عُدت المكتبات رمزا دالاً علي ارتقاء الشعوب ونهوضها، مخزنا لمعارفها وكنوزها، ومكانا لاحتضان المثقفين والمفكرين والأدباء والعلماء، كحضانة تفرخ وتنمي لنا أجيالا جديدة منهم، لذا حرصت الشعوب علي أن تكون لديها مكتبات قومية، وأخري ذات اختصاصات في علوم بعينها، وغيرها لنشر الثقافة في المدن والقري، لكن في عصر الانترنت ومع ظهور المكتبات الرقمية، أصبحت هناك تساؤلات عديدة حول ماهية هذه المكتبات؟ كما أن السيل الغزير بها من المعلومات والمعارف هل يهدد الهوية الثقافية؟ وهل انتهي عصر المكتبات التقليدية؟ تعرف المكتبات الرقمية بأنها مجموعة من المعلومات الخاضعة لإدارة منهجية، تهدف إلي تقديم خدمة معرفية، من خلال اختزان المعلومات في صيغ رقمية، وإداراتها، ومن ثم إتاحتها عبر شبكة من الحاسبات. من المهم هنا التفريق بين السيل المتدفق من المعلومات إلي الحاسب الآلي لأي شخص في منزله، وبين إدارة المعلومات عبر شبكة الانترنت، فالأولي تعني العشوائية والثانية تعني أن هناك من ينظم هذه المعلومات ويدققها ويمحصها قبل أن تصبح ذات مصداقية لدي من يتلقاها. من هنا بات من الملح أن نؤكد أن هناك سباقاً بدأ في العالم اليوم نحو نوعية جديدة من أدوات تكوين المعرفة البشرية ليس عبر الورق، لكن عبر شبكة الانترنت، ومن سيكون له وجود حقيقي مدار بشكل جيد، سيكون له بالفعل مستقبل في الثقافة العالمية خلال السنوات القادمة، فهل هذا يعني أن مفهوم المكتبات بات حوله نقاش جديد؟ لاشك أن الإجابة بنعم ستكون منطقية، فهناك تحولات جذرية تحدث الآن، أدي بعضها إلي تشكيل اتحاد دولي للمكتبات الرقميةDLF في مقابل الاتحاد الدولي للمكتبات (التقليدية) IFLA، فالأول يضم المكتبات الجامعية في الولاياتالمتحدة والمكتبة البريطانية وجامعة أكسفورد ومكتبة الإسكندرية، وهم يسعون جميعاً من خلال معايير صارمة نحو خلق مجتمع مكتبي افتراضي يشكل وعاء للمعرفة الإنسانية علي شبكة الانترنت، أما الثاني فهو مجتمع المكتبات التقليدية الذي يرتكز علي مفهوم المكتبات الوطنية التي تقوم بخزن وفهرسة وحفظ الإصدارات الوطنية وغيرها من أوعية المعرفة، الفرق بينهما شاسع يماثل الفرق بين الورق والحاسبات الآلية، فالأول انتشاره محدود مقارنة بالثاني، والثاني يوجد في كل بيت يتجدد في كل ثانية، الثاني سيل يتدفق ويتجدد، الأول وهو الورق وعاء وحيد غير مترابط، كل مجموعة أوراق تشكل كتاباته صور أو أشكال أو جداول أو إحصاءات، لكن في النوع الثاني هناك ترابط بين النص والصورة والشكل والجدول فضلاً عن الأفلام، هنا يمكن تغيير المادة وتحسينها بصورة مستمرة، من الممكن أن يتفاعل معها القارئ وينقدها، الفرق هنا هو الفرق بين جمود المعرفة التي يحملها الورق وحيوية التفاعل مع المعرفة عبر شبكة الانترنت. عبر شبكة الانترنت وإمكانياتها غير المحدودة، لم يعد القارئ في حاجة إلي شراء الكتاب الورقي لكي يصل إلي المعلومة ولا إلي تصفح الموسوعات للوصول لها، كما لم يعد المؤلف في حاجة للناشر التقليدي لكي ينشر كتابه، بل أصبح لديه إمكانية أكبر في نشر مؤلفه، فأصبحنا نقرأ عن أدباء وشعراء ينشرون أعمالهم عبر أوعية رقمية مختلفة، ما الذي إذا يجعل للمكتبات الرقمية دوراً إذا كان القارئ مستقلاً عنها والمؤلف ليس بحاجة لمثل هذه المكتبات، إن عملية تنظيم المعلومات التي يقوم بها المختصون في المعلوماتية Information