من وقت لآخر يخرج علينا ريتشارد بيرل، الرئيس السابق لمجلس سياسات الدفاع التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، بتصريحات معادية للدول العربية وخاصة مصر والسعودية، وهي تصريحات تنم عن تبسيط شديد للأمور يصل أحياناً إلي درجة الجهل أو تجاهل حقائق المنطقة، كما تغلب عليها رؤيته الأيديولوجية والتي تتفق إلي حد كبير مع الرؤي الليكودية الإسرائيلية. والواقع أن ريتشارد بيرل لم يعد يتولي أي منصب في الإدارة الأمريكية بعد استقالته من رئاسة مجلس سياسات الدفاع في مارس 2003، وذلك عقب تورطه في فضيحة استغلال نفوذه في تسهيل حصول أحدي شركات الاتصالات علي عقود مع وزارة الدفاع الأمريكية مقابل 600 ألف دولار. وأدي ذلك إلي انتقال بيرل إلي العمل بأحد مراكز الأبحاث اليمينية وهو معهد انتربريز الأمريكي. وبالرغم من ذلك فإن ريتشارد بيرل مازال يتمتع بنفوذ معنوي -علي الأقل- داخل الإدارة الأمريكية باعتباره الأب الروحي لفريق المحافظين الجدد صاحب التأثير الكبير علي السياسة الخارجية وسياسة الدفاع الأمريكية. ومن ثم فإن تصريحاته تعكس إلي حد كبير رؤي هذا التيار وأجندته السياسية. وبحكم تحرره من قيود المناصب الرسمية فإنه يستطيع أن يتحدث بشكل صريح حول الأفكار التي يؤمن بها المحافظون الجدد. وسوف نعرض في السطور التالية لأهم تلك الأفكار. في البداية لابد أن نوضح أن تيار المحافظين الجدد بدأ في الستينيات علي يد مجموعة من المثقفين اليهود ذوي النزعة الليبرالية ( أي الموالين للحزب الديمقراطي) ولكنهم انفصلوا بشكل تدريجي عن الحزب الديمقراطي وانضموا إلي الحزب الجمهوري في الثمانينيات في إطار التحالف المؤيد للرئيس رونالد ريجان، وجاء انفصالهم عن الليبراليين بسبب ما اعتبروه سياسة المهادنة مع الشيوعية في إطار سياسات الوفاق مع الاتحاد السوفيتي، وطالبوا باتخاذ موقف أكثر تشدداً معه، واستبدال سياسات الوفاق والاحتواء بسياسات تقوم علي مواجهة وتدمير الاتحاد السوفيتي باعتبار أن الشيوعية تمثل شراً مطلقاً يجب القضاء عليه. كما اعتقد المحافظون الجدد أن سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفيتي قد يكون لها تأثير سلبي علي إسرائيل وإجبارها علي الانسحاب من الأراضي المحتلة وتعريضها للخطر. كذلك انتقد المحافظون الجدد ما أطلقوا عليه تزايد النزعة المعادية للسامية لدي قيادات السود الأمريكيين-أحد الأركان الأساسية للحزب الديمقراطي- نتيجة لانتقادات بعضهم للسياسات الإسرائيلية. ورفض المحافظون الجدد أي توجهات انعزالية للسياسة الخارجية الأمريكية خاصة بعد حرب فيتنام وطالبوا بدور قيادي وتدخل نشط للولايات المتحدة في العالم، وارتبط ذلك بإيمانهم أن أية سياسة انعزالية أمريكية سوف تعني تخلي الولاياتالمتحدة عن ضمان أمن إسرائيل. وقد ازداد نفوذ المحافظين الجدد داخل إدارة ريجان وتولي عدد منهم مناصب مهمة مثل ريتشارد بيرل الذي عين مساعداً لوزير الدفاع. وقد شهدت هذه الفترة زيادة درجة المواجهة مع الاتحاد السوفيتي الذي نعته الرئيس ريجان بإمبراطورية الشر، كما دخلت العلاقات الإسرائيلية الأمريكية مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي