطبيب ريكاردوس التي كانت رئيسة في رواية «سنة موت ريكاردوس». تُشكل هذه المُقومات مبادئ تكمن خلف مفهوم الأدب، لكن السؤال الذي يثار- هنا- هو معرفة ما إذا كانت هذه المُقومات تُعَد حاسمة في فهم إشكالية الجنس الأدبي أم لا. أظن أنها غير كافية، فهناك تحول تاريخي في وسيلة التواصل يُعَد حاسما في هذا النطاق، وهذا هو موضوع المقال المقبل. ..... أديب وأكاديمي مغربي