والتي تحمل عبارة "ممنوع التدخين". النكتة هنا هي أن أحد المسئولين اقترح أن توضع لافتة أخري أكبر طولا، وأكثر وضوحا، أسفل اللافتة الأصلية، تحمل عبارة أن " ممنوع التدخين يعني ممنوع التدخين"، حتي يقتنع الناس بأن الحظر حقيقي، وأن التدخين ممنوع فعلا. لدينا في مصر مشكلة من هذا النوع تتطلب فيما يبدو وضع تلك اللافتة الإضافية، لكن في مجال آخر أكثر خطورة علي صحة الشعوب من التدخين، فلم يعد أحد يمكنه منذ فترة طويلة أن يردد، كما كان الرئيس السادات يفعل، أنه لادين في السياسة ولاسياسة في الدين، وأن هذا لايحمل موقفا من الدين، إذ أنه كان يقرر مع كل إعلان له بهذا الشأن، أنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، فالقضية لاترتبط بالدين، وإنما بعلاقة الدين بالسياسة، والتي تتخذ أشكالا متعددة، بعضها يمكن تفهمه، وبعضها الآخر يمثل كارثة. المشكلة أن الرئيس السادات نفسه لم يلتزم بما كان مقتنعا به، لدرجة إعلانه بتلك الصورة القاطعة، فقد أدخل الدين في السياسة عبر تحالفات خطرة مع الجماعات الدينية، ودفع في النهاية حياته ثمنا لذلك، والأرجح انه كان قد بدأ يؤكد علي ذلك المبدأ، عندما بدأ يدرك أن الأمور في سبيلها إلي الإفلات، وأن مخاطرته لم تكن محسوبة تماما، لكن الوقت كان قد تأخر بالنسبة له شخصيا علي الأقل. في الوقت الحالي، يبدو أن تبني مثل تلك التوجهات الصارمة صعب إلي حد ما، لذا تقوم السياسة الرسمية علي عبارات أكثر مرونة، لعلها تصل إلي من يهمه الأمر، بقدر أقل من الصداع، فمايقال عادة هو أنه لايجب الخلط بين الدين والسياسة، وتصل المرونة أو البرجماتية أحيانا إلي الحديث عن تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة، والسؤال هو ماإذا كانت مثل تلك العبارات تفهم علي أنها تعني " الفصل" فعليا، أم أنها تفهم بصورة أخري تخالف تماما مايفترض أن يقصد بها. هناك تفسير منطقي لتبني مثل تلك السياسة غير الجادة، وهو أن العامل الديني قد أصبح شديد التأثير في الشئون السياسية والأوضاع الإقليمية والعلاقات الدولية، وأنه لم يعد من الممكن التعامل معه بالصورة السابقة، وأن المجتمعات نفسها قد تحولت لدرجة لم يعد من الممكن أن يتم الحديث فيها ببساطة في دولة كمصر عن علمانيين بالمعني التقليدي وإنما عن "مدنيين"، كما أن أية توجهات حادة يمكن أن توظف في الشارع من جانب التيارات الدينية علي غير المقصود بها، بصورة تحول المسألة كلها إلي خطأ في خطأ. لكن هناك تفسيرا سيئا، إذ يوجد من يعتقد أن تلك الصيغ تحمل توجهات للعب مع التيارات الدينية مرة أخري، أو لعقد صفقات سياسية معها، تتصل بسياسة الدولة وليس قيم المجتمع، وأن المؤشرات الخاصة بالممارسات الفعلية خلال الانتخابات، أو التوجهات شبه الدينية داخل بعض دوائر الدولة، تدعم ذلك، وحتي لو لم يكن ذلك يمثل الواقع، فإن الصيغة المشار إليها تفهم من جانب جماعة الإسلام السياسي الرئيسية علي أنها كذلك، ويتم استنادا عليها ترتيب سيناريوهات مثيرة. هنا، تأتي أهمية الحاجز الدستوري، بالنسبة للنظام السياسي والجماعة معا، لأنه يتعلق بالدولة التي هي سيدة الجميع، والتي يبدو أن البعض لايريد أن يتعامل معها بما تمتلكه أو تستحقه من هيبة واحترام، فقد تم تعديل المادة الخامسة من الدستور لتتضمن النص علي عدم جواز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أية مرجعية دينية أو أساس ديني، لكنها فيما يبدو لم تكتسب قوتها بعد، بشكل طوعي، بحيث أصبح من الضروري التأكيد علي ماتعنيه، وهو أن حظر قيام أحزاب دينية يعني أن الأحزاب الدينية محظورة. إن المشكلة هي أن الإخوان المسلمين لايزالون يعتقدون أنها مجرد عبارة، وأنها لاتعني بالفعل أن