ما يميز اللغة العربية، وهو سرّ من أسرارها ودليل على ثرائها، الجذر وما يرتبط به من اشتقاق. فلمفردات العربية أسماء كانت أو أفعال جذور ليست مجرّد حروف ثلاثية أو رباعية بل جذور وأصول تعكس تجذّر اللغة وأصالتها عند متكلميها ومستعمليها. فاللغة تختزن الموروث الثقافي في كلماتها ودلالاتها ورموزها، ولعلّ كلمة “عين” بكل ما تحمله من دلالات معجمية وثقافية من أكثر المفردات تعبيرا عن ارتباط اللغة بالثقافة وتحديدا الثقافة الشعبية. العين تحمل دلالات مباشرة وأخرى مجازية تلتقي في المعنى الثقافي الاجتماعي المتمثل في الإصابة بالعين أو الحسد، فتنتقل العين من معناها المباشر وهو العين الجارحة أو الباصرة إلى الإحالة على الحسد من خلال الاستعمال المجازي والحقيقي لكلمة العين. وهي مفردة متعدّدة المعانى ومن معانيها كما ورد في لسان العرب عين الماء: منبعه، وعين القوم الجاسوس والرقيب، وعين الرجل منظره، والعين عين الشمس والعين المال والدينار والذهب، والعين الحقيقة والنفس، والعين الإصابة بالعين. ومن نفس جذر العين تتولّد كلمات مشتقة تحيل على المعنى الأخير، أي الإصابة بالعين وتتمثل في مفردتي “العَيون” بمعنى شديد الإصابة بالعين في زعمهم (كما ورد في لسان العرب) و”العَيّان والمِعْيان” وهو شديد الإصابة بالعين كذلك. ولقد وردت المفردات الثلاث المشتقة من العين صيغ مبالغة على وزن فعول، وهو نفس وزن حسود وفعّال ومفعال وهي أوزان تدلّ على المبالغة بمعنى الشدّة في الفعل أو الحالة، وهي الحالة الشديدة التي يكون عليها المصاب بالعين الذي قد لا ينفعه غير فعل آخر شديد مضادّ للفعل الأول تتدخّل فيه تعاويذ وابتهالات وأدعية تتقنها مجموعة من النسوة اللواتي وقع التواضع على أنّهنّ صاحبات بركة قادرات على تخليص المصاب من آثار العين الشرّيرة. لقد طغى معنى الإصابة بالعين في الاعتقاد على كل دلالات العين وهي إصابة حقيقية ومجازية حسية ومجرّدة، حيث تكون وسيلة الحاسد العين في معناها الحسّي المباشر أي أنّه ينظر أو يبصر الضحية – المحسود بنيّة سيّئة فيصيبها بالأذى وكأنّه يرسل من عينيه سهاما سامّة تسمّم بدن المصاب فتلزمه علّة لا يعرف مأتاها ولا دواءها. ويقال في التعبير العامّي في تونس “عينه حَرْشا” وتعني أنّه ينظر إلى الشيء أو الشخص نظرة حسد تضمر الشرّ وسوء النيّة. وهذا المعنى المجازي للعين يجعله الاستعمال الثقافي حقيقيا بالقوة والتأويل، فيقال “العين حقّ ومحمّد حقّ”، وهو قول يؤكّد بقوّة حضور معنى الإصابة بالعين ومن يشكّ في وجوده يشكّ في وجود الرسول عليه السلام فيساوي بين وجود محمّد ووجود العين، فلا يترك مجالا للشكّ في حقيقة هذا المعنى المجازي للعين، بل تصبح الإصابة بالعين معنى حقيقيا حسيّا يفوق كلّ المعاني والدلالات في الاستعمال الثقافي للعين حتى غدت الكلمة إحالة على الإصابة بالعين. ومن هنا جاءت أقوال عديدة تعبّر عن العين بمعنى الحسد مثل قولنا “عين وصاباتو (أصابته)” وتقال على شخص تدهورت أحواله فجأة، إذ كان في خير ونعمة ثم أصبح في بؤس أو انهالت عليه مصائب، وقولنا أيضا “عيني ما