جامعة عين شمس تتقدم في تصنيف QS العالمي 133 مرتبة    جامعة عين شمس تتقدم في تصنيف QS العالمي    فى مواجهة تحديات داخلية وخارجية غير مسبوقة.. فقه التغيير الوزارى: الوعى والثقافة والقطاع الخاص!    الأحد 9 يونيو 2024.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية    البطاطس تواصل ارتفاعها داخل أسواق كفر الشيخ اليوم    الضرائب: 15 يوليو بدء تطبيق المرحلة السادسة من منظومة المرتبات    الأحد 9 يونيو 2024 .. البنك المركزي يطرح أذون خزانة ب 55 مليار جنيه    جيش الاحتلال يقصف مخيم البريج بالمروحيات    ماذا لو فاز "ترامب" بالرئاسة وهو سجين؟ President Prisoner of the United States of America    من تعليق المعاهدات إلى حرب «البالونات» الأزمة الكورية تتخذ منعطفًا خطيرًا    ولنا فى مدينة هامترامك أسوة حسنة    نغمة التمثيل المشرف باتت نشازًا.. مطبات صعبة فى طريق العميد نحو المونديال    صربيا تفوز على السويد بثلاثية دون مقابل وديا قبل يورو 2024    مفيش كتيبات مفاهيم| قرار عاجل بشأن «الدين والتربية الوطنية» في امتحانات الثانوية العامة    مستمرة حتى هذا الموعد.. الأرصاد تُعلن مفاجأة حول طقس الساعات المقبلة    حالة الطقس اليوم، انخفاض مؤقت في درجات الحرارة وارتفاع نسبة الرطوبة (فيديو)    السلطات السعودية أتمت جاهزيتها لاستقبال حجاج بيت الله الحرام خادم الحرمين وولى العهد يشرفان من مكة على خدمة ضيوف الرحمن    النشرة المرورية.. كثافات متحركة للسيارات بمحاور القاهرة والجيزة    تأبين صلاح السعدني وعصام الشماع ونادر عدلي بمهرجان جمعية الفيلم اليوم    انسحاب بطل المسرحية قبل افتتاحها بأيام تسجيل موقف أم إثارة بلبلة؟! ما الذى حدث فى كواليس (العيال فهمت)؟    اليوم.. جمعية الفيلم تقيم تأبينًا ل صلاح السعدني وعصام الشماع ونادر عدلي    بروتوكول تعاون بين مؤسسة مجدي يعقوب و«الرعاية الصحية» لتقديم علاجات متقدمة    إصابة شخص بسبب حريق شقة سكنية فى حلوان    التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات اليوم بالسكة الحديد    لابيد: حكومة نتنياهو تسمح بإرسال شاحنات المساعدات إلى غزة ثم يرسل الوزراء ميلشياتهم لاعتراضها في خروج كامل عن القانون    تعليق غريب من نجم المصري بشأن مستوى منتخب مصر    أبرز لقطات البرومو الرسمي لفيلم "عصابة الماكس"    البحرية البريطانية: اندلاع النيران في سفينة جراء إصابتها بمقذوف في خليج عدن    اليوم.. محاكمة المتهم بإنهاء حياة 3 مصريين في قطر    وصفات طبيعية لعلاج قشرة الرأس، أبرزها الزبادي وزيت شجرة الشاي    حزب الله يعلن قصف مقر قيادة كتيبة السهل في ثكنة بيت هلل الإسرائيلية براجمة من صواريخ فلق 2    «مين هيقدر يديره؟».. القيعي يكشف سبب رفضه لتعاقد الأهلي مع ميدو    أمم أوروبا 2024.. المنتخب الإنجليزي الأعلى قيمة سوقية ب 1.78 مليار يورو    «البترول»: خططنا لتلبية احتياجات الكهرباء من الغاز أو المازوت    مناخ «الزراعة»: الموجات الحارة تؤثر على الفواكه والخضروات    فضل الدعاء في هذه الأيام المباركة.. لا يرده الله    للحجاج والمعتمرين.. محظورات لا يجب فعلها أثناء الحج    عاجل: حدث ليلا.. الغضب يشتعل ضد نتنياهو واحتجاجات عنيفة أمام البيت الأبيض    جدول مواعيد امتحانات الثانوية العامة 2024.. تنطلق غدا    ما سبب الشعور بالصداع عند الاستيقاظ من النوم؟.. «السر في التنفس»    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. «هيئة الدواء» تسحب أدوية جديدة من الصيدليات.. انفراد..