بين البلدين. إلا أن نفوذ المحافظين الجدد بدأ في الأفول في النصف الثاني من الثمانينيات مع وصول جورباتشوف إلي الحكم في الاتحاد السوفيتي وتبنيه لسياسات إصلاحية في الداخل وسياسات وفاقية مع الولاياتالمتحدة. نتيجة لذلك تعرض المحافظون الجدد لتحدٍ فكري كبير حيث إن كل تصوراتهم كانت قائمة علي استمرار الخطر الشيوعي. وقد قام المحافظون الجدد في البداية بالتشكك في إصلاحات جورباتشوف والتقليل من أهميتها، إلا أن معظمهم اضطر إلي الاعتراف في النهاية بحقيقة تلك الإصلاحات التي أدت إلي انهيار الاتحاد السوفيتي والخطر الشيوعي، وبالتالي انهيار المبرر الأساسي لفكر المحافظين الجدد. وانتقل المحافظون الجدد إلي هامش الحياة السياسية في ظل إدارتي بوش الأب وكلينتون، وركزوا نشاطهم في عدد من مراكز الأبحاث اليمينية المحافظة. وخلال هذه الفترة قاموا ببلورة أفكارهم فيما يتعلق بتغيير النظام في العراق، كما اشترك ريتشارد بيرل _ بتكليف من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو- بإعداد دراسة حول مستقبل السياسة الخارجية الإسرائيلية تركزت توصياتها حول ضرورة التخلي عن اتفاق أوسلو وإقناع العالم بعدم التعامل مع الرئيس عرفات. وقام المحافظون الجدد بمساندة المرشح الجمهوري جورج بوش الابن في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2000 في إطار تحالف ضخم ضم أيضاً التيار المحافظ التقليدي والتيار المحافظ الديني. إلا أن البرنامج الانتخابي لجورج بوش لم يحتو علي أي من أفكار المحافظين الجدد بل علي العكس من ذلك احتوي علي توجهات مثل تقليل تدخل الولاياتالمتحدة في العالم واتباع سياسة خارجية تقوم علي التواضع وليس غرور القوة. وبعد فوزه بالرئاسة قام بوش بتعيين عدد من المحافظين الجدد في مناصب الصف الثاني بعدد من الوزارات خاصة الدفاع والخارجية. فتم تعيين بول ولفويتز كنائب وزير الدفاع، ودوجلاس فايس كمساعد لوزير الدفاع لشئون السياسات، بالاضافة لتعيين ريتشارد بيرل كرئيس لمجلس سياسات الدفاع، وتم تعيين جون بولتون كمساعد لوزير الخارجية لشئون نزع السلاح، واليوت ابرامز كمسئول عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، يضاف إلي ذلك لويس ليبي مدير مكتب ديك تشيني نائب الرئيس. وقد ارتبط صعود نفوذ المحافظين الجدد بأحداث 11 سبتمبر حيث قدموا إطاراً فكرياً متكاملاً لسياسة الولاياتالمتحدة في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر، وهو ما عجزت القوي المحافظة الأخري عن تقديم بديل له. ويقوم هذا الإطار علي استبدال خطر الشيوعية بخطر الإرهاب باعتباره التحدي الأساسي الذي يواجه الولاياتالمتحدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ويرفض المحافظون الجدد مقولة أن أحداث 11 سبتمبر كانت نتيجة لسياسات أمريكا الخارجية وتدخلها في الشئون العالمية بل علي العكس، يرون أنها نتاج لكون الولاياتالمتحدة لم تدخل بشكل كاف لترتيب أوضاع العالم. فخروج الولاياتالمتحدة من أفغانستان بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي منها وترك الأفغان لحل مشاكلهم بأنفسهم أدي إلي صعود طالبان وظهور تنظيم