مقدمه لسيادتكم فوزي عبدالشكور السيد، مدرس تاريخ بإحدي مدارس مصر الثانوية للبنين، ومعذرة لعدم تحديدي اسم المدرسة أو المديرية، لأنني أصارحك بخوفي الشديد من المعاقبة، لخبرات سابقة مع آخرين نالوا عقابا لأنهم " اشتكوا " لهذه الصحيفة أو تلك، أو حتي تحدثوا لأوامر سابقة من الوزارة بمنع التحدث إلي وسائل الإعلام إلا بإذن مسبق من المسئولين، لكن كيف أستأذن من اشكوهم وأبث للناس همومي التي تجئ من أبوابهم؟ علي أية حال، فما أتحدث عنه اليوم ليس شكوي "خاصة" بل هي صورة لهموم عامة لا أنفرد بها، بل هي هموم كثيرين ممن يشاركونني في المهنة . وأحمد الله سيدي أنني كنت من آخر "دفعة" تخرجت في كلية للتربية عينتها الوزارة أيام نظام التكليف، وكم نشعر بالتعاسة حقا، عندما رأينا بعد ذلك الوزارة تجئ إلينا بمئات، وربما ألوف ممن لم يلتحقوا بكليات التربية لتعدهم لممارسة المهنة، وهذا أشعرنا بجرح شديد، إذ أنه يكشف عن نظرة وزارة التربية لمهنة التربية، فإذا كان المهندس لابد أن يعد في كلية الهندسة، وإذا كان الطبيب لابد أن يعد في كلية الطب، والمحامي في كلية الحقوق وهكذا، إلا أن مهنة التدريس لم يعد من الضروري لدي الوزارة المسئولة عن التعليم أن يكون العامل بها قد تم إعداده خصيصا لها، فأي خريج، ويكفي أن تقَدم إليه بعض برامج التدريب القصيرة في عدة أيام وتتركون الخريج الذي أنفقت عليه الدولة ألوفا من الجنيهات مدة أربع سنوات.. وبالتالي فقد عاد الشعار الشهير عن مهنتنا بأنها مهنة من لا مهنة له. وقد انتظرنا أن تتحرك نقابتنا للدفاع عن كرامة المهنة، فنقابة المحامين لا تعطي ترخيصا بمزاولة المحاماة إلا لخريج الحقوق، وهكذا نقابات الصيادلة والمهندسين والأطباء، لكننا فقدنا الثقة في هذه النقابة التي هي أضخم نقابة في مصر، إذ يصل أعضاؤها إلي ما هو أكثر من مليون، لكنها أشبه بحيوان الديناصور، ضخم الجثة، قليل الفاعلية. ولأن النقابة المسئولة عنا لا تحافظ علي كرامة المهنة، فلا عجب أن نفتقد نحن قدرا من هذه الكرامة، فكرامة الفرد جزء لا يتجزأ من كرامة الجماعة المهنية التي ينتمي إليها. طبعا حالة الموات التي عليها النقابة، وعدم وقوفها لمناصرة المعلمين ضد بعض تصرفات السلطة، وهو نتيجة طبيعية لعشرات السنين لولادة النقابة في أحضان السلطة السياسية وحرص وزراء سابقين علي أن يكون وزير التربية هو نفسه نقيب المعلمين، الأمر الذي لا مثيل له علي الأرض، مما طبعها علي أخلاقيات الطاعة المطلقة للسلطة! لقد تخرجت منذ أواسط التسعينيات، ولم يزد مرتبي عن الخمسمائة جنيه، حيث لم تمكني ظروفي إلا أن أحصل علي 50% من الكادر، ذلك الذي كان صورة هزلية " بهدلتنا " فترة من الفترات، من أجل المن علينا بزيادة صورت للرأي العام بأنها مائة في المائة، ولو تنبه الناس إلي أن ذلك يكون بالنسبة للمرتب الأساسي، لأدركوا كم هي قطرة ماء تسقط علي نبات طال عطشه! لقد كانت تجربة سيئة للغاية، حيث نظموا لنا امتحانات من غير أن تسبقها فترة كافية يتم خلالها تجديد ما لدينا من معلومات، وتقديم معلومات لمن لم يسبق لهم الإعداد في كليات التربية، فماذا كانت النتيجة؟ الالتحاق بطابور "الغشاشين"، وهكذا، اكتملت المنظومة، فالحكومة تغشنا وتقول إنها تزيد مرتبنا مائة في المائة، وتلاميذنا يغشون، ونحن أيضا نغش، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يكفي أن أقول لك يا سيدي إن ما أتسلمه من الوزارة لا يكفيني ثمنا للدروس الخصوصية لأولادي الثلاثة! نعم يا سيدي، فالناس الذين يشكون ويدعون أن المدرسين يمصون دم قلبهم في الدروس الخصوصية، ينسون أن هؤلاء المدرسين هم أنفسهم آباء وأمهات، تخصصوا في مادة واحدة، وبالتالي فهم أيضا يدفعون دم قلبهم في الدروس الخصوصية، وهكذا، ندور في حلقة مفرغة جهنمية تحتاج إلي عبقري كي يعرف كيف يوقف دورانها المخيف! وحتي أستطيع أن أوفر لأولادي لقمة عيش وملبسا ومأوي وعلاجا، كان طبيعيا أن أبحث عن مصدر لزيادة دخلي، بأن أعطي أنا أيضا دروسا لأبناء الآخرين، علي الرغم من أن مادة التاريخ لم يكن معروفا عنها أنها جاذبة للدروس، لكن، حمدا لله، لم يعد هناك فرق بين التاريخ واللغات والعلوم والرياضيات، والدور قادم بالنسبة لمادة الرسم لتدخل تحت عباءة الدروس الخصوصية! قد تسارع إلي القول بأننا السبب، وأننا لو كنا نقوم بواجبنا في التعليم في المدرسة علي ما يرضي الله ورسوله كما يقولون، لما أصيبت مصر بهذا الوباء، لكن، يا سيدي هذا تفسير غير كامل للمشكلة، فهناك أسباب متعددة، تحتاج إلي فريق كبير من العلماء والباحثين لدراسة كل جوانب القضية، وأرجو ألا تكرر هذه العبارة المهينة التي أطلقها وزير سابق، حيث وصفنا بأننا نشكل "مافيا الدروس الخصوصية"، إذ لو كانت لنا حرية التعبير حقا لرددنا عليه بأن هناك في الوزارة من أول الوزير إلي مستويات أخري بعده يكسبون الألوف خارج المرتب " وإذا كان خبر الأهرام نفسه قد تضمن حادثة أخري، ألا وهي اعتداء مُدرسة بمدرسة إعدادية بشبين القناطر علي تلميذ برجل كرسي أصابته بكدمات في أنحاء جسده، فإن هذا يعني أن المسألة لم تعد خاصة بالمدرس وحده واتهام البعض له بممارسة العنف مع التلاميذ، وإنما هي، مرة أخري، معالي الوزير، "مكانة المعلم"، والتي هي، كما أشرت من قبل لها عناصرها المختلفة. ثم، ألا تحمل لنا الأخبار بين حين وآخر، بعض نواب ما يسمي بمجلس الشعب يتبادلون الشتائم بالأب والأم، آخرها ما حدث بين "أحمد شوبير"، وأحد نواب الإخوان المسلمين، أو من تسموهم بالمحظورة، وفي مرات أخري ارتفعت "الجزم" لتهوي علي هذا أو ذاك؟ كلنا إذن ضحية العنف، وعندك المركز القومي للبحوث التربوية، اطلب منه أن يدرس هذه الظاهرة، علي الرغم من أن كثيرين درسوها بالفعل، لتتأكد أننا لسنا وحدنا، حتي يحملنا الناس مسئولية استخدام الضرب.. وأهمس في أذنك معالي الوزير: أليست الحكومة نفسها هي النموذج الأعلي لكل المصريين في استخدام العنف؟ لا أريد أن أُفَصّل في هذا، فأنت سيد العارفين، وإن كنت لا أتوقع أن تعترف بذلك! وبعد، معالي الوزير، ما زال هناك ما يمكن أكتبه لك، لكن، ماذا أفعل؟ فقد حان موعدان مهمان، أولهما موعد درس لابنتي مفروض أن أوصلها إلي أحد مراكز الدروس الخصوصية، والموعد الثاني، هو ذهابي أنا إلي أحد هذه المراكز كي أعطي درسا خصوصيا!