في نبذة صغيرة، جاء خبر هام جدا علي استحياء في الجرائد المصرية، ألا وهو تطوير البرامج التعليمية الدينية ومراعاة ألا يكون هناك ما يعزز التطرف الديني أو التحيز الطائفي في هذه البرامج. وعلي قدر ما سعدت بهذا الخبر للوهلة الأولي، بقدر ما وجدت أن هناك كثيرا من التحفظات التي يجب أن أعبر عنها في هذا المكان. أولا لابد من تأكيد أنه ليس هناك في أي دين، ما يعزز التطرف الديني، جاء السيد المسيح عليه السلام بدين محبة وسلام ، وأما الإسلام فقد قام أساسا ليكشف عن وحدة الرسالات، لأن المسلم يؤمن بالضرورة بكل الرسل الذين جاءوا من قبل : "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله". ولذا فإن موقف المسلم من غير المسلمين هو موقف محبة وتقدير وتعاطف، وليس موقف تعصب واستعلاء وتناحر. والإيمان برسالة الرسول (عليه أفضل الصلوات والسلام) هي ممارسة مباديء الإسلام الأخلاقية التي جاءت لتحرر الإنسان من ربق العبودية للقيم البالية، وتجذب الإنسان كي يعيش في عمق الحياة، وليس علي سطحها، وذلك بإحياء الفطرة التي تحثه علي أن يعرف رسالته علي هذه الأرض، فهي توضح له أنه لم يخلق عبثا، ولذا فلا ينبغي أن تكون حياته عبثا، ولكن عليه أن يبحث عن قيم الخير التي تجعل لحياته معني، وقد يكون هذا هو ما عناه الرسول (صلي الله عليه وسلم) بقوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". إذا اتفقنا علي هذا فهل يمكن أن تكون هناك تعاليم إسلامية تعزز التطرف، أم أن هذا التطرف أو التشدد هو اتجاه إنساني اجتماعي نفسي سياسي ليس له علاقة بالدين؟ الإجابة واضحة، وإن كان تحليلها يستلزم دراسات ومقالات ولا يمكن اختزالها في كلمات قليلة، ومع ذلك لا نستطيع أن نهرب من واقع ملموس وهو أن كثيرين قادرون علي أن يلجأوا إلي آيات بعينها دون اعتبار للسياقات التي جاءت فيها في القرآن، وكذلك دون النظر إلي أسباب النزول والملابسات التاريخية والاجتماعية التي نزلت فيها ليزرعوا التطرف والتحيز الديني. وكلنا يعلم أن القرآن قد نزل منجما، وأن إرشاداته التشريعية كانت تتنزل استجابة لمشاكل واقعية يواجهها المسلمون، ومع ذلك فإن هذه الإرشادات لها قيمة مستمرة لا تتوقف علي زمانها ومكانها وذلك إذا اجتهد البشر في فهم مقاصدها، وهو ما تمتليء به كتب الفقه وأصول الفقه. أؤكد أن التنزيل ليس به تحريض علي اتخاذ موقف عداء أو ازدراء لأي من الديانات الأخري، وبه تأكيد مستمر علي أن طبيعة الحياة هي الاختلاف والتنوع. وأما قتال المشركين، فلم تكن أبدا غاية في ذاتها، وإنما كانت تعبيرا عن الدفاع عن النفس، ضد قوم كانوا يريدون أن يهدموا رسالة الإسلام. "كتب عليكم القتال وهو كره لكم". ولذا أري أن تطوير البرامج التعليمية يجب أن يبدأ من وضوح هذه الرؤية، فليست القضية هي حذف بعض الآيات هنا أو هناك، ولكن القضية هي أن نؤكد للنشء تكامل الرسالات، وعظمة الإسلام في بيان هذا التكامل، لأنه دين محبة ورحمة وسلام. من هذا المنطلق يمكن لهم أن