يسوق الجاحظ في رسائل "الجد والهزل" ردا على من ينتقد تفضيله الجلد على الورق في الكتابة على الجلد ويحاول دحضها وفي كلا الرأيين يقدّم الجاحظ وعلى لسان خصمه حججا تقنيّة وطبيعيّة وكيميائيّة في فضائل الجلد والورق ومساوئهما ممّا لا يعرفها إلّا خبير مختصّ في الجلد والورق على حدّ السواء والقارئ في حيرة بينهما أيّهما أفضل حقّا للكتابة الجلد أم الورق؟ لهذا الردّ قيمة تراثيّة هامة كذلك لدى المهتمّين بتاريخ الكتابة وبحفظ التراث المادي البشري وهو لا يقلّ قيمة في نظرنا عمّا يُحفظ في المتاحف العالميّة من الكتب المسفّرة والمجلّدة الموروثة عن العصور القديمة. يقول الجاحظ مخاطبا من يلومه على تفضيل الورق على الجلد في مستهلّ ردّه قبل أن ينصرف إلى محاججته ونقد أقواله ودحضها “وما عليك أن تكون كتبي كلّها من الورق الصينيّ، ومن الكاغذ الخراسانيّ؟ قلْ لي: لِمَ زيّنت النّسخ في الجلود ولما حثثتني على الأدَم وأنت تعلم أنّ الجلود جافية الحجم، ثقيلة الوزن، إنْ أصابها الماء بَطلت وإنْ كان يوم لَثَق استرخت. ولو لم يكن فيها إلّا أنّها تبغّض إلى أربابها نزول الغيث وتكرِّه إلى مالكها الحيا، لكان في ذلك ما كفى ومنع منها قد علمتَ أنّ الورّاق لا يخطّ في تلك الأيّام سطرا ولا يقطع فيها جلّدا – وإنْ نَدِيت – فضلا على أن تُمْطَر، وفضلا على أن تَغرق – استرسلت فامتدّت. ومتى جفّت لم تعُد إلى حالها إلّا مع تقبّض شديد وتشنّج قبيح وهي أنتن ريحا وأكثر ثمنا وأحمل للغشّ: يُغَشّ الكوفيّ بالواسطيّ والواسطيّ بالبصري، وتعتّق لكي يذهب ريحها وينجاب شعرها وهي أكثر عُقدا وعُجَرا وأكثر خباطا وأقساطا والصفر' إليها أسرع وسرعة انسحاق الخطّ فيها أعمّ. ولو أراد صاحب علم أن يحمل منها قَدر ما يكفيه في سَفَره لما كفاه حِمْلُ بعير. ولو أراد مثل ذلك من القُطْنيّ لكفاه ما يحمل مع زاده”. لهذه الفقرة كما قلنا قيمة وثائقيّة وتاريخيّة واتنوغرافية لمن يهدف إلى معرفة تاريخ الكتابة عند العرب لعشرة قرون مضت في ما يتعلّق بعنصرين أساسيين من أدواتها: الجلد والورق. من خلال هذه الفقرة نعلم أنّ سوق الجلد والورق لدى العرب في هذه الفترة كانت مزدهرة فعلاوة على وجود الورق الصيني والكاغذ الخراساني والورق القُطْنيّ، كانت تُباع فيها أنواع من الجلود المعدّة للكتابة، كوفيّة وبصريّة وواسطيّة نسبة إلى مدينة واسط لا يعلمنا الجاحظ بأجودها ويكتفي بالإشارة إلى أنّ بائعيها قد يلجأون إلى الغشّ بتعمّد عرض أحدها باعتبارها الآخر “يُغشّ الكوفيّ بالواسطي والواسطيّ بالبصْريّ”. كما نعلم وهذا ما نفهمه من خلال التأويل أنّهم كانوا في هذه الفترة في خضمّ العبور من مرحلة الجلد إلى مرحلة الورق أي إلى الأفضل والأكثر تقدّما من الناحية التقنيّة لما فيه خير للكتابة والفاعلين فيها كتّابا وقرّاء، ولذلك نفهم السبب الذي جعل الجاحظ لا يترك حجّة إلّا واستعملها لبيان مساوئ الجلد والكتابة عليه وإبراز أفضليّة الورق عليه من كلّ النواحي. حجج الجاحظ متنوّعة وتتوزّع بين الكميّ والنوعيّ. الكتابة على الجلد تثقل على صاحبها لأنّ الجلد جافي الحجم وثقيل الوزن ويمثّل عبئا ثقيلا على “صاحب العلم” كاتبا أو قارئا، لا سيما في سفره فإذا أراد أن يحمل ما يكفيه من الكتب المنسوخة على الجلد لما كفاه حمل بعير، علاوة على أنّها كما يضيف لاحقا حجّة طيّبة صحّية “تثقِل الأيدي وتُحطّم الصدور وتقوّس الظهور وتُعمي الأبصار” وهي كذلك شديدة التأثّر سلبيا بالعوامل الطبيعيّة وخاصة الرطوبة لكونها تندى بسرعة فما بالك إذا هطل عليها المطر أو غرقت أي بُلّت على آخرها بالماء فهي تسترسل وتمتدّ فيكبر حجمها ويزيد وزنها الثقيل أصلا، وحتّى إذا ما جفّت فلن تعود إلى الحالة التي كانت عليها للانقباض الشديد الذي يعتريها وللتشنّج أي التجعّد والتيبّس القبيح كما يصفه الجاحظ الذي يصيبها، هذا علاوة على رائحتها النتنة وغلاء ثمنها وسرعة اصفرارها كما سرعة انسحاق أي انمحاء الخطّ فيها مقارنة بالورق. أمّا أخطر مساوئها – وهنا ينتقل الجاحظ من الكمّي إلى النوعي ومن المادّي الصرف إلى الثقافي الرّمزي، فهو تبغيضها صاحبها نزول الغيث والحيَا وهي كلمة مكتنزة الدلالات تعني بالإضافة إلى المطر ذاته الخصب والنبات والحشة (مفرد حشيش) أي الحيا بل قل الحياة كلّها لكونها بالطبع تفسد كتبه المجلّدة، ما يجعله نصيرا للجدب والقحط وعدوّا لليباب والخصب ونابتة غريبة في حضارة ليس ثمّة ما تنشده وتتغنّى به وتحتفل به أكثر من الكتاب والمطر معا.