أخيرا تم تشكيل الحكومة العراقية بعد أكثر من تسعة شهور من الانتخابات, وبعد مخاض طويل ومساومات بين الكتل الرئيسية التي تم توزيع المناصب الوزارية عليها طبقا لحصص, من خلال ما يمكن تسميته بتوافق الضرورة وتم ترضية الكتل بقدر الإمكان عبر تلبية مطالبها في وزارات بعينها, لتصبح هذه الحكومة أكبر حكومة عراقية منذ الانتداب البريطاني(24 وزارة) ولم يتم الاتفاق النهائي, علي تسعة وزارات منها رغم تصديق البرلمان عليها, وقد كشفت عملية تشكيل الحكومة وما صاحبها من تفاعل سياسي داخلي ومواقف إقليمية ودولية عن طبيعة المشهد العراقي الحالي, والتي تتحدد ملامحه فيما يلي: نجاح المالكي في فرض أجندته السياسية من خلال صياغة تحالف الأغلبية فضلا عن نجاحه في إعادة تماسك التحالف الوطني ككتلة شيعية وتوصله لصيغة تفاهم مع التيار الصدري, واختراقه للمجلس الأعلي الإسلامي واستقطابه منظمة بدر الجناح العسكري للحزب التي تحالف معها المالكي وتولي زعيمها منصبا وزاريا, وبما يؤكد أنه أقوي القيادات السياسية العراقية حاليا في العراق. استمرار حجم التأثير والنفوذ الكردي داخل العملية السياسية, بحيث يمثلون رمانة الميزان أو القوة المرجحة, ولا شك أنهم استثمروا بكفاءة تنافس القوي السياسية الأخري لتحقيق المزيد من المكاسب, وتقنينها في وثائق يصعب تجاوزها, في إطار حرصهم علي تحقيق خطوات ومكاسب إضافية متتالية بأسلوب هاديء, ومن الملاحظ أن القيادات الكردية في سعيها لتحقيق ذلك لم تخضع للضغوط الأمريكية التي استهدفت التنازل عن بعض المناصب أو التحالف مع القائمة العراقية, لأنهم أصروا علي أن تكون بعض المناصب حكرا عليهم, خاصة رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية, كما أن علاوي لم يكن واضحا بدرجة كافية من مطالبهم, لاسيما كركوك والمناطق المتنازع عليها, عكس المالكي, وقد أدرك الأكراد بوضوح حجم التأثير الإيراني في العملية السياسية في العراق فحرصوا علي الحوار مع طهران وكسب ثقتها. فشل القائمة العراقية بزعامة علاوي والتي ضمت كتلا سنية بالدرجة الأولي في فرض أجندتها السياسية, رغم حصولها علي أغلبية المقاعد في الانتخابات, واتخذت مواقف بدأت متشددة( رفض تولي المالكي رئاسة الحكومة والحصول علي الاستحقاق الانتخابي كشرط للمشاركة في الحكومة) وتخلت عنها في النهاية, ولم تنجح في صياغة أي تحالف مع القوي الأخري, وانشغلت بمحاولة حشد تأييد إقليمي مساند لتولي علاوي رئاسة الحكومة. وتنافست القيادات داخلها علي المناصب الوزارية وهو ما أضعف قراراتها في مواجهة التحالف الوطني والائتلاف الكردستاني. تصاعد دور التيار الصدري, الذي لايزال زعيمه يقيم في إيران, ورغم أنه أعلن رفضه لتولي المالكي رئاسة الوزراء, وسعي للتنسيق مع القائمة العراقية, إلا أنه غير من موقفه تماما في النهاية, وقبل المشاركة في الحكومة ضمن صفقة بررها مقتدي الصدر لأنصاره بأنها تمت تحت ضغط إيراني. وحصل بموجب هذه الصفقة علي منصب نائب رئيس الحكومة وخمس وزارات ووعود بالافراج عن المعتقلين من أنصاره مع التخلي عن العناصر المتطرفة المحسوبة عليه, وهو ما وضح من اتهامات الصدر مؤخرا لتنظيم عصائب أهل الحق وكذلك لواء اليوم الموعود وهي من الفصائل العسكرية التي خرجت من عباءة جيش المهدي ومارست الحرب الطائفية بعنف شديد. تراجع دور ونفوذ المجلس الأعلي الإسلامي الذي كان أقوي الأحزاب الشيعية بعد الاحتلال بعد تراجع شعبيته في بعض محافظات الوسط والجنوب, فضلا عن تركيز إيران علي التيار الصدري والمالكي, علي حساب المجلس وإن كان من المرجح ألا يستسلم زعيمه لذلك, ويحاول إعادة بناء الحزب بما ينذر بتصاعد التنافس داخل التكتل الشيعي. تراجع تأثير المقاومة العراقية, بصورة كبيرة ارتبط بعمليات الانسحاب الأمريكي والذي كان المبرر الأساسي لنشاطها علاوة علي افتقادها للبيئة الحاضنة وتوقف الدعم المالي, سواء من الداخل أو الخارج, وكذلك استمرار انقسامها لجبهات متعددة, وتباين مواقفها وعجزها عن استثمار الانتخابات الأخيرة لتأكيد وجودها علي الساحة العراقية, وزاد من ذلك تخلي الولاياتالمتحدة وتركيا عن جهود المصالحة بين الحكومة والمجلس السياسي للمقاومة أحد تجمعاتها