يكتشفوا بأنفسهم أن أي آيات قد تشير عند البعض إلي عكس ذلك، فهذا لأنها لم تفهم بالشكل المناسب، ويستطيعون هم بأنفسهم أن ينظروا إليها في سياقها، ليجدوا أن كل آياته دعت إلي القتال، تلتها آية تفتح الباب لإنهائه عندما يصبح هذا ممكنا، بل وهناك حث مستمر علي مبادلة الإساءة بالإحسان "إدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". وأما التحفظ الثاني في هذا الخبر فهو إغفال دور التدريس وأسلوبه في زرع بذور التشدد والتعصب الطائفي، وعدم الانتباه إلي أن أي برنامج ديني يمكن أن يستخدمه المدرس استخداما طائفيا متعصبا، ذلك أن هناك من العوامل الكثيرة التي مرت بمجتمعنا، قد جعلت هذا الفكر المتطرف شائعا، خاصة أن القنوات الفضائية أصبحت مصدرا لاستقاء معلومات دينية مغلوطة. ولذا فإن إعادة تأهيل معلمي الدين لا بد أن يسير جنبا مع جنب مع تطوير البرامج الدينية، ويجب أن يكون هذا التأهيل قائما علي التعرف من خلال أبحاث ميدانية علي طريقة التفكير والبناء العقلي الذي يرتبط بالتعصب الديني، حتي يمكن أن يكون هذا التدريب مجديا. وذلك لأنه إذا كانت برامج تعليم المعلمين تقوم علي عرض وجهة نظر الأزهر فقط دون حوار من جانب المتعلمين، فإنهم قد يؤدون الاختبارات المطلوبة دون قناعة حقيقية، ويستمرون في بذر التعصب بطريقتهم الخاصة. واقترن الخبر بإقتراح بوضع برامج للأخلاق تدعو إلي التسامح، وتحفظي علي هذا الاقتراح بهذا الشكل يعود إلي افتراض مضمن أن قيم التسامح يجب أن تدرس بالإضافة إلي البرامج الدينية، وليس من خلالها. أي أنني أتساءل لماذا يكون هناك برنامج خارج البرنامج التعليمي الديني يؤكد علي قيم هي أساسية داخل كل الأديان. ولست هنا ممن يعترضون علي أن يكون هناك برامج تعليمية موازية تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر علي توسيع القدرات الفكرية لدي النشء في التعرف علي القيم النبيلة في مختلف الثقافات والديانات، وتساعده علي التفتح وقبول الآخر. بل أجد أن مثل هذه البرامج ضرورية للقضاء علي الفكر الأحادي الطائفي أو العنصري الذي يعزل أصحابه عن التراث الإنساني. ولكن هناك فرقا أن يكون المقرر الأخلاقي موازيا للبرنامج الديني وبين أن تكون هناك مقرر أو مقررات تعزز ما تدعو إليه الإديان من خلال بناء ثقافة وشخصية قادرة علي التفكير النقدي والتأمل، وتقدير الاختلاف والتنوع، شخصية قادرة علي التعرف علي قيمة الجمال والخير ليس عن طريق التلقين، بل عن طريق المعايشة والخبرة، شخصية يكون الإيمان جزءا من تكوينها وليس قضية معرفية يقولها اللسان ولا يؤكدها القلب والعمل. وعلي الرغم من تحفظاتي سابقة الذكر، إلا أن التنبه إلي أثر البرامج الدينية في تعميق الفكر الطائفي المتعصب هو أمر علي جانب كبير من الأهمية. ومحاولة تغيير أسلوب تدريس مقرر الدين ليكون قادرا علي بناء روح الدين الحقيقية التي جاءت من أجلها كل الرسالات هدف قومي من شأنه أن يكون له أثر علي إزالة ما شاب الروح المصرية من أمراض