القاعدة المسئول عن 11 سبتمبر. يرتبط بذلك الاعتقاد بأن مرتكبي أحداث 11 سبتمبر قد نجحوا في التأثير علي السياسة الداخلية ونمط الحياة الأمريكية وأن هناك علاقة بين الأوضاع الداخلية في الدول العربية والإسلامية وظهور التطرف الديني المرتبط بالإرهاب، نتيجة لذلك يؤمن المحافظون الجدد بأن الشئون الداخلية في تلك البلدان لم تعد شأناً محلياً لا يجوز التدخل فيه تحت دعاوي السيادة الوطنية، بل للولايات المتحدة الحق في التدخل في الشئون الداخلية لتلك البلدان لمنع ظهور تلك القوي التي أثرت علي الداخل الأمريكي، أي أنه لو لم تتدخل الولاياتالمتحدة لتغيير الداخل الإسلامي، فإن إفرازات هذا الداخل سوف تأتي للولايات المتحدة وتغيرها من الداخل. وتحتل مصر جانباً مهماً من تفكير المحافظين الجدد حيث روجوا لمقولة أن تنظيم القاعدة هو مشروع سعودي- مصري مشترك قام علي أكتاف أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وأن السياسات المصرية قد أدت إلي ظهور مثل هؤلاء الإرهابيين، كما انتقدوا مصر بدعوي أنها لم تقف مع الولاياتالمتحدة بشكل كاف في حربها ضد الإرهاب، وهو ما يعكس تجاهل هؤلاء لحقيقة أن مصر كانت عرضة للإرهاب المرتبط بالتطرف الديني قبل أحداث 11 سبتمبر، وأن أيمن الظواهري و أمثاله ليس لهم علاقة بأي سياسة اتبعتها مصر بل ينظر إليهم باستهجان علي المستوي الرسمي والشعبي باعتبار أنهم لا يمثلون الإسلام الصحيح وكونهم أعداء للاستقرار والتنمية، كما أن مصر ساهمت بدور فعال في الجهد الدولي لمحاربة الإرهاب. ويدرك المحافظون الجدد الدور القيادي الذي تلعبه مصر في العالم العربي، وأن أي تغيير حقيقي في العالم العربي لابد أن يمر عبر البوابة المصرية. كما يدركون أيضاً أن النظام المصري ليس بالنظام الهش الذي يمكن تغيير سياسته بسهولة وبما يتوافق مع تصوراتهم. وفي هذا الصدد يسعي المحافظون الجدد إلي التشكيك في المكانة التي تحتلها مصر في التفكير الاستراتيجي الأمريكي والتي تقوم علي دعم العلاقات بين البلدين بما يخدم مصالحهما المشتركة، كما أن تبنيهم لمشروع تغيير النظام بالعراق كان أحد أهدافه الأساسية هو التأثير علي مكانة مصر سواء في محيطها العربي أو بالنسبة لعلاقتها مع الولاياتالمتحدة. ويعول المحافظون الجدد علي عاملين بالنسبة لمخططهم تجاه مصر؛ الأول هو نجاح المشروع الأمريكي في العراق، حيث أن فشل المشروع يعني دخول الولاياتالمتحدة في حالة من العزلة الجديدة في حين أن نجاحه يعني إمكانية إحداث تغييرات راديكالية بالعالم العربي وتغيير التفكير الأمريكي فيما يتعلق بمصر. والعامل الثاني هو إقناع الرئيس الأمريكي بوش بهذه الأفكار في ظل المعارضة التي تلاقيها من جانب المؤسسات الرسمية المختلفة وخاصة وزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات وحتي داخل وزارة الدفاع، حيث تدرك هذه المؤسسات قيمة التعاون، وليس الصدام مع مصر، في تحقيق المصالح المشتركة للبلدين. وهكذا يمكن النظر إلي تصريحات ريتشارد بيرل المتكررة في إطار فكر المحافظين الجدد الذي يسعي إلي إعادة تشكيل المنطقة، والحد من الدور المصري بها، وتقويض أركان العلاقات المصرية الأمريكية.