Professionals وهم الذين يفرقون بين الغث والسمين والهزل والعبث واللهو والجد فضلاً عن دورهم الذي نتخيله في الحفاظ علي الهوية الثقافية علي شبكة الانترنت، هذا الدور في غاية الخطورة ويحتاج إلي مكتبات تكون هي الحاضنة لهم والفاعلة في بث هذه المعلومات سواء في شكل كتب رقمية أو مواقع إلكترونية أو بوابات Gateway ، أو غير ذلك من أشكال الأوعية الرقمية، من هذا المنطق لا نستطيع أنه مع التدفق المعلوماتي انتهي عصر المكتبات، بل إن هناك مفهوماً جديداً للمكتبات سيكون بلا شك معتمداً بصورة أساسية علي البث الرقمي للمعلومات. إذا كانت المكتبات الرقمية تختلف عن مثيلتها التقليدية في كثير من المعطيات، فإن العامل المشترك بينهما هو العنصر البشري الذي ينتج المعرفة لكي يستخدمها، وما بين المنتج والمستهلك للمعرفة وسيط يتمثل في المكتبات سواء كانت تقليدية أو رقمية، هذا الوسيط يحتاج دائماً لكشاف هو الإنسان الذي يقوم بعملية تكشف الأوعية أيا كان نوعها، وانجح كشاف عالمي حاليا هو Google ، لقد غيرت شبكة الانترنت مفهوم الزمان والمكان، وأتاحت لنا فرصاً لم تكن منظورة منذ أعوام قليلة، فيمكن عن طريقها التعرف علي كم هائل من المخزون المعرفي في شتي المجالات حيث إن شبكة الانترنت تحوي عشرات المليارات من الصفحات، قابلة للبحث والكشف في ثانية واحدة أو أقل. وفائدة الانترنت هذه مرهونة بآلة البحث (الكشاف الالكتروني) المستخدم للتعرف علي المادة المتاحة، واختيار الأنسب منها لعرضها علي الباحث، فلا يعقل ان نتصور الباحث يحاول أن يجد ما يريد بين مليارات دون دليل. ومن ثم صار الكشاف المستخدم آلية أساسية في عصرنا، بل أصبحت هذه الآلية أكثر أهمية من أي عنصر آخر في عناصر الشبكة الاتصالية المعلوماتية، ولا شك أن أهم كشاف الكتروني علي الساحة حاليا هو Google إلا أن جوجل لم تكتف بعرض كشافها لاستخدام مئات الملايين من المتجولين علي شبكة الانترنت، بل دخلت في شراكة مع كبريات المكتبات الأكاديمية لرقمنة ملايين الكتب، حتي يتاح للباحث استعمال كشاف جوجل للبحث عما يريد فيها، أثارت هذه المبادرة جدلاً عالمياً، وبصفة خاصة في الولاياتالمتحدة حيث بدأ الصراع بين الناشرين من جهة وجوجل من جهة أخري، فضلاً عن أوروبا التي باتت في قلق شديد من سيطرة محرك البحث google علي الفضاء الرقمي، هذا يعني سيطرة الثقافة الأمريكية والانجليزية علي الثقافة العالمية، فكأن العالم أصبح ذا ثقافة أحادية في الفضاء الرقمي مؤكداً هيمنة ثقافة بعينها، فباتت الثقافات الأوروبية والآسيوية ومعها العربية وغيرها غير ذات محل في هذا الفضاء، لعل هذا ما دفع جان _ نويل جانيني المدير السابق للمكتبة الوطنية الفرنسية إلي تأليف كتاب عنوانه" جوجل.. عندما تتحدي أوروبا" مثيراً للقضايا التالية: أولاً: أن سيطرة كشاف جوجل Google سوف تؤدي إلي اختيار المادة المطروحة باللغة الانجليزية دون غيرها. فاذا تعرفت جوجل علي آلاف الصفحات فإنها تقدمها في ترتيب أولويات تحكمه " فلسفة جماهيرية" أي الصفحة التي قرأها أكبر عدد من القراء كسبق في الأولويات، مما يؤدي بمزيد من مستعملي الكشاف إلي قراءتها فيعضدوا مكانتها في كشف تال يقوم به باحث آخر. ثانياً: ان تركيز جوجل علي الفقرة الواحدة في الصفحة الواحدة، فيه تحطيم للمضمون الثقافي للعمل، وليس الوسيلة المثلي لتعريف القارئ بكتاب أو مقالة. ثالثاً: إننا المهتمين بالثقافة يجب علينا ان نؤكد أن تقديم ثقافتنا بلغتنا لا يحجب عن القراء والباحثين في شتي أنحاء العالم لأن كشاف جوجلGoogle سيعطي الأولوية للمنتج باللغة الانجليزية. رابعاً: انه يتعين علينا أيضاً أن نقدم منتجنا الثقافي في إطار مختلف عن مجرد فقرات متناثرة من صفحات متباينة، ولأن أمهات الكتب في ثقافتنا لا يجوز أن تطمس لمصلحة ما هو رائج مهما كان سطحياً. إن خلاصة ما ينتهي إليه جانيني بأن تقام مكتبة رقمية أوروبية، تقدم الثقافة باللغات الأوروبية المختلفة، وان تستثمر أوروبا لإنتاج كشاف يضاهي كفاءة كشاف جوجل لخدمة القراء والباحثين الراغبين في التعرف علي الثقافة الأوروبية. لذا بات أيضاً من الملح أن نفكر جلياً في إنتاج كشاف عربي وبناء مكتبة رقمية عربية، إذ أن الفضاء الرقمي إذا لم يوجد فيه العرب بقوة فلن يكون لهم مستقبل ثقافي، وإذا كان هناك جدل أوروبي، فمن المهم أن نثير هذه القضية عربياً، فهل هناك جهود عربية في هذا المضمار؟ تبنت مكتبة الإسكندرية عدداً من المشروعات بهدف أن يكون للعرب موطئ قدم في العالم الرقمي فبمشاركة مع كل من Carnegie Mellon Libraries كارنيجي ميلون والهند والصين تقوم مكتبة الإسكندرية معهم بإعداد مكتبة المليون كتاب علي شبكة الانترنت ليكون المشروع الأكبر عالمياً في هذا المجال بعد مشروع جوجل، حصة الثقافة العربية به مائتي ألف كتاب ستتضاعف في حالة مضاعفة المشروع، لكن هناك عائقاً أمام نجاح مكتبة الإسكندرية، هو حجم ما طبع في الوطن العربي منذ انتشار الطباعة به في القرن 19 م، والمسموح من هذا الكم بثه دون عوائق قانونية علي المكتبة الرقمية، إذ أن هذا الأمر يتطلب مساهمة ومشاركة جميع المؤسسات الثقافية العربية بمطبوعاتها. لكن لكي يكون لمصر موطئ قدم في هذا الفضاء يجري منذ ثلاث سنوات الإعداد لإطلاق ذاكرة مصر التاريخية، وهو المشروع الذي أقوم بتنفيذه مع فريق عمل من الشباب بمكتبة الإسكندرية، علي المدي البعيد سيكون لذاكرة مصر ثلاث مستويات: - مستوي للمستخدم العادي، الذي يبحث عن نص تاريخي مدقق مصحوباً بمواد وثائقية تساعده علي رؤية الحدث أو الشخصية بصورة أكثر عمقاً، مثل الفيلم الوثائقي أو اللقطات التليفزيونية التي ترينا مجريات الحدث، أو تعليقات الصحف عليه، أو الطوابع والعملات التي صدرت في هذه المناسبة. - مستوي للباحثين المتخصصين، حيث يستطيع أن يستدعي مزيداً من التفاصيل والخلفيات التاريخية والوثائق النادرة سواء كانت الرسمية أو الشخصية، فضلاً عن أن الذاكرة تتيح له إبداء رأيه وتصحيح المعلومات الواردة بها، إن كان هناك أخطاء. - مستوي للأطفال: من خلال رسوم الكرتون التي تشرح التاريخ بصورة مبهجة ومسلية للأطفال، هذا المستوي هو المرحلة الأخيرة في تنفيذ المشروع، وإن كان من وجهة نظري أصعبها. - المؤكد أن مواد هذه الذاكرة لن تتوقف عند بثها علي شبكة الانترنت بل ستمتد إلي ما لا نهاية، فمن الممكن إضافة مواد لها بصورة مستمرة، بل وتطويرها. من المتخيل لدي أن الخط الزمني الذي يبدأ بعام 1805 وينتهي بعام 1981م سيكون هو محور تصفح هذه الذاكرة، فضلاً عن الموضوعات المتنوعة التي لا تقف عند البعد السياسي الذي اعتدناه، بل يمتد إلي أن يشمل الجمعيات الأهلية، النوادي الرياضية، الشخصيات العامة، المنشآت العامة، المدن، الحياة الاجتماعية، اقتصاد والمؤسسات الاقتصادية، حتي