يغرى ضعف العراق وثروته جيرانه للتنافس على النفوذ بين الفصائل العراقية التى تسعى جاهدة لتشكيل حكومة بعد قرابة ستة أشهر من الانتخابات. ولايزال تسليح جيش العراق الذى لم يعد به الآن سوى 50 ألف جندى أمريكى غير كاف للدفاع عن حدوده الوطنية لكن إيران وتركيا والسعودية وسوريا تسعى فى الوقت الحالى إلى تحقيق أهدافها من خلال سبل غير عسكرية ولا يستطيع أحد أن يضمن أن تصبح له اليد العليا. فالغزو الذى قادته الولاياتالمتحدة عام 2003 أعطى سطوة للجماعات الشيعية الصديقة لإيران لكن الصراعات الداخلية بين الشيعة وتنامى نفوذ ساستهم والمشاعر القومية العراقية كلها عوامل تحد حتى من نفوذ طهران نفسها. أما تركيا التى تستخدم نفوذها الاقليمى المتزايد ونشاطها الدبلوماسى وقوتها الاقتصادية وشعبيتها الجديدة فى العالم العربى لتلعب بهدوء دورا يوازن دور إيران فتشجع وجود السنة والاكراد إلى جانب الشيعة فى أى حكومة جديدة ببغداد. ورغم ان المهمة القتالية الامريكية انتهت الأسبوع الماضى دون وجود حكومة عراقية تكبح جماح العنف لا تبدى الدول المجاورة ميلا لإحياء الهجمات التى انتشرت على نطاق واسع بالعراق قبل بضع سنوات. قال ديفيد بندر المحلل بمجموعة يوراسيا "فى عام 2005 كانت إيران وسوريا والسعودية تغذى العنف فى العراق وكانت الولاياتالمتحدة تتحرك بلا استراتيجية ولم يكد يكن هناك وجود للحكومة العراقية وقوات الأمن". أما الآن فهو يرى أن هؤلاء الجيران يفضلون استقرار العراق وأن قوات الأمن العراقية تحسنت وأن بقاء الدولة العراقية لم يعد مهددا مثلما كان فى عام 2005. حتى التقدم البسيط فى بناء الدولة من الصفر تقريبا بعد ان اسقطت الولاياتالمتحدة الرئيس صدام حسين وحظرت حزبه البعثى وسرحت جيشه ساعد فى الحد من التدخل الخارجى. وقال فالح عبدالجبار عالم الاجتماع المقيم فى بيروت "كلما كانت الدولة قوية فيما يتعلق بالمقدرة والشرعية كلما ضعفت العوامل الاقليمية.. لذا فإننا فى شكل أفضل مما كنا عليه فى الفترة بين عامى 2004 و2008. وأضاف أن على القوى الخارجية أن تتباحث مع الزعماء العراقيين بشأن أمور الدولة لا أن تملى أوامرها وحسب. وأشار عبدالجبار إلى إخفاق إيران فى اقناع أوثق حلفائها الشيعة بدعم نورى المالكى القائم بأعمال رئيس الوزراء بعد أن أدت انتخابات مارس التى لم تسفر عن فائز واضح إلى أن يصبح رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوى هو زعيم أكبر كتلة فى البرلمان بفارق طفيف عن أقرب منافسيه. وقال "مقتدى الصدر وعمار الحكيم رفضا تأييد المالكى والمالكى رفض التعاون معهما رغم ان الإيرانيين مارسوا ضغوطا هائلة لا تصدق". وتنظر تركيا بارتياب لأى تشكيلة تسمح للفصائل الشيعية باستبعاد الأقلية السنية من الحكم وهو أمر من شأنه إن حدث أن يغضب السعودية ودولا عربية أخرى كثيرة. وهى تعتبر ان اعطاء نصيب من السلطة لعلاوى الشيعى العلمانى الذى فاز بالكثير من أصوات السنة فى انتخابات مارس السبيل الأمثل للمساعدة فى إعادة دمج السنة فى السياسة العراقية تجنبا لعودة العمليات المسلحة التى نفذتها جماعات سنية وأعلت صوت مقاتلى تنظيم القاعدة. أما الأمريكيون الذين أسعدهم تحدى المالكى لرغبات إيران وهجومه على ميليشيا جيش المهدى الى يتزعمها الصدر عام 2008 فيريدون ايضا حكومة تضم جميع أطياف العراق.. حكومة ربما تضم كتلة علاوى مع ائتلاف المالكى وتحالف كردى وعرقلت الطموحات الشخصية فضلا عن الاختلافات السياسية ظهور أى ائتلاف بهذا الشكل. ويرى جيران العراق ان منع تشكيل تحالفات مسألة أسهل من تشكيلها. حتى الحلفاء الاقليميون مثل إيران وسوريا مختلفون حول العراق.. فاحتكار شيعة موالين لإيران للسلطة فى بغداد يتعارض مع الطابع القومى العربى للبعثيين الذين يحكمون سوريا حيث يغلب السكان السنة. وفى حين تبحث تركيا عن مصالحها فى العراق فإنها تتجنب إثارة غضب إيران وتبحث عن سبل لحل نزاع طهران النووى مع الغرب. والولاياتالمتحدة التى غيرت ترتيب رقعة الشطرنج بالمنطقة بغزوها العراق ستشهد تراجع نفوذها مع انسحاب قواتها. وقالت جالا ريانى من مؤسسة (آى. اتش. اس) جلوبال انسايت "عثرت إيران إلى حد كبير على دورها بالعراق. وسيسمح انسحاب القوات الامريكية المقاتلة لها بترسيخ هذا الوضع". غير ان الهيمنة السياسية تراوغ إيران التى قوبلت أيضا بمقاومة من المدارس الدينية الشيعية بمدينة النجف المقدسة حيث يتحدى المرجع الشيعى الأعلى آية الله على السيستانى قواعد الحكم الدينى التى تقوم عليها الجمهورية الإسلامية. وقال بول روجرز الأستاذ بجامعة برادفورد ببريطانيا "العراق من الناحية الدينية أهم بالنسبة للمذهب الشيعى من إيران" فى إشارة إلى مدينتى النجف وكربلاء اللتين تضمان مزارات شيعية مهمة. وأضاف "قد يحد هذا من النفوذ الدينى لإيران". وفى الوقت الحالى يركز جيران العراق على اكتساب نفوذ سياسى لا على تطبيق أهداف كل منهم عنوة. لكن هذا قد يتغير. فإذا استمر جمود الموقف الذى أعقب انتخابات العراق سيزداد خطر خسارة المكاسب الأمنية التى تحققت. وقد تترك الجماعات السياسية والعرقية والطائفية فى نهاية المطاف عملية المساومة وتعود إلى العنف لتأمين مصالحها. ومن شأن هذا الأمر - بخاصة ان أثار مواجهة بين العرب والأكراد فى الشمال- أن يجر إليه تركيا أو إيران أو سوريا وبكل منها أقلية كردية مثيرة للقلاقل. وقال عبدالجبار انه لا يمكن استبعاد تدخل جيران العراق عسكريا استبعادا تاما حتى وإن كان هذا احتمالا بعيدا رغم خفض الوجود العسكرى الأمريكى. وأضاف "إذا استمرت هذه الأزمة أو إذا قرر البعثيون الرجوع للعنف أو إذا حدث تفكك فى الجيش.. فلم لا؟".