النيابة العامة تحيل «سفاح التجمع» لمحاكمة عاجلة أمام «الجنايات».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الأحد: 48 ساعة قبل عودة الغليان (تفاصيل)    ليلى عبد اللطيف تكشف حقيقة توقعها بعيد أضحى حزين في مصر    أسامة كمال: الحكومة المستقيلة لهم الاحترام.. وشكل الوزارة الجديدة "تكهنات"    10 سنوات إنجازات | طرق وكباري و3 محاور رئيسية لإحداث طفرة تنموية في قنا    تحرك عاجل من السعودية بشأن الحج بدون تصريح    ياسر إدريس: لا ينقصنا لاستضافة الأولمبياد سوى إدارة الملف    مع بدء رحلات الحج.. خريطة حدود الإنفاق الدولي عبر بطاقات الائتمان في 10 بنوك    خبير مائي: سد النهضة على وشك الانتهاء من الناحية الخرسانية وسيولد كهرباء خلال سنتين    ماذا قالت سيدة التوقعات مع عمرو أديب عن العوضي وياسمين عبد العزيز وأمل ماهر وشيرين؟ (فيديو)    جامعة العريش تطلق مبادرة شاملة لتأهيل الخريجين لسوق العمل    «هيكسروا الدنيا».. سيف زاهر يكشف ثنائي جديد في الزمالك    النديم: 314 انتهاك في مايو بين تعذيب وإهمال طبي واخفاء قسري    ما أهم الأدعية عند الكعبة للحاج؟ عالم أزهري يجيب    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد انتظام سير العمل بعيادة الجلدية ووحدة طوسون الصحية    حظك اليوم برج الحوت الأحد 9-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عاجل.. انفراجة جديدة في مفاوضات بن شرقي وحقيقة عرضين الخليج ل "الأخطبوط"    ما هي أيام التشريق 2024.. وهل يجوز صيامها؟    عقوبة تصل ل مليون جنيه.. احذر من إتلاف منشآت نقل وتوزيع الكهرباء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"السرد والمعرفة"
نشر في نقطة ضوء يوم 07 - 09 - 2015

لا يمكن تفكر الأدب إلا بموجب كونه نزوعا نحو القبض على شتات العالم، وانفلاته، ولا يمكن تحقق ذلك إلا بمحاولة فهمه، ولا تُستطاع هذه المهمة الأخيرة إلا بمقدار تصور تجسيمه بوساطة التخييل، وكل تجسيم لا يحدث إلا بإعادة تشكيله من جديد، أو إعادة صياغته.
وغايات من هذا القبيل لا سبيلَ إليها إلا باعتماد التمثيل وسيلة؛ وهذا الأخير يرتهن في اشتغاله إلا بإحدى وسيلتين لا ثالث لهما، وهما: الصورة الشعرية، والصيرورة (الحبكة: بول ريكور)، وينبغي النظر إلى هاتين من جهة علاقتهما بالنوع بوصفه ذا صلة بالمادة، ومن جهة علاقتهما بالجنس الأدبي بوصفه شكلا متعاليا يهفو إليه النوع بفعل وظيفة شكل التي يضطلع بها (أرسطو). وينبغي إدراك هذا التعالق بمراعاة متاح التمثيل، وأسسه الابستيمية التي تميز الحقب التخييلية الكبرى. ومؤدى هذا الأمر من زاوية المعرفي أن إعادة تشكيل العالم منتجةٌ انطلاقا من التعالق بين النصي المادي الملموس الذي يعبر عن الفرداني (البعد الإشاري المميز للخطابي: أرسطو)، والأسس المُسنِّنة والمحفورة في وضعية الإنتاج في عصر تخييلي مُحدَّد. غير أن هذا الاتصاف لا يُعطى خارج العالم، وبمعزل عنه، بل بعِّده منتميا إليه؛ فلا يمكن عدّ الأدب منفصلا عن العالم، أو فعلا متعاليا عليه؛ إذ لا يعدو كونه من مكوناته، فالعالم انبثق باصطناع اللغة.
وهكذا ليس بالإمكان وصف الأدب إلا بكونه عملية تجديل بين حركتي الانفصال عن العالم والاتصال به. كما أن العالم ليس سوى ما يقال عنه، وكل أشكال إدراكه، فبوساطة إدراكه قولا يتحدَّد بصفته عالما، بما في ذلك ما يُقال عن الأدب نفسه، وأشكال إدراكه. ومن ثمّة لا يمكن- في هذا الإطار- فصل إعادة تشكيل العالم بوسيلتي الصورة والصيرورة عن المعرفة في تنوع مشاربها، واختلاف منابعها.
