جاء إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما عن عزمه إغلاق معتقل جوانتانامو عقب توليه الرئاسة رسميا في يناير 2009 أثناء مقابلة تليفزيونية أجراها مع شبكة سي بي إس CBS News الإخبارية في السادس عشر من نوفمبر الماضي (2008)، ليكشف عن تغيرات هيكلية في السياسة الخارجية الأمريكية علي وجه العموم، ومسار الحرب الأمريكية علي الإرهاب تحديدًا . و لقد عبر أوباما عن رؤيته تلك بتصريحه أثناء المقابلة، قائلاً: "قلت مرارًا إنني أريد إغلاق معتقل جوانتانامو، وقلت مرارًا: " إن أمريكا لا تمارس التعذيب"، بما يشير إلي أن الرئيس الأمريكي الجديد يسعي لاستعادة مكانة الولاياتالمتحدة و الارتقاء بوضعها الدولي الذي تعرض لانحدار كبير خلال فترتي رئاسة جورج بوش . ويثير ذلك عدة تساؤلات حول مدي قدرة الرئيس المنتخب باراك أوباما علي تنفيذ بنود برنامجه الانتخابي بخصوص إغلاق معتقل جوانتانامو، والخيارات المتاحة لديه لتغيير أدوات الحرب الأمريكية علي الإرهاب. فضلاً عن الأثر المتوقع لإغلاق المعتقل الذي يضم حوالي 250 سجينًا لم تتم محاكمتهم حتي الآن أو توجيه اتهامات إليهم .معتقل جوانتانامو وتراجع الصورة الأمريكية بدايةً فإن السياسات الأمريكية خلال الحرب علي الإرهاب بما انطوت عليه من مبادئ مثيرة للجدل مثل الضربات الهجومية الاستباقية ومقولات الصدام الحضاري، فضلاً عن الانتهاكات المتتالية لحقوق الإنسان في معتقل جوانتانامو وسجن " أبو غريب " بالعراق قد أدت إلي تنامي شعور دولي بالاستياء تجاه السياسات الأمريكية. ويستدل علي ذلك بما كشف عنه مركز بيو لاستطلاعات الرأي العام Pew Research Center survey في استطلاعه الدولي عام 2006 من تقلص شعبية الولاياتالمتحدة دوليا بين عامي 2002 و2006 من حوالي 81 % إلي 22% ممن شملهم استطلاع للرأي في عدد من دول العالم نتيجة للسياسات المثيرة للجدل التي اتبعتها الولاياتالمتحدة منذ احتلال العراق في عام 2003 . ولقد أدت تلك السياسات إلي تصاعد تيارات مناوئة للمصالح الأمريكية سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في إطار حلف شمال الأطلسي أو بين دول أمريكا اللاتينية الفناء الخلفي للولايات المتحدة ، والتي أخذت دولها تتجه نحو تبني سياسات يسارية راديكالية معادية للولايات المتحدة لم يكن أقل نتائجها قيام بوليفيا وفنزويلا بإعلان السفيرين الأمريكيين في دولتيهما أشخاصًا غير مرغوب بهم في أكتوبر الماضي (2008) . معتقل جوانتانامو وانتهاك حقوق الإنسان بيدَ أن الانتقادات الدولية قد تصاعدت حدتها في الآونة الأخيرة وتركزت تحديدًا علي انتهاكات حقوق الإنسان في المعتقلات والسجون الأمريكية خاصةً بعد الكشف عن وقائع تعذيب للسجناء في سجن " أبو غريب " بالعراق في مايو 2004 وتسرب معلومات حول وجود سجون سرية تديرها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في بعض الدول الأوروبية للتحقيق مع المشتبه في انتمائهم لتنظيمات إرهابية واحتجازهم في نوفمبر 2005 ، بما دفع منظمة العفو الدولية Amnesty International لإصدار تقرير في 21 من يونيو 2007 دعت فيه لإغلاق معتقل جوانتانامو فورًا. وأشارت إلي مرور أكثر من عام علي تلميح الرئيس الأمريكي جورج بوش إلي احتمال إغلاق المعتقل. مضيفة أنه بلا شك هناك تحديات عدة لإغلاق المعتقل إلا أن الحل من حيث المبدأ بسيطٌ ويتلخص بأن توجه الإدارة الأمريكية اتهامات إلي المعتقلين بارتكاب جرائم وتقديمهم لمحاكمة عادلة أمام محاكم مدنية أو أن تقوم بإطلاق سراحهم مع حصولهم علي حماية كاملة من تعرضهم للمزيد من إساءة المعاملة. ونظمت المنظمة في الذكري الخامسة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2006 تظاهرات