الوطن هو الحُضن..هو زهرة الياسمين التي ولدت ألف قمر أبيض وعلقتها علي قضبان النوافذ...الوطن هو الدفء والسُكني...وأسراب السنونو التي لاتصطاف إلا فيه.. الوطن هو الليلكة التي تُمشط شعرها البنفسجي...الوطن هو أصدقاء الطفولة..أشجار النارنج والقطط الشامية التي تصعد لمملكة الشمس لتمارس غزلها بعيدا عن العيون... هذه هي دمشق كما يراها الشاعر الجميل نزار قباني...فدمشق نزار هي بيته العتيق في (مئذنة الشحم)...دمشق هي أبوه (توفيق قباني) صانع الحلوي وصانع الثورة...دمشق هي أمه (أم المعتز) بقهوتها الممزوجة برحيق الزهر وحليب القمر..دمشق هي أشقاؤه المعتز ورشيد وصباح وهيفاء... يقول نزار عن دمشق (( الواقع أن دمشقيتي هي نقطة ضعفي وقوتي معا...إن دمشق تتكمش بي كما يتكمش الرضيع بثدي أمه..إنها تسكنني كما يسكن الله وجه امرأة جميلة..كل "ألف" رسمتها علي الورق هي مئذنة دمشقية..كل "ضمة" مستديرة هي قبة من قباب الشام..كل "شين" هي شجرة مشمش مزهرة..كل "سين" هي سنبلة قمح..هكذا تستوطن دمشق كتابتي، وتشكل جغرافيتها جزءا من جغرافية أدبي )).. وُلد نزار في الفصل التي تثور فيه الأرض علي نفسها، وترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة. 21 مارس، استقبله الربيع وودعه الربيع أيضا فتوفي يوم 30 إبريل...لقد ولد وحبا ونطق كلماته الأولي ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر...كان اصطدامه بالجمال قدرا يوميا، كان إذا تعثر يتعثر بجناح حمامة وإذا سقط يسقط في حضن وردة.. يتذكر نزار طفولته فيقول (( أستطيع بعد ثلاثين سنة أن أغمض عيني وأستعيد مجلس أبي في صحن الدار، وأمامه فنجان قهوته ومنقله وجريدته وعلي صفحاتها تتساقط كل خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء كأنها رسالة حب قادمة من السماء..علي السجادة الفارسية الممدودة علي بلاط الدار ذاكرت دروسي، وكتبت فروضي وحفظت قصائد عمرو بن كلثوم وزهير...هذا البيت ترك بصماته علي شعري كما تركت غرناطة وقرطبة وإشبيلية بصماتها علي الشعر الأندلسي..)) حتي عندما عمل بالسلك الدبلوماسي لنحو عشرين عاما ،لم تتخل أبجديته الدمشقية عن تمسكها بأصابعه وظل دائما ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كل ما في أحواض دمشق من نعناع وفل وورد بلدي...حتي أنه حمل معه دمشقه إلي كل فنادق العالم فلم ينم ليلة إلا ودمشق بين أحضانه... لكن الحزن كان قدره.. فكم سلبته الأيام الكثيرين ممن أحبهم وأخذت منه أشخاصا كانوا كل حياته فانكسر عوده وامتزج شعره بنغمات الوداع، وأنّت حروفه بأوجاع فكتب أجمل قصائده وتفجرت الكلمات لديه من رحم أحزانه... يقول نزار(( حين مشيت في جنازة أختي، وأنا في الخامسة عشرة من عمري كان الحب يمشي إلي جانبي في الجنازة ويشد علي ذراعي ويبكي، إن مصرع أختي العاشقة كسر شيئا في داخلي وترك علي سطح بحيرة طفولتي أكثر من دائرة،وأكثر من إشارة استفهام)).. وقد رثا نزار أخته بقصيدة من روائع أحزانه عنوانها" إلي الأميرة المغادرة التي لم تغادر"..