ليس غريباً أن تصل رواية "يا مريم" للكاتب العراقي سنان أنطون إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البُوكَر" التي تضم في العادة ست روايات يتم اختيارها من القائمة الطويلة التي تضم 16 رواية يعتبرها أعضاء لجنة التحكيم هي الخلاصة المنتقاة من النصوص الروائية التي تقدمت للمنافسة عام 2012 وبلغ عددها 133 رواية جديدة لم يمر على صدورها أكثر من سنة. بغض النظر عن توقعات المتابعين لجائزة البوكر العربية التي كانت ترجِّح فوز الرواية أو تلك إلاّ أنّ قرار لجنة التحكيم قد أسند الجائزة إلى رواية "ساق البامبو" للكاتب الكويتي سعود السنعوسي لأنها "مُحكمة البناء، وتتميز بالقوة والعمق، وتطرح سؤال الهوية في مجتمعات الخليج العربي". وإذا كانت رواية السنعوسي تطرح سؤال الهُوية الضائعة أو المُوزعة بين اسمين وبلدين وديانتين وثقافتين فإن رواية "يا مريم" تطرح سؤال الأقليات الدينية في العراق وعلى رأسها الطائفتان المسيحية واليهودية على الرغم من أن النص الروائي يدور برمته أو يكاد على الطائفة المسيحية المبجلة لأن تهجير اليهود العراقيين وما تعرضوا له من (فرهود) لم يأتِ في هذه الرواية إلاّ كإشارة عابرة نعرف من خلالها أن نسيم حزقيل، صديق يوسف كوركيس وسالم حسين، سيرحل هو وعائلته بعد بضعة أيام إلى إسرائيل. أما الشخصيات التي تمثل الطائفة المسيحية فهي تشكِّل لُحمة النص وسُداته، لكن أبرزها قد يتمحور في أربع شخصيات رئيسة وهي يوسف كوركيس وشقيقته حنّة من جهة ومها جورج حدّاد وزوجها لؤي من جهة أخرى، هذا إضافة إلى عوائل الطرفين وأقربائهم وأصدقائهم من العرب والمسلمين لأن الرواية لا تقتصر على الشخصيات المسيحية حصراً، وإنما تمتد إلى غالبية مكونات الشعب العراقي وهذا ما يسعى إليه دائماً كاتب النص ومبدعه سنان أنطون ويؤكده بالأدلة الدامغة في مجمل نتاجاته الروائية. • البطولة المشتركة على الرغم من هيمنة الدور الذي أسنده الروائي سنان أنطون إلى شخصية مها جورج حدّاد التي أنهكتها موجة العنف الطائفي بعد عام 2003 وشرّدت عائلتها، وجعلتها تعيش لاجئة في بلدها، إلاّ أن دور يوسف كوركيس لا يقل أهمية عن دور "مها"، بل يوازيه من حيث القيمة الفكرية والثقافية على الرغم من التباين الواضح في المواقف، فهو يتشبث بالوطن الذي أحبّه وتعلق به، بينما تحاول "مها" الهروب منه بسبب الاحتكاكات العرقية والدينية والطائفية، خصوصاً بعد أن فقدت جنينها البكر إثر التفجير الإرهابي الذي استهدف منزلها وقلبَ حياتها رأساً على عقب. لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن العنف الطائفي هو الذي دفع مها وزوجها لؤي لأن يسكنا في الطابق الثاني من منزل يوسف كوركيس، فبعد وفاة شقيقته حنّة، ورحيل كل أشقائه وشقيقاته إلى المنافي الأوروبية والأميركية البعيدة، لم يبقَ في منزله من يحطِّم جدار وحدته، لذلك وافق على تأجير الطابق العلوي لمها ولؤي من دون مقابل مادي، بل اعتبر بعض الأكلات التي تطبخها "مها" بين أوان وآخر هي الثمن الموازي للإيجار. من هنا تبدأ حبكة النص ونمّوه الدرامي. فيوسف، رجل يعيش في الماضي، على حد توصيف "مها"، بينما هي تعيش الحاضر والمستقبل في آنٍ معا، وهو يتشبث بالوطن، ويتابع أخباره بالتفصيل الممل، بينما هي تتفادى هذه التفاصيل الصغيرة ولا ترى من العراق إلاّ القتل والخطف والتعذيب والفدية والتهجير القسري والمفخخات والأحزمة الناسفة، في حين يسترجع هو الزمن الجميل الذي عاشه في القرن الماضي حينما أحبّ ابنة خالته "نجاة"، لكنه لم يستطع الزواج منها لأن شقيقه رفض أن يتزوج أختها بسبب ارتباطه بعلاقة عاطفية مع امرأة أخرى. كما أحبّ يوسف "دلالاً"، لكن ديانته وتحصيله العلمي المحدود وقفا حائلاً أمام زواجه من دلال التي أحبته ووجدت نفسها في شخصيته الحميمة المتفتحة التي تناغمت معها لولا موقف والدها المتزمت الذي نقلها من الدائرة التي يعمل فيها يوسف وزوّجها لأول شخص مسلم يطلب يدها. يحتد النقاش بين مها ويوسف حيث تتهمه بأنه يعيش في الماضي وكأنه منقطع عن الحاضر أو لا يعرف عنه شيئا، فتشعر بتأنيب الضمير وتقرر أن تعتذر منه، لكنها تكتشف أنه قد ذهب إلى الكنيسة فتلتحق به. لكن مجموعة إرهابية تهاجم الكنيسة وتقتل عدداً من الناس الأبرياء وعلى رأسهم يوسف كوركيس، ثم يتضاعف عدد الضحايا حينما يقرر الإرهابيون تفجير أنفسهم في أماكن متفرقة من الكنيسة قبل أن تصل قوة مكافحة الإرهاب لتنقذ الحرجى وتخلي الشهداء وسط ذعر العوائل المحتشدة التي كانت تراقب عن بُعد عملية الإنقاذ المتأخرة جداً. • الحوار التلفازي ارتأى سنان أنطون أن ينهي روايته بالحوار التلفازي الذي أجرته قناة "عشتار" الفضائية مع بعض الناجين، ولكن وقع اختياره على مها التي روت الحادث بالمحكية المسيحية العربية ووصفت فيه حجم الهلع الذي أصاب المصلين الذين يؤدون طقوسهم الدينية. كما أدانت الأطراف التي تقف وراء هذا العمل الإرهابي الذي يستهدف هذه الطائفة المسالمة التي تعايشت مع بقية الأديان والطوائف العراقية منذ آلاف السنين. ربما تكون اللحظة الأخيرة هي الأكثر درامية في المشهد الأخير من الرواية حينما ترى مها جثة يوسفَ وقد عرفت الرصاصة الغادرة الطريق إلى قلبه، بينما يبدو على شفتيه أنهما قد همستا بصوت خافت (يا مريم)، لكنه لم يكمل جملته الأخيرة، "فظلت عيناه مفتوحتين وهما تغرقان في ظلام الموت". كدأبه في روايتيه السابقتين يدين سنان أنطون الأطراف المُسببة للعنف الطائفي ولا يجد حرجاً في انتقاد الأحزاب الدينية واليسارية التي جاءت على ظهور الدبابات الأميركية التي اجتاحت العراق وحولته إلى بلد خرب تنعق فيه الغربان. تكشف الرواية في جانب آخر منها وجهات نظر الأخوة المسيحيين في مجمل القضايا التي تشغل العراقيين جميعاً بدءاً من محاكمة المسؤولين البعثيين، وعلى رأسهم طارق عزيز، وانتهاءً بمساعدي الرئيس والأحزاب السياسيّة.