عاش محمد علي اليوسفي حياته موزعة بين تونسودمشق وقبرص وبيروت ومدن أخرى، وموزعة أيضا بين الرواية والشعر والترجمة والنقد والفلسفة، انتبه وهو أحد أهم المترجمين العرب باكرا إلى أدب أميركا اللاتينية وافتتن بسحره وقدم رواده إلى القارئ العربي: ماركيز وأوكثافيو باث واستورياس وساموديو وكاربنتييه وغيرهم، كما ترجم باتاي ولوكاتش وكازانتزاكي وآخرين، لكنه منذ «حافة الأرض» إلى «عتبات الجنة» مرورا بعدد من الروايات والأعمال الشعرية والنقدية ظلّ الكاتبَ الهادئ الذي ينزع إلى التامل والحكمة و«غريب الدار» و«الصياد ذو الحظ العاثر». - أنت أول من ترجم غابرييل غارسيا ماركيز قبل أن يحصل على جائزة نوبل سنة 1982، حيث قدمتَ للقارئ العربي «حكاية بحار غريق» سنة 1980، و«خريف البطريرك» في العام الموالي، لماذا اخترت أن تدخل عالم الترجمة عبر ماركيز؟ وكيف كانت التجربة؟ للتدقيق، لست أول من ترجم ماركيز، بل كان عمله الأول «مئة عام من العزلة» من ترجمة المرحوم سامي الجندي، وقد لقي الكثير من الصعوبات في نشر الرواية المترجمة، إذْ رفضها روائي عربي كبير كان مشرفا على قراءة المخطوطات، كما روى لي الدكتور سامي آنذاك، ثم نشر الرواية في بيروت حيث صدرت عن دار الكلمة، بعدها مباشرة ترجمتُ أنا رواية ماركيز «حكاية بحار غريق» وتلتها «خريف البطريرك»، في الحقيقة روايات ماركيز لقيت نجاحا منقطع النظير حتى قبل نيله جائزة نوبل، القراء كانوا أحسن المستقبلين له، لكن دور النشر وقرّاء مخطوطاتها هم الذين كانوا يترددون ويعرقلون، كانوا ينصدمون بهذا النوع من الكتابة «الغريبة والمشوشة لطمأنينتهم»، وأكثر من ماركيز هناك أوكتافيو باث الشاعر المكسيكي الذي ترجمته وظل سنوات في أدراجي وقدمته لأكثر من دار نشر بيروتية من دون جدوى، وفي النهاية كان من حظ دار النشر الصغيرة التي نشرته ونال جائزة نوبل بعد أشهر قليلة، ولم يكن للعرب من مرجع إلا ذلك الكتاب «حرية مشروطة» الذي ضم ثلاثة دواوين من شعره. وللإجابة عن الجزء الثاني من سؤالك أقول انني لم أختر البدء بماركيز، ولاحقا أبرز كتاب أميركا اللاتينية، إلا بمنطق القبول الذي وجده هذا الأدب، كان يرضي ذائقتي وذائقة القراء، كما أنه حقق الرضا للطرف الثالث من المعادلة؛ أي الناشر، بعد أن قبضت يده مردود المغامرة. تسألني كيف كانت التجربة؟ أعتقد أنها كانت مفرحة لأصدقائي وأكسبتني ثقة القارئ العربي الذي ينتقي ترجماتي واثقا من اختياراتي، بقطع النظر عن الظروف الصعبة التي كانت تجري فيها الترجمة آنذاك خصوصا في ما يتعلق بحقوق المترجم، ولا تسأل عن حقوق المؤلف طبعا: روى لي صاحب دار الكلمة أن ماركيز اتصل مطالبا بحقوقه فاعتذر له قائلا اننا لا نطبع إلا بضع مئات من النسخ وإذا أردت سأرسل إليك بضعة دولارات! فانقطعت المطالبة! - لم تتوقف عند ترجمة الرواية والشعر، بل نقلت إلى العربية «بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية» لماكس هوركايمر، و«بلزاك والواقعية الفرنسية» لجورج لوكاتش، و«نظرية الدين» لجورج باتاي، و«من تونس إلى القيروان» لموباسان، وأعمالا أخرى، ما الذي كنت تراهن عليه وأنت تترجم كتبا في النقد والفلسفة والدين والسيرة والسينما والرحلات؟ لم أكن أراهن على شيء: فقط أترجم ما أراه مهما، من منطلق اهتماماتي أولا، ورغبة في فرحٍ ما، قد يجده أصدقائي والقارئ العربي إجمالا. فأنا متخرج فلسفة، أكاديميًّا، وأكتب الشعر والرواية، وأحب السينما. - ترجمت «المنشق» سيرة نيكوس كازانتزاكي التي كتبتها زوجته، وأنت تعتبر هذا العمل من الكتب التي غيرت حياتك، ما الذي تغير فعلا بعد خروجك من الصفحات الخمسمئة للمنشق؟ ربما لم يغير حياتي بالمعنى الحرفي للكلمة، بل حصل ذلك بالمعنى الروحي والمادي، هو أول كتاب أترجمه في فترة قياسية (لم أفش السر إلا بعد نجاح تقبل الترجمة) ترجمت (500 صفحة من القطع الكبير) في أقل من شهرين، لأنه كان مطلوبا مني من المجمّع الثقافي في أبو ظبي الذي كان يستعد لإقامة أسبوع ثقافي خاص بكازنتزاكي، وقصر الفترة جعلني أتفرغ للكتاب ليلا ونهارا فقط - مع قليل من النوم والحاجات الأخرى طبعا - وأعايش تفاصيل حياة كاملة، من الصعود إلى الأفول الجسدي، في شهرين، وجدت أن كازنتزاكي كان يترجم ليكمل بناء بيته، وذاك ما كنت أفعله آنذاك، ووجدت رسالة له كتبها صبيحة يوم ميلادي فوضعت لها هامشا ذاتيا (هل كنت تسمع يومها صراخ وليد في الشمال الإفريقي هو الذي سيترجم هذا الكتاب لاحقا؟)، وبالنظر إلى أن الكتاب جاء على هيئة رسائل فقد كتبت بعد انتهائي من الترجمة رسالة إلى كازنتزاكي (تحسرت لأنني لم أنشرها كمقدمة، إذ صدر الكتاب مبكرا من أجل الاحتفالية) للمشاركة بها كمداخلة، وقد نالت إعجاب الحاضرين وسألني وكيل أعمال زوجة كازنتزاكي عن نسخة منها بعد أن سمع رد فعل الحاضرين. وللعلم لست أنا من قدم كتاب «المنشق» للنشر في دار الآداب بل المجمّع نفسه لأسباب تعود بالأساس إلى جرأة كازنتزاكي في مجالي الدين والجنس، أما حقوق الترجمة فقد استلمتها مجزية من المجمع الثقافي. وبالفعل ساهم المبلغ في اقتناء بيتي هذا الذي أمتلكه الآن. - أصدرت حوالى ثلاثين كتابا مهما في الشعر والرواية والترجمة، غير أنك تبدو غريبا في بلدك تونس، إذ ثمة على ما يبدو تنكر كبير لك من طرف الوسط الأدبي والمؤسسات الثقافية هناك، ما سر هذه الغربة؟ لا أعتقد أن هناك تنكرا، قبل عدة أيام فضلت الاستسلام للتلفاز في برامجه البايخة، وفي برنامج كئيب ضاحك استمعت إلى طرفة رائعة: سأل أحدهم الثاني: ماذا يحدث لو نال تونسي جائزة نوبل؟ أجاب الثاني: سوف يتم التشكيك في الجائزة! ولا أشكو من شيء في تونس، فهي أفضل ما في الإمكان حتى الآن، في البلدان العربية أنت مراقب ومرحب بك ومهدد بالطرد في أول زلة لسان، وأوروبا مغلقة، جربتها في السابق ولم أكن مضطرا للعيش ضمن قائمة المواطنين من الدرجة الثانية، وفي الواقع تفيد العزلة الأدبية في إنتاج أفضل، لا شيء أكرهه أكثر مما يسمى»الساحة» وهي هنا «الساحة الثقافية». البلد صغير ولا يستوعب ثقافة حقيقية قد تقول لي: «لبنان بلد أصغر». حينها أجيبك: «من أين لنا انفتاح لبنان على الثقافة العربية؟» إن نشر كتاب في دمشق أو بيروت