نصل إلي محاولات للتعمق أكثر فأكثر في صلب الحياة اليومية للمصريين عبر مائتي عام تقريباً، لا ننسي المشروعات الكبري مثل خزان أسوان، حفر قناة السويس؛ أو الصغري كالصناعات الصغيرة التي ظهرت في مصر في عشرينيات القرن العشرين، إذا فغير الخط الزمني سيستطيع الزائر للذاكرة الوصول لما يريده من مداخل متعددة. هذه الذاكرة التي تحفظ تاريخ مصر، هي نموذج يمكن تقديمه في كل الدول العربية، ليكون هذا خارجاً عن تيار العولمة الجارف، مؤكداً شخصية كل دولة عربية علي حدة، إن ما سبق وأن ذكرته هو مجرد جزء من المحاولات الجارية عربياً. لقد جعل الورق تسجيل المعلومات سهلاً يسيراً، وحولت الطباعة القراءة إلي عادة يومية، وجعل الكمبيوتر العالم يعيش في ثورة من تدفق المعلومات، فهل انتهي عصر المكتبات؟ هل لم نعد في حاجة إلي تلك المباني الكبيرة لحفظ الكتب؟ هذان السؤالان لم يعودا علينا سوي بمزيد من التحديات، إن نشر الكتب لن يتوقف؛ ذلك أن اضطلاع الإنسان علي النوادر منها تماثل من حيث الكيفية رغبته في اقتناء اللوحات القديمة وزيارة المتاحف والآثار، بل إن نشر كل ما هو نادر وقديم كنشر أوائل طبعات روايات شكسبير علي موقع المكتبة البريطانية جعل القراء في نهم نحو التعامل مع هذه الطبعات مباشرة، فإذا كانت المكتبات الرقمية ستوفر النوادر من الصور والكتب التي ليس لها حقوق فكرية، فإن المكتبات التقليدية ستحتفظ بوظائف حفظ الكتب المطبوعة التي سيزداد الإقبال عليها، لأن التجربة أثبتت أن ظهور أي وسيط لا ينفي ولا يوقف الوسيط القديم للمعرفة الذي يطور من نفسه في قوالب ووظائف جديدة، كما أن المكتبات ستكون حاضنة للفكر وصانعة للثقافة، فبدلا من أن تكون مؤسسة متلقية للمنتج الفكري والثقافي، ستكون أداة صناعة الفكر والثقافة، لذا نجد أن مكتبة الإسكندريةالجديدة وضعت ضمن خطتها الاستراتيجية أن يكون بها مراكز بحثية منتجة لهذا الفكر وحاضنة للأجيال الجديدة من المثقفين نجد هذا من خلال مراكز بحثية مثل: - مركز النقوش والخطوط والكتابات: الذي يدرس كل أنواع النقوش والكتابات في العالم، ويعد أداة لدراسة الحضارات المختلفة وأصولها. - معهد دراسات السلام، هدفه نشر ثقافة السلام وهو يتبع حركة سوزان مبارك الدولية للمرأة من أجل السلام وتستضيفه مكتبة الإسكندرية. - مركز المخطوطات. - مركز البحوث والدراسات الخاصة. كما أن من وظائف المكتبات الآتية أن تكون ساحة للحوار والتبادل الثقافي، سواء كان داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لذا أنشئت مكتبة الإسكندرية: - مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط، ليكون أداة التواصل بين مكتبة الإسكندرية ودول حوض البحر المتوسط شعوباً ومؤسسات رسمية وغير رسمية. - منتدي الحوار، ليكون أداة الحوار الفكري والثقافي وملتقي يتم من خلاله مناقشة جميع الأفكار والآراء الجديدة. إن دور المكتبة تجاوز ذلك باستضافة مؤسسة الحوار الأورومتوسطي (اناليند) التابعة للإتحاد الأوروبي. إذا علاقة المكتبة هنا علاقة تفاعلية مع المجتمع المحلي والإقليمي والدولي، ولم تعد بناية لترفيف الكتب فقط، بل أداة تثقيف وحوار فهل هذا هو دور المكتبات في المستقبل؟ لاشك أن الإجابة علي هذا التساؤل تتوقف حاليا علي التغيرات المتلاحقة في وظيفة المكتبات، والتجارب المختلفة في هذا المجال وعلي رأسها تجربة مكتبة الإسكندرية.