سعاد حسني.. سندريلا السينما المصرية والعربية في المكان البعيد الذي تقيم فيه حاليا لا تزال تعاني من الاكتئاب الحاد والأرق وعدم النوم لأسباب كثيرة تعود في معظمها الي أحوالنا وما صرنا اليه في مصر. في ذكري ميلادها الأسبوع الماضي وبينما احتشدت الشاشات بأعمالها وأفلامها الخالدة تذكرت مجلة " الكواكب" في أوج مجدها حين وصفت العصر الذي عاشت فيه بأنه : عصر سعاد حسني..عصر 23 يوليو بما له وما عليه، بانتصاراته وهزائمه، بشعرائه وادبائه وسينمائييه، بانتهازييه ونبلائه، بمبدعيه وصعاليكه. المهتمون بالعمل العام في مصر يعرفون ان السندريلا كانت دائما تقف علي تخوم اليسار السياسي في مصر، بل كانت محسوبة عليه بطريقة او بأخري، مثلها مثل كبار مبدعي هذا العصر وفنانيه. لكنها كانت منحازة دائما الي ما وصفته بنفسها ب"الفن المسئول"..الفن الذي يبعث علي البهجة ولا يصيب رواده بالكآبة والحزن. الفن الذي يقدم حلولا ولا يستغرق في المشاكل كأنها غير قابلة للتطور والحل. وربما هنا مكمن قلقها واكتئابها في المكان البعيد الذي تقيم فيه حاليا. اختلطت سعاد منذ طفولتها المبكرة بشخصيات بارزة في عصرها: بابا شارو في الاذاعة والشاعر عبد الرحمن الخميسي وكامل الشناوي ويوسف السباعي واحسان عبد القدوس، وعايشت في هذا العصر اجيالا من اهم الرجال والنساء، واهم الافكار والانجازات. كان عصر الثورة هو عصر سعاد حسني الذي عبرت عنه وتفاعلت معه ورمزت اليه، كما رمز اليه عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين ويوسف ادريس وصلاح عبد الصبور واحمد بهاء الدين.. وغيرهم الكثير والكثير من الرموز. كانت سعاد حسني آخر رموز هذا العصر الجميل الذي انتهي بموتها أمام أبراج ستيوارت تاور بلندن في حادث غامض ومأساوي لم يتم فك طلاسمه حتي الآن. سعاد حسني لم تكن مجرد "ممثلة حلوة"، بل كانت، اضافة لجمالها المتفرد، تتمتع بثقافة سياسية وفنية رفيعة، وهذا سر خلودها الدائم، لم تكن فقط مجرد ممثلة موهوبة صارخة الجمال، خفيفة الظل، بل كانت نموذجا معياريا للحبيبة لدي أجيال متعاقبة من مشاهدي السينما العربية حيث أشاعت البهجة علي الجميع ومنحت السعادة للكل دون استثناء.. رجالا ونساء.. أولادا أو رجالا.. أنها هي من بين بنات جيلها جميعاً، نموذج الأنوثة لكل الفتيات والنساء وأميرة الحب لكل الفتية والرجال، إنها الجسد المكتمل روحاً وفتنة، شجناً ومرحاً.. من منا لم يقع في غرامها ؟! من منا لا يجد عبق صورتها الاخاذ في ركن عزيز من مخيلته؟ من منا لايتذكر جمال الفن والسينما والحياة عندما يري عملا من أعمالها؟! رغم أنها لم تنل قسطا من التعليم، ولم تكن خريجة معهد السينما لكنها استطاعت أن تتفوق علي أخريات نالوا أضعاف حظها من التعليم ونشأوا في ظروف أكثر راحة.. ودعة.. وثراء.. واستقرار.. وفي كتاب الزميل الصحفي منير مطاوع المقيم في لندن تفصح عن هويتها السياسية والفنية عندما سألها: هل أنت سياسية ؟ فأجابت بعفوية: لا.. طبعا انا مش سياسية، انا فنانة فاهمة اهمية الفن في المجتمع.. وفي السياسة، وعلشان كده مشغولة طول الوقت بتعميق وعيي واحساسي الوطني، بالمعرفة السياسية.. ودوري السياسي هو ان اقدم فنا صادقا علي اعلي مستوي. فيعود المؤلف في كتابه" السندريلا تتكلم" ليسألها: وهل عندك فكر سياسي تساندينه؟ يعني هل انت مع الاشتراكية؟ فترد: طبعا.. ومع العدالة الاجتماعية.. ومع حرية التعبير.. ومع الفن المسئول!! واقرأ قولها ايضا عندما تتحدث عن مفهومها للفن الناجح، تقول: انا عندي الفيلم الناجح مش هو اللي بيكسب كثيرا من دخل الشباك.. المهم يكون ناجحا في انه يعبر بفن جميل عن حياة الناس واحوالهم.. عن متاعبهم وتطلعاتهم، هذا هو النجاح الحقيقي. لا أشغل نفسي بماذا سيقول عني تاريخ السينما.. ولا أهتم بالمكان الذي سيضعني فيه. أنا أقدم أقصي ما عندي للفن من أجل التأثير في الناس وأنا لا أصنع فنا من أجل التأثير في المستقبل فمن المستحيل أن يتولي شخص واحد صناعة كل الأهداف النبيلة بمفرده، من الممكن أن يصنع كل إنسان شيئا صغيرا يجيده وبهذا من الممكن أن يحدث تطورا أو نقلة للأمام.. والأهم في اعتقادي ترميم الموجود الآن ثم نفكر في صنع التاريخ وتغيير المستقبل "انتهي الاقتباس". السندريلا تري الأولوية في ترميم الواقع الموجود وتقديم فن جميل يدفع الناس للأمام، لذلك تصورتها وقد نظرت الي السقف بعد أن فكرت طويلا ثم انتفضت من مقعدها الوثير لترفع سماعة التليفون بيد مرتعشة تغالب رغبة جارفة في مقاومة ما توشك علي فعله، وضعت السماعة للمرة العاشرة لكنها أخيرا همست بصوت خافت وبنبرة تحد: لازم أكلمه. التقطت السماعة ثم فكرت مليا، بعيون زائغة، كانت تدق أرقام التليفون كأنها في كل رقم ترفع حجرا من أحجار " سيزيف" في الأسطورة اليونانية القديمة..استغرق الأمر طويلا..وبعد عشرات المحاولات الفاشلة رن جرس الهاتف علي الجهة المقابلة لكن أحدا لم يرد: الرسالة الصوتية تقول: أنا المخرج خالد يوسف..أترك رسالة صوتية بعد سماع الصفارة. استجمعت قواها وبصوت حازم قالت: "ياخالد..أنا سعاد..باكلمك من مكان بعيد." صمتت لحظة ورسمت ابتسامة مصنوعة من كل صفاء الدنيا وشقاوة البنات ودلال الأنثي وقالت بصوت ممزوج بحنان الأم: " كلمني.. شكرا". قبل أن تضع السماعة فكرت فيما فعلته، لم تكن تدري ان المسافة بين أذنها وقاعدة التليفون طويلة الي هذا الحد.. وضعت السماعة وهزت رأسها، وقالت بأسي: أنا عملت اللي علي.. هو حر!!.