يضمن توزيعه على الأرجاء التائهة، الناشر في تونس، إذا تجاوز شارع بورقيبة في تونس العاصمة يعتبر ناشرا مهما. ولي تجربة سيئة في هذا المجال كانت الأولى والأخيرة، فقد صادف أن نشرت رواية «شمس القراميد» ونالت جائزة أفضل رواية في ذلك العام، نفدت النسخ القليلة من السوق الصغيرة ورفض الناشر إعادة طبعها، ومع ذلك فضلت التعامل مع الناشر نفسه في الرواية اللاحقة، من باب الوفاء، فسوّفني عامين ثم اعتذر لي بسبب صعوبات في الدار مبتسما: أقدم لك المخطوطة المرقونة مجانا! وبعده سلمتها لدار أخرى كان صاحبها يلح عليّ، فأجلها بدوره عاما كاملا، وكان صمته يخفي طلبا ضمنيا بدفع واجبات النشر (!!!) الرواية نفسها لم تظل أكثر من شهرين كي تصدر في بيروت. - حتى النقد هو الآخر على المستوى العربي عموما يبدو أنه يدير منظاره بعيدا عن تجربتك، ألهذا السبب نجدك تقول: «بصراحة أنا أعتقد أن ثقافتنا في المنطقة العربية كلها تعاني من مسألة العلاقات الشخصية وتبادل المصالح والمنابر، ولو تم رصد أسماء من يكتب عنهم كتابات غزيرة من شعراء وروائيين لتبين أن هذه الكتابات نابعة من سلطة مادية أو معنوية، فجميع العلاقات الحميمية في الكواليس تقوم على المصالح المتبادلة فقط ما يعني غياب النقد الموضوعي وبالتالي لا يمكننا الحديث عن حركة نقدية مواكبة للحركة الإبداعية»؟ كلا، قد لا أقول يدير ظهره بل يحسب حساباته، فهناك كتابات وأطروحات جامعية من أناس أعرفهم وآخرين لا أعرفهم، وهذا مفرح أكثر. وهم قراء رائعون من الجيل الأجدّ خصوصا. أما إذا نظرنا إلى الموضوع من حيث كثافة الكتابة النقدية فهذا فعلا له علاقة بالإخوانيات والمناصب (هل تعرف مثلا أنني، بعد عودتي إلى تونس، فقدت الكثير من الأصدقاء الكتاب الذين زاروا تونس واكتشفوا أنني لست قادرا على دعوتهم للملتقيات والاحتفاليات!) يضاف إلى ذلك أنني لست ممن يهدون نسخا من إصداراتهم للصحافة وللكتاب والصحافيين، أو ممن يحاصرون أصدقاءهم بالإلحاح على الكتابة عنهم، كما يفعل معي الكثيرون. وبالنظر إلى معايشتي للمنابر العربية، وخصوصا في بيروت، أعرف أن بعض الكتابات ستصادر من مسؤول الصفحة، في هذه الصحيفة، لأنك تعرضت ببعض الملاحظات لمسؤول الصفحة الأخرى في الصحيفة البيروتية الأخرى (هذا الكلام غير مستحب إذا كنت ممن يفضلون تغليب المصالح!) ولي تجربة في هذا المجال: إذ رُفضت كتاباتي عن شعراء لبنانيين، أبرزهم عباس بيضون الذي أكن له محبة خاصة منذ السبعينيات، ويفتنني شعره، رفضت مقالاتي عندما تضمنت قسطا من الملاحظات والنقد وخصوصا مؤثرات القصيدة الفرنسية في الشعر اللبناني. المنبر أيضا يخلق كاتبه ويجعل الآخرين يلتفون حوله. عودة إلى الإخوانيات سأقدم مثلا آخر: تجربة سليم بركات بات يتنكر لها الكثيرون أو يتجاهلونها بعد اختفاء مجلة «الكرمل». وأخيرا هناك مسألة مهمة تخصني: كتاباتي لا تجاري السائد ولا يهمني موضوع الواقعية والفضائح وركوب الموجة، أكتب بهدوء لقارئ بعيد يمسك بكتابي في زاويته الخاصة ويجتهد معي ولو على حساب وقته، إن كان قارئا حقيقيا. إنه صنف من القراء بدأ يظهر منذ سنوات بعيدا عن سدنة النقد العربي الأبرز. - حسنا لنترك النقد العربي جانبا، سيقودنا إلى جحيم ما، دعنا نعُد إلى الشعر، فهو الملاذ على ما يبدو. تقول في أحد نصوصك: «أنا الصياد العاثر الحظ»، تيمة سوء الحظ سنجدها أيضا حاضرة في عدد من نصوصك، ما حكايتك مع العثرات؟ وهل الخذلان هو قدر الشاعر العربي اليوم؟ قد يكون ذلك صحيحا، لكنه يشمل الوضع العام ولا يختص بوضعي الشخصي فقط، وحتى إذا اختص به فهو لم ينفك يتحرك ضمن سياق عام من الخيبات المتتالية، والخيبة هي ذلك الوهم الذي يتبدد مع الأيام وكان قبل التبدد يُدعى حلمًا. - بدأت شاعرا حيث أصدرت سنة 1988 ببيروت أول عمل أدبي لك، أقصد ديوان «حافة الأرض»، لكنك بعد أربع سنوات ستتحول إلى الرواية، حيث ستصدر تباعا عددا من الروايات التي حظيت بجوائز عربية، ما سبب هذا التحول؟ هل هو الإيمان بأن الزمن صار زمن الرواية فعلا أم أن ثمة أسبابا أخرى؟ كلا؛ لم «أتحول» من الشعر إلى الرواية، لقد جربت كتابة أول رواية منذ كنت في الثانية والعشرين من العمر، وهي الرواية نفسها التي استذكرتها بعد قرابة العشرين سنة لتصدر بعنوان» توقيت البنكا» ولعبت التجربة مع تقدم العمر، وكذلك الترجمة، دورا مهما في شحذ همتي لكتابة الرواية، ولا يعني ذلك أنني تخليت عن كتابة الشعر، فقد صدرت لي بعد مجموعة «حافة الأرض» التي ذكرتها، ثلاث مجموعات شعرية هي «امرأة سادسة للحواس» و«ليل الأجداد» ثم «ليل الأحفاد». ولديّ من القصائد ما يهيئ لمجموعات أخرى جديدة، غير أن نشر الشعر أصعب من نشر الرواية، خصوصا أنني ممن لا يخضعون لشروط الدفع لدى دور النشر. - في عدد من رواياتك يحضر اليوسفي الشاعر ليضيف شيئا ما إلى اليوسفي الروائي، حيث تصير أحيانا اللغة الشعرية وعاءً لأفكار الرواية، ما سر هذا التداخل بين السرد والشعر في أعمالك؟ أنا مقتنع بأن الرواية هي عمل أدبي في الدرجة الأولى وليست مجرد «حدوتة» تروى، وفي هذا المجال كثيرا ما قلت إن جداتنا وشريحة عريضة من عامة الناس قادرات على سرد حكايات مدهشة تفوق خيالنا. الشعر في رواياتي لا يكون حاضرا دائما إلا في العلاقات والأماكن الشاعرية وخصوصا الجوانب اللامرئية في معتقداتنا الشعبية. فأنا حريص على إيقاع الحدث في الرواية ولا أذهب إلى حد طمسه بالسيولة اللغوية الشعرية. يُضاف إلى ذلك أن الرواية عندي انطلقت من الجانب السردي في القصيدة التي أكتبها، وعندما أدركت تمادي السرد وتعدد الأصوات في القصيدة خرجتُ بكل ذلك إلى أفق السرد لتكتفي القصيدة بلحظاتها المختزلة. - نقرأ في روايتك «دانتيلا» هذه الجملة:«أجوب شوارع أخرى وأقول: «قدري أن أجوبها لأنّ امرأة سبقتني إليها وتركت عليها آثار خطاها.. امرأة هربت مني وفي حقيبتها الشمس»، أنت الكاتب الجوّاب عشت موزعا بين تونس وسوريا وقبرص وأماكن أخرى، هل كنت تتقفى - وأنت تسافر وتكتب - أثر امرأة ما؟ كل المدن نساء بالدرجة الأولى؛ وهذه المرأة تحديدا تركتها في بيروت. بيروت التي شكلت جزءا من تكويني وترحالي بحلوها ومرّها، تماما كما فعلت عواصم أخرى، لعل أُولاها وأهمها دمشق.