تضرّك” وهو قول إيجابيّ يختلف عن سابقه في نيّة قائله وعادة ما يقال في سياق المزح ويقصد به التعبير عن الإعجاب بالشيء دون نيّة الحسد. ويقال عن المصاب بالعين “المنفوس” والنافس هو الحاسد والصائب بالعين، واشتقت الكلمتان من فعل “نفَس” ويعني حسد وأصابه بنفس أي بعين، و”النَفُوس” العَيون الحسود المُتعيّن لأموال الناس ليصيبها كما ورد في لسان العرب. فالعين هنا تعني النفس وهي نفس شريرة متى ارتبطت بالحسد، فيقال “عين الحسود فيها عود”، وهو قول يلخّص مدى ارتباط معنى العين بالحسد. والطريف في الأمر أنّ كل الدلالات تدور حول العين في معناها المباشر المتمثل في حاسة البصر فتصبح العين عيونا وأعينا فيها العيون الجميلة والبريئة والعيون الشريرة الحسودة، ومن خلالها يصيب الحاسد المحسود على ماله أو جماله أو نجاحه . وكثيرا ما تصيب العين الأطفال الرضّع فيكثرون من البكاء والانزعاج من دون سبب ظاهر، ويعود ذلك بحسب الاعتقاد الشعبي إلى ضعف بنية الرضيع، فليست له قوة يواجه بها هذه الإصابة وسرعان ما تجري فيه النفس أو العين- وبها كذلك يصاب المنفوس وبواسطتها يرمز إلى الرقية فتعلّق على أبواب البيوت أو المحلات عين زرقاء اللون تكون على شكل تميمة لإبعاد الحسد أو تكون في شكل حليّ في عقد تلبسه الفتاة في عنقها. إنّ العلاقة بين العين بمعناها الحقيقي المباشر (الجارحة أو الباصرة) ومعنى الإصابة بالعين قد تبدو من باب التأويل أو المجاز في بادئ الأمر، ولكنّ المتمعّن في دلالات العين المتعددة من عين الماء منبعها والجاسوس والرقيب والشمس والمال والذهب والنفس يجد علاقات دلالية وسياقية بين المعاني وهي علاقات جذرية وليست اعتباطية يبرّرها الاستعمال والاشتقاق الدلالي الذي له دور في انتقال العين من المعنى الحقيقي المباشر إلى المعاني المجازية. فالعلاقة بين العين والجاسوس هي علاقة جزء بكلّ، حيث يُطلق على الجاسوس والرقيب عين القوم فتعوّض العين وهي جزء الشخص كلّه وذلك لأهمية العين الحقيقية والمجازية. وتتمثل العلاقة بين العين والشمس وعين الماء في المشابهة على مستوى الشكل والوظيفة، إذ تعبّر العين عن النور والبريق والإشعاع في معنى الشمس وعن الاستدارة والمنبع في معنى عين الماء، كما تمثّل الشيء النفيس في معنى المال والذهب. نستشفّ هذه الدلالات المتعدّدة للعين من خلال أهمية العين الباصرة لدى الإنسان التي لا تقاس بالمال أو الذهب كما يقول المثل الشعبي “إلّي مشات عينيه مشات الدنيا عليه”، وهو تأكيد على أهمية دلالة العين الأساسية التي تتوالد وتتعدّد حسب الاستعمال في سياقات مختلفة فتنزاح عن المعنى الأول المباشر انزياحا لا يخلو من إشارات دلالية إلى المعنى القاعدي، فتحافظ على سماتها الجزئية الأساسية وكلّ سمة تمثل مجالا تتقاطع فيه العين الباصرة مع عدد آخر من المعاني بعضها حسّي وبعضها مجرّد. الجدير بالإشارة أن العين تحضر حضورا قويا بكل معانيها في اللغة والاستعمال والثقافة، حقيقة كانت أو رمزا، لتؤكد جذور اللغة والثقافة العربية لغة الضاد والعين أهمّ حروفها الاستثنائية، فالعين عربية بامتياز.