الرئيسية ويضاف إلي ذلك جهود دول الجوار في التضييق علي حركة عناصر المقاومة من وإلي العراق. ضعف قدرة وتأثير تنظيم القاعدة في العراق, بعد ضبط الحدود مع سوريا بصورة أساسية والتي كانت معبرا لحركة عناصر الدعم الوافدة للتنظيم ونجاح الضغوط الدولية والاقليمية في تجفيف مصادر الدعم المادي له, وتصاعد الخلافات مع تنظيمات المقاومة التي كانت توفر لعناصره ملاذا في السابق بسبب تباين أجندة كل منهما, كما أن التنظيم لم يعد يحقق أهدافا استراتيجية للتنظيم الأم. فلم يعد قادرا علي تحقيق إشغال أو استنزاف للقوات الأمريكية التي ترحل عن العراق, وكان يساهم في تخفيف الضغط عن التنظيم في باكستان وأفغانستان, وتركز قيادات التنظيم الرئيسي علي تنظيم اليمن وجنوب الجزيرة العربية ليستدرج الولاياتالمتحدة للتورط هناك. وفي تقديري تنظيم القاعدة في العراق يضم حاليا مجموعات من الخلايا التي تعمل دون أجندة واضحة وتم اختراقها بصورة كبيرة, بما يرجح أنها تتجه لمزيد من الضعف. تكشف تعقيدات المشهد العراقي عن عمق التأثير والنفوذ الإيراني, ونجاح طهران في ايجاد علاقات مصالح قوية مع معظم القوي السياسية العراقية, وإن هناك محاولات مكثفة من جانبها لخلق نوع من التواصل مع قوي سياسية وكذلك بعض فصائل المقاومة للايحاء بالبعد عن الإطار المذهبي, وللحد من محاولات بعض دول الجوار للتحرك علي هذا المحور. ولاشك أن رفض إيران للتعامل مع إياد علاوي رغم محاولاته كانت عاملا حاسما في عدم رئاسته للحكومة, وقد حرصت علي المحافظة علي علاقاتها القوية مع كافة الأحزاب والشخصيات الشيعية, إلا أنها ركزت علي المالكي كقيادة قوية يرتبط بها ويتمتع بنوع من القبول الأمريكي مع تبني التيار الصدري لضبط حركة المالكي عند الضرورة إلي جانب صلاتها بالائتلاف الكوردستاني, بما يجعل منها في النهاية أقوي القوي الخارجية تأثيرا في عملية اتخاذ القرار في النظام السياسي العراقي. يشير المشهد العراقي إلي تواصل عملية الانسحاب الأمريكي المجدول, وإن ظلت القوات الأمريكية مسئولة عن حماية الأجواء العراقية طبقا للاتفاقية الأمنية, مع بقاء قوات تحت مسمي التدريب لدعم الحكومة عند الضرورة. كما أن هناك حوارا مع رئيس الحكومة للاتفاق علي وجود عسكري في بعض القواعد لخدمة الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة, وكانت الزيارة الاخيرة لرئيس هيئة الأركان لبغداد لهذا الغرض. وإن كان من المرجح ألا يتم حسم هذا الموضوع إلا بعد استقرار الحكومة الجديدة. يؤكد المشهد الراهن تراجع الدور التركي الذي ارتكز علي دعم عملية التبادل التجاري بالدرجة الأولي وحرص علي التوافق مع الموقف الأمريكي من خلال المراهنة علي علاوي. كما أن ضغوطه علي القيادات الكردية للتخلي عن منصب رئاسة الجمهورية لعلاوي أثر كثيرا علي التطور الذي شهدته علاقات الطرفين. وقد انتبهت إيران لتوجهات تركيا ونجحت في محاصرتها خاصة محاولة اختراق التكتل الشيعي من خلال تنشيط علاقاتها بالتبار الصدري ولاتزال سوريا تمثل أكثر دول الجوار العربية تعاملا مع الواقع العراقي, إلا أن محاولتها الانفراد بالعمل وترتيبها لمحاولة التوفيق بين الصدر وعلاوي بالتنسيق مع تركيا, أقلقت إيران التيأجهضت تلك المحاولة وحدت من حجم التأثير السوري. من ناحية أخري يشي المشهد العام باستمرار غياب الموقف العربي بسبب تجاهل حركة الدول المعنية لطبيعة المعادلة السياسية في العراق, وعدم طرح مبادرات جادة للتوفيق بين القوي العراقية في التوقيت المناسب, وتبني القائمة العراقية وهو ما أوحي بنوع من الانحياز المذهبي, وتجاهل الحوار مع إيران بهذا الخصوص, فضلا عن تناقض المواقف العربية تجاه العراق بما يبقي العراق ميدانا للتأثير الإيراني, وكذلك الأمريكي, ولا شك أن حضور سفيري البلدين لجلسة تصديق مجلس النواب علي الحكومة مع غياب السفراء يكشف عن ذلك بوضوح. هكذا يبدو لي المشهد العراقي في بداية العام الجديد, حيث يعود بنا إلي عناصر المشهد نفسه الذي ساد منذ الاحتلال, ولا شك أن اتفاق الضرورة الذي حكم تشكيل الحكومة والذي جاء علي حساب الخبرة والكفاءة سوف يرتب صعوبات لها خلال الفترة القادمة. المزيد من مقالات د. محمد مجاهد الزيات