حاشدة في مختلف أنحاء العالم و في الولاياتالمتحدة احتجاجًا علي استمرار احتجاز سجناء في معتقل جوانتانامو دون محاكمة وتوقيع الرئيس جورج بوش في أكتوبر 2005 علي قانون اللجان العسكرية الذي يجردُ المحاكم الأمريكية من الولاية القضائية للنظر في التماسات مثول المتهم أمام المحكمة للنظر في قانونية اعتقال السجناء بالمعتقلات الأمريكية. كما تصاعدت حدة الانتقادات الأوروبية الرسمية للسياسات الاعتقال الأمريكية التي انتقدتها المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل بشكل حاد في تصريحات لها لمجلة دير شبيجل الألمانية في يناير 2006 والتي دعت خلالها لحسم ملف معتقل جوانتانامو وإغلاقه نهائيا. تعهدات أوباما بإغلاق المعتقل انطوي برنامج باراك أوباما الانتخابي الذي تصدره شعار التغيير الذي نؤمن به "Change We Believe In"علي تعهد صريح كرره أوباما في عدة مناسبات بإغلاق معتقل جوانتانامو وإخضاع جميع المعتقلين به لمحاكمات قضائية عادلة بالولاياتالمتحدة تكفل لهم كافة حقوق التقاضي. كما تضمنت حملة أوباما الانتخابية علي تأكيدات صريحة علي عزم الأخير علي إغلاق المعتقل مثل خطابه أمام تجمع للمواطنين الأمريكيين في تكساس في 23 من يونيو 2007 الذي خصص جانبًا كبيرًا منه للإشارة إلي تصميمه علي ضرورة إغلاق معتقل جوانتانامو الذي بات يمثل عبئًا علي مصداقية الولاياتالمتحدة في العالم، وامتدح أوباما في 15 من يونيو الماضي (2008) قرار المحكمة العليا الأمريكية بالسماح لمعتقلي جوانتانامو للجوء للمحاكم الفيدرالية الأمريكية للاستبيان قضائيا عن التهم التي تستوجب احتجازهم في المعتقل والمطالبة بالحصول علي محاكمة عادلة . وفي هذا الإطار يري فرانسيس بيرون Frances Biron المحرر الصحفي الأمريكي أن الكيفية التي سوف يتم بها إغلاق المعتقل قد تكون أهم من تحديد موعد لإغلاقه نهائيا نظرًا لاعتبار المعتقل رمزًا للخروج علي القيم والمبادئ الأمريكية والتصادم مع الشرعية الدولية. استضاف المعتقل حوالي 800 سجين في عام 2002 وأطلق سراح 520 سجينًا دون توجيه أي تهم إليهم. بينما يتبقي في المعتقل حاليا 255 سجينًا ينقسمون إلي ثلاث فئات: سجناء لا يشتبه في أن لهم نشاطًا إجراميا، وآخرين يشتبه أن لهم نشاطًا إجراميا في دول أخري، أما المجموعة الثالثة فهم سجناء يشتبه في ارتكابهم جرائم ضد الولاياتالمتحدة، وهي الفئة التي يري بايرون أن تتم محاكمة أفرادها وفق معايير العدالة الدولية علي أن يتم التعاون مع الدول الأخري لجمع الأدلة وأسماء الشهود والتقارير الخاصة بالتحقيقات وغيرها. هل يتمكن أوباما من إغلاق جوانتانامو قريبًا لم يحدد الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، كيفية إغلاق المعتقل وأسلوب التعامل مع السجناء والجهة التي سوف تتولي التعامل مع قضاياهم مستقبلاً وذلك وفق ما أكده لوريل فليتشر مدير المركز الدولي لحقوق الإنسان في كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا في تعليقهِ علي تصريحات أوباما حول إغلاق المعتقل في نوفمبر الماضي في مقالٍ له نشرته منظمة العفو الدولية علي موقعها الإلكتروني في الثاني والعشرين من نوفمبر الماضي، مشيرًا إلي أن تركيز أوباما خلال بداية فترته الرئاسية علي التعامل مع التداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية علي الاقتصاد الأمريكي قد يقلص من اهتمامه بتلك القضية علي المدي القريب . واتفق كل من كريستوفر دود Christopher Dodd السيناتور الديمقراطي عن ولاية كوينتكت وآدم شيف Adam Schiff النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا في تصريحات استند إليها المحرر الأمريكي جيمس رولي James Rowley في مقالته بموقع