فكرية، تضافرت في تكوينها أسباب كثيرة ومعقدة، وأساس لإقامة نهضة كاملة شاملة. وإضافة إلي ما تقدم فإن السياسة التعليمية للنشء في التعليم ما قبل الجامعي يجب أن تكون واعية إلي بناء رؤية مستقبلية لما نريد أن يكون عليه شبابنا: تلك القوة المنتجة التي سيعتمد عليها مستقبلنا. ومن هنا فينبغي أن يحدث تجديد هام في طرق تدريس مقررات الدين، ذلك أنه في كثير من الأحيان تكون أن الافتراضات الأساسية التي يقوم عليها تدريس الدين ترسخ في عقول النشء أنه غير قادرين علي التساؤل والمناقشة فيما لا يستطيعون استيعابه من أمور الدين، وأنهم يجب أن يطيعوا ما يقوله المعلم تفسيرا لما أمر به الدين. وقد جزعت عندما كنت أتحدث مع أحدهم ممن نال درجة علمية عالية، عن التفاعل مع التعاليم الدينية، وقال لي بكل تأكيد وثقة، يجب أن تضعي عقلك ورغبتك جانبا وتنفذي ما أمر الله به. استوقفتني هذه العبارة، لأنه علي الرغم من أن بها نبرة صدق، وجزءا ما من الحقيقة، إلا أنها تحوي بنية ثقافية تفترض أن كل ما يقوله رجل الدين تعبير عن فهم لا يتطرق إليه الشك، وأن الدين قائم علي أساس من الطاعة العمياء لأوامر الله كما ينقلها إلينا مؤسسة أو شخص ما. وهاتان القضيتان لا تعبران عن مقصد أي رسالة دينية، لأن كل الرسالات، خاصة الإسلام، قد وضعت المسئولية الفردية في قمة المتطلبات للمسلم، ولذا فإن كل إنسان مكلف أن يتفكر فيما يتلقاه من تعليم وإرشادات، ومعني هذا ألا يأخذ كل ما يسمع علي أنه أمر مسلم به، ولكن عليه أن يتفكر ويتدبر ويختار. ولا يفوتنا أن الجماعات الإرهابية قائمة علي أساس الطاعة المطلقة للأمير باعتباره عالما بأمور الدين، وهو ما أودي بشبابنا إلي التهلكة. والمغالطة الثانية هي افتراض أن الله (سبحانه وتعالي) يريد من عباده الطاعة، أليس هذا متناقضا مع إيماننا أنه غني عن العالمين. إضافة إلي أن التبليغ قام علي الدعوة بالتي هي أحسن، والموعظة الحسنة، والتي تفترض أن المتلقي يجب أن يكون علي بينة من الحكمة والهدف من الرسالة الإلهية، وواثقا وقادرا علي فهم قيمتها بالنسبة له كإنسان، فلا يشعر الإنسان بهذا التعارض بين ما يشعر به، وبين ما توجهه إليه الرسالة الدينية، ولا يأخذ التعاليم الدينية علي أنها الزام قهري، يتجاهل الفروق الفردية بين البشر وقدراتهم. إن ما عبر عنه محدثي قد نبهني إلي هناك حاجة ملحة وهامة في طريقة توصيل التعاليم الدينية عن طريق التدريس، ذلك أن ما نخشاه هنا ليس فقط إساءة فهم مقصد الرسالة، وإنما ما يهددنا هو ترسيخ عقلية تعتمد علي غيرها في البحث عن الحقيقة، وبالتالي يعجز عقل الطالب في أي مقرر دراسي لأي مادة علمية عن التخلي عن أسلوب التلقين، لأنه يبحث دائما عمن يعطيه "الحقيقة"، ولا يسعي هو في الوصول إليها. ومن شأن هذه الشخصية أن تفشل في أي نوع من الإبداع. ونحن اليوم في أشد الحاجة أن نخرج من دائرة إعادة انتاج المعرفة إلي القدرة علي انتاجها، وهذا هو التحدي الذي يواجهنا في القرن الواحد والعشرين.