ترامي الي سمعي نكتة يلمز بها بعض الاجانب المسلمين، تقول: "إن لا فائدة من المسلمين، لأنهم لايهتمون إلا بمستقبلهم بعد الموت" وجدت أن الكلمة ليست نكتة أنها أسوأ بكثير كما يمكن أيضا ان تكون حقيقة، بل وياللعجب ان تصبح عقيدة. وقد انتهيت الي هذا لأني بعد سماعي لها أفضيت بها الي مجموعة من الباب المثقف من اطباء ومهندسين.. وكتاب واساتذة جامعات وقدمتها باعتبارها مما يلمز به الاجانب المسلمين، ولكنني فجعت عندما رأيت ان المجموعة كلها تقبلها كحقيقة، وقالوا: وأي شئ في هذا، ما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، والحياة الآخرة هي مايهم، وأي عجب ان يركز المسلمون عنايتهم عليها.. إن هؤلاء الأوروبيين لايفقهون، ويريدوننا ان نكون أمثالهم. الفريقان فيما نري خاطئان: فالأوروبيون الذين يؤمنون ب : "إن هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر" ولايؤمنون ببعث أو نشور أو ثواب أو عقاب يخسرون معني من اكثر المعاني فعالية، معني يمكن ان يكبح جماح النفس الانسانية ويلزمها الحدود الآمنة، ويدفعها الي الخير وينأي بها عن الاستسلام لما تهوي الانفس. في الوقت نفسه، فإن الذين يرون أن الحياة الدنيا تتناقض مع الآخرة يخطئون خطأ بالغاً، ويجاوزون ما أمر به الإسلام نفسه، فالقرآن يقول: "وابتغ فيما ءاتك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا" (القصص 77). واللبس الذي وقعوا فيه كما وقع فيه أسلافهم من قبل انهم تصوروا ان مايزكي الانسان في الآخرة ومايجعله يظفر برضا الله ورضواه، ونعيمه وجنته هو الصلاة والصيام والحج، وتلاوة الاوراد، وقيام الليل وهذا غير صحيح لأن العكوف علي هذه سيكون علي حساب المقتضيات الضرورية للحياة الدنيا، فضلاً عن الاسلام يعترف باعمال اخري غير الشعائر لها ثواب الشعائر، بل ويفوقها مثل الإنفاق، ومثل المعرفة والعلم، ومثل الاتقان والاحسان، ومثل بر الوالدين، ومثل وصل الاخوان والجيران والسؤال عنهم والتكافل معهم، ومثل حسن معاملة الزوجة وحسن تربية الاولاد والسهر علي رعايتهم، ومثل العناية بالصحة والحرص عليها لان الصحة هي التي تكفل عمل كل شئ، والمرض يعطل صاحبه ويبهظه ويحمله ويحمل المجتمع تكاليف ثقيلة. ان وجود فرد علي قيد الحياة يتطلب ان يكون له عمل يرتزق منه، وهذا العمل يتطلب الإلمام بالمهارات واتقان الاداء والانتظام في المواعيد، ويكفل له الاجر الذي ينفق منه علي نفسه وعلي عياله، وفي هذا العصر فإن طريقة الاداء تتعرض لتغيرات عدة وتتطلب التدريب واعادة التدريب. وهو في اسرته وبين جيرانه له حقوق نحوهم وعليه واجبات إزاءهم ، فضلا عن انه مواطن في دولة ولد علي ارضها ويحمل جنسيتها، وعليه ان يعمل لتكون قوية متقدمة، لان هذا في الامد الطويل سيعود عليه وعلي ابنائه، فضلاً عن انه مايقضي به الواجب الوطني، فهل فكر في هذا وعمل له، واذا اريد لدولته تلك ان تكون لها العزة التي للمؤمنين فإن هذا لايتم الا بعمل دائب ودائم علي التنمية وفي مضاعفة مواردها المادية والاقتصادية والاعتناء بأرضها وسمائها ومائها وبنيانها واحكام آخر اساليب التقنية والاخذ بها، ان هذه هي مايكفل القوة للامة المسلمة ولاشئ اكثر قربي الي الله من هذا. هل لم يأته نبأ الذين ذكروا امام رسول الله رجلاً لايترك ليلاً الا قامه ولا نهاراً الا صامه، فسألهم الرسول عمن يعد طعامه ومتاعه وطعامه وشرابه؟.. فقالوا كلنا، فقال الرسول "كلكم خير منه". أريد أن اقول ان حب الدنيا لايتعارض مع حب الآخرة لان الله تعالي هو بديع السماوات والارض، خلق الانسان في احسن تقويم وخلق البحار الهادرة والانهار الوادعة والجبال العالية والسهول الممتدة كأنها بساط اخضر وقدر في الارض أقواتها، وجعل من حيوانها وزرعها وضرعها مايكفل للإنسان من غذاء وكساء ومايقر عينه اذا نظر اليها، وقد تحدث القرآن وأطنب في مختلف مظاهر الجمال في الارض. "أفلم ينظروا الي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج? والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج? تبصرة وذكري لكل عبد منيب? ونزلنا من السماء ماء مباركًا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد? والنخل باسقات لها طلع نضيد? رزقاً للعباد واحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج" (سورة ق 6:10) فالاسلام يتوقع من المسلم ان يري هذا الجمال وان يحس احساسا عميقاً به، ويري فيه دليلاً علي قدرة الخالق ويستمد من هذا الاحساس العميق بالجمال احساسا قويا عميقاً بالذي خلق هذا الجمال ويسره للانسان، وبهذا تكون هناك رابطة ما بين الاحساس بالجمال وتذوقه، والايمان بالله وعظمته، وجدير بمن لا يستشعر الاولي ألا يستشعر الثانية. لقد التبست هذه المعاني علي اسلافنا، وقالوا لنا ان السبيل الي الله هو الصلوات والاوراد والدعاء وصيام النهار وقيام الليل، وان ما خلا هذا عبث ولهو وكان هذا الفهم السقيم من اكبر اسباب تخلف المجتمع الاسلامي اذ كيف يحدث تقدم دون بذل العناية الواجبة للتوصل الي وسائل القوة والثروة في هذا العصر، واذا لم يعكف المسلمون علي العلوم والمعارف والمهارات بكل اسباب القوة والعزة والثروة في هذا العصر. إن علي المسلمين قبل ان يفكروا في مستقبلهم بعد الموت، أن يلموا ويفكروا في مستقبل حياتهم الدنيا، وبقدر احسانهم في هذا بقدر مايكون احسانهم لمستقبلهم بعد الموت، والعكس بالعكس. في مقال سابق انتقدنا الشعار الاخواني "الموت في سبيل اللله اسمي أمانينا" وقلنا ان الحياة في سبيل الله جديرة بأن تكون هي أسمي الاماني لأنها أنبل، وأصعب ايضا من الموت في سبيل الله، إن رصاصة تصيب المسلم المقاتل في رأسه وفي قلبه تعجل به الي الآخرة، حيث الجنة والنعيم المقيم، وهذا في نظري هو اسهل ثمن، اما الاصعب فهو ان يحيا حياة طويلة في سبيل الله ويتصدي لصعوباتها ويقهر تحدياتها.