فكيف يعمل السرد- إذن- على إعادة تشكيل العالم باستخدام الصيرورة عبر توسُّط المعرفة؟ ينبغي الإشارة- قبل الإجابة عن هذا السؤال- إلى أن السرد يُعيد، في سعيه هذا، تشكيل ذاته في الآن نفسه؛ وذلك باستغلال الممكنات التي يوفرها له المُسنَّن المُقعَّد واللغة من أجل تمثيل غير المرئي (ميرلو- بونتي)، وغير المُحيَّن من قَبْلُ بوساطتهما؛ وإذ يفعل ذلك يشير إلى الطرق التي سلكها، على نحو غير مباشر أو مباشر.
ولعل المعرفة- من حيث هي عالم- تؤدي دورا مهما في هذا الصدد. ولا يعني هذا أن السرد يتحول إلى خطاب نظري، وإنّما كونُه يمتلك مثل بقية الفنون اللغوية القدرة على التقاطع مع المعرفة، بل تحويل ذاته إلى معرفة تتّخذ من التخييل وسيلة أساسا. وإنّه لمن الجلي أن منظرين عديدين أشاروا إلى كون السرد- خاصة الرواية- يمتص خطابات متنوعة، بما فيها تلك التي توصف بأنها نصفُ أدبية (باختين)، وينبغي التنبه بفعل إقرار هذا الاتصاف إلى أن انفتاح السرد على غيره من الخطابات لا بد من أن يجلب معه تَضَمُّناتها المعرفية المُختلفة، التي هي إيديولوجية بكل تأكيد، لكنها ليست مرتبطة بالوعي المصلحي العرضي (غولدمان)، وإنما بما ينبغي أن يكون؛ أي الوعي الممكن، بيد أن هذا الوعي لا يتعلَّق بتطلّعات سوسيولوجية صرف فحسب، بقدر ما يتعلق أيضا بمصير الإبداع السردي نفسه وهويته؛ أي ما ينبغي أن يكون عليه بوصفه فنًّا. وهذا ال»ما ينبغي أن يكون» الأدبي تامٌّ بوساطة الشكل الأدبي في تضافر مع طاقته التمثيلية.
وتلزم الإشارة- هنا وبالضرورة- إلى ما يترتّب معرفةً على هذا المستوى من سوء الفهم بين الأزمنة على مستوى التمثيل السردي؛ والمعرفة في أحد وجوهها زمنية، لا بحكم أنّها تقع في الزمن، وإنما بحكم كونها تحول الزمن إلى خبرة إدراكية، والسرد يفعل ذلك بامتياز، لكن من خلال المسافة، لا بوصفها تمر حلا للأشكال (بمفنيست- ج. جينيت)، ولكن بوصفها مؤسسة للمعرفة داخل ما هو مادي (النصوص). وتُطرح- هنا- إشكالية المعرفة الأدبية من زاوية صلتها بالتكوين النصي، وبمسألة النوع الأدبي والجنس الأدبي بوصفهما خبرةً محيَّنةً (الأداء)، لا متعالية (المقولات)، فكل نص ينكتب في إطار التجديل بين مركز نوعي- إجناسي، ومحيط تنتشر في أطرافه نتفٌ، أو شظايا، أو كويكبات ميتة. ومن ثمة تنشأ المعرفة الأدبية بوصفها خبرة زمنية من داخل النص انطلاقا من التجديل بين الانفتاح والانغلاق في علاقتهما بهذا المحيط الذي يكتسي صفة مدار؛ بما يعنيه ذلك من معرفةِ ما يقبل أن يشكل جزءا من هوية النص الأدبي، وما لا يقبل ذلك. فلا بد- هنا- من مراعاة التناسب بين الجوهري والعرضي (أرسطو- الميتافزيقا)، لا بين المقطع والمقطع.
وحتى نوضح مقصدنا من تصورنا للمعرفة الأدبية- في هذا المستوى- نأخذ مسألة الانفتاح الإجناسي. فلا يكفي في فهم المعرفة الأدبية- خلال انفتاح نص حديث أو معاصر على تنميط إجناسي قديم- الاستنجادُ بآليات نصية صرف، أو التناص؛ لأن الأمر يتعدى ذلك إلى العالم بوصفه مسافة؛ والمقصود بذلك تمثيله انطلاقا من ممكنها؛ أي تحويله إلى خبرة- معرفة بفعل انتهاج مسافة تجاه خبرة- معرفة أخرى. ولمزيد من التوضيح نأخذ الرومانسية التي أقامت إنتاجها الفني على الانفتاح النصي على نصوص تخييلية وثقافية تقع على مسافة من عصرها خبرةً ومعرفةً، لكنها لم تكن تفعل ذلك إلا من خلال تمرير هاته المسافة من خلال مسافة أخرى، هي المسافة تجاه فكر الأنوار العقلاني؛ وإذ فعلت الرومانسية ذلك فمن زاوية تمثيل الروحي غير المتناهي (جان- فرانسوا ماركيه: مرايا الهوية) .