معهد الإعلام المستقل Independent Media Institute في التاسع عشر من نوفمبر الماضي علي أنه من السهل التصريح بإمكانية إغلاق معتقل جوانتانامو عن القيام بذلك فعليا لأن ذلك الأمر لن يتم بالسرعة التي يتمناها الناس بالنظر إلي تعقيدات الأوضاع والعقبات التي تعترض تنفيذ وعد أوباما. وفي السياق ذاته يشير دان إيفرون Dan Ephron المحرر بمجلة النيوزويك Newsweek الأمريكية في مقالته المعنونة "معضلة جوانتانامو : أسباب تمنع أوباما من إغلاق المعتقل المثير للجدل " The Gitmo Dilemma: reasons Obama won't close the controversial prison soon في السابع من نوفمبر الماضي إلي وجود عوائق قد تعترض إمكانية تنفيذ وعد أوباما تتمثل فيما يلي: أولاً: يتطلب إطلاق سراح بعض المعتقلين الاتفاق مع دولهم علي تشديد الإجراءات الأمنية حولهم وإخضاعهم للرقابة وهو ما قد تستجيب إليه بعض الدول مثل المملكة العربية السعودية التي أخضعت العائدين من معتقل جوانتانامو للاحتجاز لحين إتمام برنامج لإعادة تأهيلهم فكريا للاندماج في المجتمع وتبني فكر معتدل (برنامج المناصحة) ، في حين ترفض دول أخري مثل اليمن القيام بذلك نتيجة الضغوط الشعبية وافتقادها للسيطرة علي إقليمها بصورة كاملة، فضلاً عن أن دولا أخري قد تقوم بتعذيب العائدين إليها من المعتقل مثل الصين التي يتوقع أن تنتهك حقوق السجناء المنتمين للأقلية اليغورية Uighur وعددهم حوالي 17 سجينًا. ثانيا: إخضاع بعض السجناء لإجراءات التقاضي بالولاياتالمتحدة يتطلب نقلهم إلي داخل الإقليم الأمريكي وهو ما يستتبع ضرورة تأمين مكان ملائم لاحتجازهم مثل منطقة فورت ليفنورث Fort Leavenworth أو تشارلستون Charleston بولاية سوث كارولينا South Carolina إلا أن تشارلز ستيمسنون Charles Stimson مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق لشئون المعتقلين يري أن إعداد تلك المواقع وتحصينها ضد أي هجمات إرهابية لتحرير المحتجزين يحتاج لفترة طويلة رابعًا: أين يمكن أن تحتجز الولاياتالمتحدة الإرهابيين الذين يتم إلقاء القبض عليهم مستقبلاً في أفغانستان وباكستان والعراق؟، وهو التساؤل الذي يجيب عليه بعض الخبراء بأن قاعدة " باجرام " الجوية الأمريكية في أفغانستان قد تكون بديلاً ملائمًا بيد أن إعدادها لتصبح معتقلاً بديلاً يتطلب تكلفة مالية كبيرة و قد يستغرق وقتًا طويلاً . خامسًا: قيام أوباما بتعيين إريك هولدر Eric Holder مدعيا عامًّا Attorney General في إدارته الجديدة وهو ما قد يعوق مهمة إغلاق معتقل جوانتانامو من وجهة نظر المحرر مات أبيوزو Matt Apuzzo في مقالته التي نشرتها وكالة الأسوشيتد برس Associated Press في الثاني من ديسمبر الحالي بالنظر إلي تأييد هولدر لسياسة الرئيس بوش مسبقًا في اعتقال العناصر المشتبه في تورطها بالإرهاب وعدم إمكانية اعتبارهم أسري حرب وفق مقتضيات اتفاقيات جينيف لمعاملة أسري النزاعات المسلحة. وعلي الرغم من تراجعه عن تصريحاته وإعلان تأييده لإغلاق جوانتانامو فإنه قد لا يبذل من الجهد ما تتطلبه تلك المهمة لإنهائها . ومن ثم يمكن القول :إن الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما قد لا يجد إغلاق المعتقل أمرًا يسيرًًا علي المدي القريب. ويتطلب الأمر كما سلفت الإشارة إجراءات متعددة لتحقيق ذلك مِمَّا يجعل إغلاق المعتقل بصورة فورية غير متوقع في بداية فترة رئاسته الأولي؛ لتركيز إدارة أوباما علي مواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها الولاياتالمتحدة حاليا، وإعلان الرئيس الأمريكي أنها ستكون الأولوية الأولي لإدارته منذ تسلمها السلطة رسميا في العشرين من يناير القادم 2009 . عن "تقرير واشنطن" محمد عبد الله يونس