قيام أحزاب دينية ممنوع بحكم الدستور، وأنها ليست ملزمة بالقدر الكافي بالنسبة لهم، وتشير تصريحات تيار قوي، إن لم يكن متغطرس، داخل الجماعة، إلي أنها حتي لاتعترف بها، وإذا أتيحت الفرصة لذلك التيار، في أية لحظة شعور بالاستقواء، سوف يمس الدستور ذاته بأقوال غير لائقة. إن مشكلة برنامج الحزب السياسي للإخوان المسلمين، بقراءاته الأولي وتعديلاته المتتالية، هو أنه حتي الآن يتعامل مع مسألة الدولة المدنية بنوع من عدم التصديق، الذي أدي إلي عدم جدية في التعامل مع جوهرها، وكأن المسألة هي البحث عن العبارات المناسبة أو "الأطر الذكية"، التي يبدو منها أن الجماعة الدينية تحاول توفيق أوضاعها، والمشكلة أن تلك الاجتهادات لم تكن فقط غير موفقة، وإنما غير جادة، فقد كانت أقرب إلي حركات التفافية، أو حركة في المكان، فلم يبد أنها يمكن أن تتصرف مثل حزب الوسط في مصر أو حزب النهضة في تركيا. لقد تحرك " التيار الرئيسي" في الدولة هذه المرة ضد برنامج الإخوان، ليس فقط إزاء الطريقة التي تعاملت بها صيغته السلفية الأولي مع الأقباط والمرأة، أو إزاء تلك الصيغ المشتقة من نظام ولاية الفقيه في طهران، وإنما لشعور حقيقي بالإحباط إزاء أية سيناريوهات مدنية لمستقبل الجماعة، فهي تبدو غير راغبة، أو _ وهي المصيبة الأكبر _ غير قادرة علي أن تتخذ وجها مدنيا جادا، حتي من جانب أكاديميين اعتادوا ، لاعتبارات منهجية وواقعية، أن يتفهموا بعض توجهات الجماعة، بحكم معرفتهم بكثير مما يدور داخلها. لقد تعرضت جماعة الإخوان المسلمين خلال السنوات القليلة الماضية لأربع صدمات علي الأقل، بدأت بصدمة "استعراض الأزهر"، وقد وضح لكل قياداتها خلالها أن أحدا ليس علي استعداد للتسامح مع أي مظهر من مظاهر العنف، حتي لو كان مجرد تمثيل بارتداء أزياء الميليشيات أو ممارسة رياضة اليد الخالية، فلم يكن ماحدث مسليا لأحد في الجامعة أو في المجتمع، وآخر تلك الصدمات هي صدمة البرنامج، الذي لم يكن مرضيا، حتي لو لمن اعتادوا علي دعم حق الإخوان في الوجود. إن بعض القيادات شبه المدنية داخل الإخوان قد عبروا عن الإحباط من الطريقة التي أستقبل بها البرنامج، وأشار بعضهم إلي أنه كان من الواجب احتضانه بأكثر مما حدث، فهو قابل للتطوير حسبما يشار، لكن القضية التي يجب أن تولي مزيدا من الاهتمام من جانبهم، لكي يستريح الجميع، هي "الجماعة" وليس برنامج حزب الجماعة، فلابد من صيغة تجعلها أكثر مدنية، مثل بقية القوي السياسية. لكن إلي أن يحدث ذلك، فإنه يجب التأكيد علي أنها لن تتجاوز ذلك الحد الذي وضعته المادة الخامسة من الدستور لها، وأنها يجب أن تبحث في القاموس باهتمام أكبر عما تعنيه كلمة " مدني" التي تتسم بمرونة معقولة، بالمناسبة، فيما يتعلق بموقع الدين في الدولة، فعندما تصبح التوجهات مدنية فعلا، لن يكون هناك بأس لدي أحد في أن يكون ثمة دين في السياسة وسياسة في الدين، علي الطريقة المصرية. إن هناك من يتندرون علي عبارة " المحظورة" التي توصف بها جماعة موجودة واقعيا علي الساحة، وأقوي من كل أحزاب المعارضة السياسية المدنية، ويمكن مشاهدة كل نشاطاتها ورموزها بالعين المجردة، فهي ملء السمع والبصر، إلا أنه مع ذلك تأتي أهمية حاجز الدستور في أنه يؤكد أن هذا الوضع القائم، غير معترف به، ويجوز في السياسة أن يحدث ذلك، ولفترات طويلة أحيانا، لكن الرسالة لاتتغير وهي أنها لن تتحول إلي جماعة سياسية معترف بها دستوريا، بشكلها الحالي، ولن يعترف بأي حزب تتقدم به بالطريقة التي جرت، فلن تدخل السياسة من باب الدين، وعليها أن تدرك مرة أخري أن حزبا مدنيا يعني "حزب مدني"، وهنا قد يكون مشروعا أن يطرح سؤال حول الملعب الذي توجد الكرة فيه بالضبط.