احب في البداية أن اعبر لكم كمواطنة مصرية عن شكري وامتناني لما تبذلونه من جهد لحماية أمن مصر داخليا وخارجيا، وقد اختلف في رؤيتي لبعض القضايا مع فخامتكم، ولكن ما يؤثرني حقا ويطمأنني لقيادتكم هو ذلك الإصرار علي ألا تدخل مصر في صراعات وحروب لا ضرورة لها ولا فائدة ترجي منها، وثباتكم في مواقفكم الوطنية المشهودة، وتحكيم النفس عندما تكون هناك استفزازات تريد أن تزج بمصر في مستنقع العداء والصراع، فتجيء قراراتكم حاسمة قوية، فلا يكون قراركم مبنيا علي الفعل ورد الفعل، بل من أجل مصر والمصريين. وإنه ليسعدني أن أعبر لكم عن امتناني العميق لهذا الحس الوطني العالي الذي جعلني والمصريين نشعر بأننا بفضل الله ورعايته في أيد أمينة. إن اطمئناني إلي وطنيتكم وصادق رغبتكم في خير هذا الوطن، هو ما دفعني إلي الكتابة المفتوحة إليكم في قضية من أخطر القضايا التي تهدد أمننا الوطني، ألا وهي التشدد الديني والتطرف الفكري الذي يهدد وحدة هذا الوطن وأمنه. فخامة الرئيس، لقد قرأت واستمعت إلي نقدكم للخطاب الديني في الكلمة التي ألقيتموها بمناسبة الاحتفال بالعيد الثامن والخامسين للشرطة، وأسعدني - كما أتصور أنه أسعد كل صاحب فكر حر - إبداؤكم لهذه الملاحظة الفطنة، وقولكم بالحرف الواحد إننا في حاجة إلي: "خطاب ديني، يدعمه النظام التعليمي والإعلام والمثقفون، يؤكد قيم المواطنة، وأن الدين لله والوطن للجميع، وينشر الوعي بأن الدين هو أمر بين الإنسان وربه، وأن المصريين بمسلميهم وأقباطهم شركاء وطن واحد، تواجههم ذات المشكلات، ويحدوهم ذات الطموح لمستقبل أفضل". ولأننا اعتدنا أن نجدكم مستجيبين لمطالب الجماهير، ومعدلين لكثير من القرارات التي تضر بمصالحها، فإن تصريحكم بأن هناك حاجة إلي خطاب ديني يرفع التعصب بين عنصري الأمة قد شجعني علي أن أتوجه إليكم علي هذه الصفحة التي ترحب بقلمي وتتيح مساحة واسعة لحرية الرأي والموضوعية في النقد. ولأنني أدين بدين الإسلام، فلن أتحدث عن الخطاب الديني المسيحي، فهذا ليس شأني، ولست مؤهلة للخوض فيه، ولكنني أريد أن أشير إلي الخطاب الديني الإسلامي الذي يملأ قاعات الدرس في النظام التعليمي وما يذخر به من توجهات نحو ترسيخ التفرقة بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخري، إذ يتلقي أبناؤنا في فصول الدراسة ما يشحن مشاعرهم ضد غير المسلمين باعتبارهم "كافرين" أو "غير موحدين". ولأن مداد قلمي وأقلام غيري قد نضب من الكتابة في مقاومة هذا الاتجاه، فإنني أتوجه إلي فخامتكم، لعلكم تتدخلون مباشرة في إنهاء هذه المهزلة، وحذف ما يساء تأويله من آيات القرآن الكريم التي يستخدمها الكثيرون لاستبعاد غير المسلمين من دائرة الإيمان، والحكم عليهم، مخالفين بذلك العديد من الآيات التي تؤكد أن "الحكم لله وحده"، وليس لبشر أن يحكم علي آخر بالكفر والخروج عن الدين، بل إن آيات القرآن الكريم مليئة بالآيات التي تؤكد أنه من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. إن هذا الشحن الفكري يؤثر بلا أدني شك علي العلاقات الإنسانية خارج قاعات الدرس والمحاضرات بين المسلمين والأقباط. ويتناسي هؤلاء أن قلب مصر المؤمن لم يعرف التفرقة بين الأديان، إنهم يحاولون أن يغيروا من هذه الطبيعة السمحاء التي سادت التاريخ المصري كله، وبرزت في ثورة 1919، كما برزت في نصر أكتوبر المجيد ، وفي أحداث كثيرة بطول تاريخنا العظيم وعرضه. أتوجه إلي فخامتكم حتي ألا يكون هناك احتكار للخطاب الديني من المؤسسات الرسمية ومن يردد أفكارها دون تأمل وتدبر. إنني لا أختلف ولا أتناقش فيما يخص "الفقه"، فهذا علم في حاجة إلي تخصص وإلمام بكثير من الجوانب التي لا تتاح لغير الدارسين، وإن كان لي أيضا ملاحظات في تطوير هذا الجناح الهام من الدراسة، ولكنني أتحدث هنا عن الإرهاب العام الذي يجعل المبدعين والمفكرين والمثقفين في حذر عند حديثهم في أي أمر ديني. ويحضرني هذا الجدل حول التنقب وكشف الوجه، فعلي الرغم من أن هذه القضية تبدو قضية فقهية للوهلة الأولي، إلا أنها في الواقع تشير إلي أبعاد في أسلوب التفكير يتعدي الاحتكام إلي النصوص وإلي التقاليد الإسلامية، ذلك أنها تفترض أن الشكل أهم من المضمون، وتتجاهل كثيرا من الآداب والقيم الإسلامية التي أعلت من قيم