يبدو من هذا الحديث ونظائره ما كان يحاول المجتمع الاسلامي أن يزرعه في حقل الانسانية من قيم جديدة وموازين للبشر علي أساس من أعمالهم. نظرة الإسلام إلي الانسان كما يحددها القرآن الكريم: اننا جميعا من نفس واحدة: ونحن كما يعلمنا الرسول الأعظم - أسرة كبيرة واحدة إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب قال هذا في خطبته المشهورة في حجة الوداع. وتنظر حولك فتري الناس مع وحدة الخلق متباينين: تختلف السنتهم والوانهم وتصرفاتهم مع أن الله خلقكم من نفس واحدة ويشرح لنا المصطفي صلي الله عليه وسلم ذلك في قوله: "إن الله خلق أدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو أدم علي قدر الأرض: منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب. وهذا التباين لا يعدو عند المصطفي صلي الله عليه وسلم أن يكون مظهرا لقدرة الله تعالي وآيات للتدبر وزيادة القرب من الله بالعبادة ومن الناس بالاحسان إليهم. أما أن يتخذ البعض من هذا التباين مادة استعلاء أو انتقاص ويحاولون تقسيم المجتمع علي أسس لونية أو طبقية أو عنصرية فأمور جاء الاسلام ليضع لها ميزانا لا تضطرب به الحياة ولا يضل الاحياء. يقول عليه الصلاة والسلام "ليس منا من دعا إلي عصبية وليس منا من قاتل عصبية وليس منا من مات علي عصبية". ويفرق بين حب الانسان لقومه وهو أمر فطري وبين الانحياز اليهم بالباطل ويسأله رجل: يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: لا ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه علي الظلم. فالمجتمع الاسلامي الأول لا نستطيع أن نقيمه علي أساس لوني أو طبقي أو اجتماعي وإنما كان خلاصه للانسانية ونموذجا لها. وإذا عدنا إلي فصول المناقب من كتب الحديث الصحيحة وجدناها تذكر مناقب المصطفي صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وبقية العشرة المبشرين بالجنة وأهل البيت النبوي وأزواج الرسول وتأتي بعد هذا مناقب الصحابة رضوان الله عليهم دون نظر إلي أوضاعهم الاجتماعية أو الاقتصادية. ومع أن المشركين كانوا إذا حاوروا الرسول صلي الله عليه وسلم يودون لو صرف الفقراء عن مجلسه إلا اننا نقرأ توجيه الله لرسوله ورعايته لهؤلاء: فمن سعد قال: كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلي الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست اسميهما فوقع في نفس رسول الله صلي الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله تعالي "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه". ويبدو من هذا الحديث ونظائره ما كان يحاول المجتمع الاسلامي أن يزرعه في حقل الانسانية من قيم جديدة وموازين للبشر علي أساس من أعمالهم بعد أن تيبست أوضاعها قرونا علي موازين التفرقة الاجتماعية والاقتصادية. وما دام التفاضل في الحياة بالتقوي وليس علي الانسان في نظر الرسول قيد من وضع اجتماعي أو اقتصادي أو لوني فله أن يبدع في المجتمع قدر ما تستطيع مواهبه أن تطيق ولنأخذ نماذج لذلك. 1- حين يجد الرسول صلي الله عليه وسلم من بعض أصحابه تفوقا في حفظ القرآن يدعو الآخرين إلي الأخذ منهم فيقول "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وسالم مولي ابي حذيفة وابي ابن كعب ومعاذ بن جبل". 2- وهو يشجع ثابت بن قيس بن شماس علي الخطابة وكان خطيب الانصار وعندما نزل قول الله تعالي "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلي آخر الاية جلس ثابت في بيته ظنا منا انه رفع صوته فوق صوت النبي فحبط علمه فلما بلغ ذلك النبي صلي الله عليه وسلم قال: بل هو من أهلا لجنة. 3- وإذا خالد بن الوليد هو القائد الذي ارهق المسلمين في غزوة أحد واستطاع الالتفاف حول خطوطهم واختراقها وكسب منهم جولة من جولات هذه المعركة فإن طاقته بعد اسلامه تحولت إلي خدمة الاسلام ولم يكن موقعه وهو علي الكفر في غزوة أحد حائلا دون أن يسند إليه الرسول المهام الكبيرة في الاسلام وأن يسميه "سيف الله" وهكذا كان في حروب الردة مع أبي بكر وفي فتوح العراق والشام. 4- وإذا ما ظهرت من أبي بن كعب مواهب في تعلم اللغات فليضم إلي كتاب الوحي وليفعل ما يكلفه به الرسول من تعلم اللسان العبري فضلا عما كان يجيد من السنة أخري وليكن المؤتمر علي قراءة ما يرد إلي الرسول صلي الله عليه وسلم بهذه الألسنة من خطابات واعداد الردود عليها. 5- وإذا ما ظهرت في أم عطية رغبة ودربة في تمريض الجرحي ورعاية شئونهم في المعارك والمدينة فليوفر لها الرسول صلي الله عليه وسلم هذه الفرص وليسند إليها هذه الأعمال. وهكذا تستطيع أن تراجع من أنشطة الصحابة رجالا ونساء مجالات متعددة فتحتها لهم قدراتهم أو وجههم اليها الرسول صلي الله عليه وسلم ولم يضع قيدا علي أي منهم إذا ما أراد أن يتقدم بخدمته إلي المجتمع فيما يحسن..