يقول فيها ((صوت أختي في بيتنا ما زال يتردد..بكل الزوايا..ووجهها الناعم الجميل..يبادل التحية كل صباح..وجه المرايا))...ثم ينهي القصيدة بقوله((سلام إلي الأيام الباقية..والأيام البعيدة الباكية..سلام علي يوم خرجت فيه من بيتنا..وإليه تعود دوما حية)).. وفارقته أمه فرثاها قائلا ((بموت أمي..يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي..آخر قميص حنان..آخر مظلة مطر..وفي الشتاء القادم..ستجدونني أتجول في الشوارع عاريا))... وفي رثاء ابنه توفيق الأمير الجميل كما كان يحلو له أن يناديه كتب نزار قصيدة بعنوان" إلي الأمير الدمشقي توفيق قباني " وفيها يقول((مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات..ومقصوصة كجناح أبيك هي المفردات..فكيف يغني المغني؟..وقد ملأ الدمع كل الدواه..وماذا سأكتب يا بني؟..وموتك ألغي جميع اللغات )).. تزوج نزار من "بلقيس الراوي" وهي من أصل عراقي وعلي حد قوله كانت بلقيس قبيلة من النساء أعادت الدم للعروق كما أعادت الحبر للأقلام،عاش معها عيشة مليئة بالأفراح حتي فُجع نزار بأشد الفواجع قسوة عليه وهي مقتل بلقيس في حادث إرهابي إثر إنفجارالسفارة العراقية في بيروت فكتب فيها قصيدة رائعة عاتب فيها كل الدول العربية قائلا ((سأقول في التحقيق..إني قد عرفت القاتلين..بلقيس يا فرسي الجميلة..إنني من كل تاريخي خجول..هذه بلاد يقتلون بها الخيول..بلقيس أيتها الشهيدة والمطهرة النقية..سبأ تفتش عن مليكتها فردي للجماهير التحية..يا أعظم الملكات...بلقيس..إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب..ويأكل لحمنا عرب..ويبقر بطننا عرب..ويفتح قبرنا عرب..فكيف نفر من هذا القضاء؟..فالخنجر العربي...ليس يقيم فرقا..بين أعناق الرجال..وبين أعناق النساء...!)). هكذا قضي نزار أيامه سندبادا بين الدول فأحب باريس وتغني بالكلمات في لندن وعشق أسبانية، وتفاني في عشق الأوطان العربية... فكتب عن الحرب في بيروت وكأنه أحد أبناء لبنان...وفاضت الدموع من حروفه وهو يصف نكسة 67 وكأنه مصري عاشق لمصر..تحمس للثورة الجزائرية...وكتب الشعر في العراق...إنه شاعر ذابت جنسيته بين الأوطان العربية فأصبح جواز سفره يحمل لقب شاعر العرب... كان نزار شاعرا أستطاع الرسم بالكلمات فلم يترك بيتا إلا ودخله ممتطيا صهوة جواده الشعري..ولم يترك حديقة إلا وزرع بها ورودا ونرجسا وياسمينا ورواها برحيق كلماته...ولم يترك امرأة إلا وأهداها زهرة وزرع بين خصلات شعرها قصيدة.. ولم يترك عاشقا إلا وعلمه الحب... ولم يدع عربيا إلا وعلمه حب الأوطان وقدم إليه سيفا ليحارب به ضد مستعمريه... ولم يترك وطنا إلا واقتحمه بخيوله وأقلامه وأحباره وغزا شواطئه ودك قلاعه ورحل عنه تاركا فيه بيتا من الشعر هو كل وجوده....هكذا هو نزار شاعر دمشق الجميل وفارس الشعر العربي جاء إلي الدنيا حاملا معه هموم النساء وقضايا العرب ولكنه أبدا لم ينس قضية عمره... دمشق... سيدي الفارس الدمشقي أكتب إليك لأهنئك في ذكري وفاتك فلقد تحقق لك الحُلم وأصبحت اليوم جزءا من تاريخ دمشق.