ينبغي أن نقر بأن فعالية الإبداع لا تنحصر في تقديم متعة ذهنية أو حسية فحسب، وإنما أيضا معرفة- خبرة تتخذ من التخييل وسيلة أساسا لها. وتكتسب هذه الخبرة صبغة إدراك معرفي تجاه العالم وتعرفه وتقطيعه، ومن ضمن ذلك المعرفة الأدبية. ولا سبيل إلى التعامل مع معطيات التخييل سوى طريقتين: إما أن نتصرف تجاهه بعدِّه خبرة شكلية أو بوصفه خبرة تتصل بطرائق تمثيل العالم. ويتجلَّى هذا الأمر واضحا في انفتاح النصوص على التجارب السردية العريقة من قبيل: «المقامة»، و»ألف ليلة وليلة»، و»حكايات الشطار»، و»الخرافة»…الخ؛ فإما أن نسلك تجاهها توجها فنيا يسعى إلى تقليد شكلها، أو تدميره، من دون الانشغال بسؤال معرفة مدى مناسبة تمثيلها لعالم النص الحديث أو المعاصر أم لا، وإما أن نُورِّط شكلها هذا في تطلّبات هذا التمثيل، بما يعنيه هذا الأمر من تجسيم للاستحالة بوصفها خبرة متعلقة بالزمن من داخل المنتج النصي. والمقصود بذلك تعريض السرد العريق- من حيث هو تمثيل زمني للعالم- إلى التفسخ الموازي لاستحالة الكل في زمن السرد المعاصر المدرَّر. وقس على ذلك مفهوم الكلية الذي كان يصوغ محتوى العالم القديم، والهوية التأكيدية التي تسعى إلى تأسيس نفسها بموضعة البراني المهدد خارج المجتمع (الجن في ألف ليلة وليلة)، وموضعة المُهدِّد الداخلي في هيئة تجميد (المسخ)، وموضعة حكاية هذا الأخير في هيئة تفسير عِلِّيٍّ يقلب الصيرورة؛ حيث تبتدئ الحكاية دوما من نهايتها؛ هذا فضلا عن تمثيل استحالة العضوي المنسجم، بفعل عدم تناسب تمثيل الشخصية الفرداني للعالم الحديث أو المعاصر مع تمثيل الرمزي للجماعة عبر فعل البطل.
لا يمكن معالجة علاقة السرد بالمعرفة من دون استحضار مسألة القول والمقول، فلا قول من غير معرفة مشتركة متقاسمة حول المقول؛ أي ما تشير إليه أي لغة بوصفه عالما (ميرلو- بونتي: نثر العالم)؛ فمن دون هذا الشرط المعرفي يستحيل التواصل السردي، وإذا كان الشعر يُقيم أساسه التمثيلي على العلاقات بين حالات الأشياء والموضوعات، فإن السرد يُقيم هذا الأساس على الأفعال، والعلاقات بين الإفراد، أو بين الفرد والجماعة الاجتماعية. فهذه العلاقات مُسنَّنة في اللغة بحكم المعرفة- الخبرة التي يُكوِّنها القارئ حول العالم، لكن أين تكمن معرفةُ السرد وخبرتُه إذا كان التواصل السردي يحدث وفق المشترك (الدوكسا)؟ لا يمكن للسرد إلا أن يستجيب لأسس التمثيل المُتحكِّمة في المعرفي، والتي تطبع العصر الذي يُنتج فيه، بيد أن إعادة تشكيل العالم سرْدًا تقتضي صياغة هذا التمثيل وفق التصرف في تلك العلاقات بتغيير طبيعة الاقترانات والترابطات التي تُقنِّنها في عالم الاعتياد. وبموجب هذا الأمر يمكن تفكّر الاختلافات النوعية بين أشكال سردية مختلفة، ولا أجد أفضل ما أنهي به هذا المقال من هذه الجملة التي قالها ميرلو- بونتي: "إنني ألج عالم ستندال بوساطة كل كلمات العالم برمته التي يستخدمها بين أن هذه الكلمات تكتسب بين يديه ليّاً سريّاً".
..............
أديب وأكاديمي مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.