الإنسان في شقيه المذكر والمؤنث. ذلك أن التنقب يتضمن إلغاء للهوية الذاتية للمرأة، ويلغي شخصيتها الاجتماعية، ويدعوها ضمنيا إلي الاحتجاب الكلي عن أداء دورها المهني والاجتماعي ومشاركتها السياسية العامة، ومن الواضح أن الإسلام لم يحجب المرأة بل شجعها علي التعبير عن كياتها وذاتيتها سواء في الشأن الاقتصادي أو الاجتماعي أو المهني أو الفكري أو العلمي. والسؤال هو لماذا ينتشر مثل هذا الزي بين السيدات انتشار النار في الهشيم، في الوقت الذي تبذل فيه الدولة جهودا مضنيا لتشجيع المرأة علي المشاركة المجتمعية والسياسية، وقد بلغ الاهتمام بها وتشجيعها تخصيص عدد من المقاعد لها في البرلمان المصري؟ إن القضاء علي مثل هذه الظواهر وغيرها لا يتم فقط من خلال "تفسير معتدل للآيات والأحاديث" - علي أهمية هذه الاجتهادات - ولكن اختفاء هذه الظواهر مرهون بتحرير الفكر من الرؤية الأحادية التي تجعل البعض يظن أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وتسلب من الجميع حق التفكير والاحتكام إلي الضمير ومحاسبة النفس، والبعض الآخر يصدق أن هناك من يمتلك هذه الحقيقة فيسير وراءه دون تدبر أو تفكر، بل منقادا إلي مصير لا يدريه. إن من تداعيات هذه الرؤية أنها تقيد الفكر وهو الهبة التي بها عرف الإنسان ربه، وطور معرفته وخلق الحضارة. إن هذا الاتجاه يحول الإنسان إلي آلة تتحرك بلا روح، وينزع العلاقة بين التدين وأهمية المساهمة في تحسين الحياة الإنسانية، وتحصر الدين في الأشكال والصور، فيصبح المتدين هو ذلك الإنسان الذي يحرص فقط علي أداء فروضه شكليا، حتي لو كان متكاسلا في عمله، متجبرا في معاملاته، مسيئا لغيره. إن هذه النظرة ستعود بنا إلي القرون المظلمة، لأنها تعمل علي نشر منهجية مغلقة في الفكر والتفكير، يتولد عنها بلادة ذهنية، لا تؤثر ففط في السلوكيات العامة، ولكن لها تداعياتها الأخري المؤثرة في تدهور القدرة الذهنية علي استخدام منهج علمي في التفكير والتحليل، ومن ثم فإنها توقف القدرة علي الإبداع في العلوم والفنون، وهذا بالتأكيد ما لا ترتضونه لبلدنا مصر.. مهد الحضارة الإنسانية، التي قامت حضارتها علي المراقبة الذاتية، فعرفت الضمير، وبه أبدعت وأتقنت وقدمت للعالم آثارا مازالت شاهدة علي كفاءة الإنسان المصري. فخامة الرئيس: هناك ألم أشعر به في نفوس أبناء مصر من الأقباط، أشعر به بما يحمله قلبي من تعاطف وطني إنساني يدعمه ويقويه الإيمان بمباديء الدين الإسلامي متمثلة في رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، متأسية بمنهجه في الرحمة والمودة. ينطلق الألم من يقيني أن أقباط مصر يشعرون بالاستبعاد، ويفتقدون الثقة في التعامل مع المواطنين المصريين من المسلمين، ويشعرون أن ما يبدو في الإعلام من تآزر بين رجال الدين المسيحي والمسلم، لا يدعمه سلوك يؤكد هذا التلاحم، ذلك أن الخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي يفتقر إلي االتكامل والشمولية التي تميزت بها الدعوة الإسلامية. إن هذا الخطاب له جانبان متناقضان. ففي الوقت الذي يدعو فيه إلي التعامل بالحسني مع غير المسلمين والعيش معهم في سلام، فهو يحمل في مضامينه حكما عليهم بالانحراف، طالما أنهم لم يتحولوا إلي الإسلام. وعندما ترتفع المواعظ في الجوامع لتؤكد هذه النزعة، يصبح الأمر (جد خطير). إن أقباط مصر يشعرون أن الدستور ينصفهم، والقانون لا يظلمهم، ولكن القائمين علي تنفيذ القانون ضحايا لهذا الفكر المغلق والمتعصب لأنهم يتعرضون مثل غيرهم لخطاب غيرمستنير، ولذا فإنهم يتكاسلون ويهملون ويظلمون ولا يقتصون ممن يثيرون الفتن ويعتدون. فخامة الرئيس .. إنني أوكد لسيادتكم أن مناهج تدريس الدين الإسلامي في حاجة إلي تغيير شامل، وأن تدريسها في حاجة إلي تطوير، وإني علي يقين أنكم تضعون هذا في أولويات اهتماماتكم، وأتمني أن أشرف وغيري من مثقفي مصر وذوي الفكر الحر المستنير في المساهمة، لو بالمراجعة وإعطاء الرأي في هذا التغيير. وآمل أن يخرج مثقفو مصر من حذرهم إلي انطلاقة فكرية واسعة في رؤية ما يمكن أن تقدم لنا القيم الدينية الخالية من التعصب في بناء نهضة مصرية أصيلة، يدعمها الإيمان بالله والانتماء إلي مصر رسالة وحضارة ومستقبلاً. وفقكم الله إلي ما فيه خير الوطن.