في أوقات الأزمة، يزدهر الخطاب الثقافي والعلمي حول تكوين الشخصية القومية لأي شعب من الشعوب.. ففي تلك الأوقات يستدعي التأمل الذاتي حول الهوية والمصير والمستقبل، وعلي الرغم من أن الحديث عن الشخصية القومية قد انزوي بشكل كبير من التراث العلمي العالمي، إلا أنه يظل دائما مزدهرا في ثقافتنا العربية وذلك علي حد قول الدكتور أحمد زايد في مقالته العلمية: الثابت والمتغير في سمات الشخصية، والتي حاول فيها البحث عن السمات المتغيرة للشخصية المصرية عبر الزمن، أو الكشف عن الطريقة التي تتفاءل بها شخصية الإنسان المصري تاريخيا مع المتغيرات المحيطة، ومن ثم التعرف علي العوامل التي تؤدي إلي هذا التغير. الجذور الأصلية للشخصية المصرية اتخذ المجتمع المصري نمطا ثابتا ومتجانسا إلي حد كبير منذ تكون ذلك المجتمع تاريخيا، وقد ساعد علي ذلك عدة عوامل هي: وجود الدولة المركزية، والدين، والتجانس العمراني، والارتباط بالأرض والعائلة، وفي علاقة المصري بالبيئة المحيطة به وبالظروف الإنتاجية التي يوجد فيها وبالسياق الاجتماعي والثقافي الذي يحياه، تبين أن السمات الشخصية للمصري عموما هي سمات موقفية ترتبط بظروف حياتية معينة، وان تمحورت حول سمات ثلاث هي: العلاقة المتوترة القائمة علي الشك بين الفرد والسلطة، والتي اتسعت لتشمل الدوائر الاجتماعية الأخري غير دائرة السلطة والتدين، وقد يأتي الصبر كسمة مستقلة ولكنه أكثر التصاقا بالرؤية الدينية أو المعتقد الديني، وهكذا لعبت الظروف المحيطة بالإنسان المصري في سياق المجتمع التقليدي، إلي دفعه للشك والتوجس والحذر، في نفس الوقت الذي دفعته فيه إلي تقوية علاقته بالعالم ما بعد الطبيعي، وكأنه هو العالم الذي يمنحه الملاذ والأمن إزاء قوة الطبيعة من ناحية وظلم الحكام من الناحية الأخري. المصري والأنماط الحداثية الجديدة بدأت هذه العلاقة في الظهور، عندما اتصل المصري بشكل أو بآخر بأساليب الحياة الحديثة وأساليب الإنتاج المستحدثة ونظم الدولة وكذلك بالأطر الثقافية والقيمية الحديثة، في هذا السياق بدت تناقضات الحداثة في الظهور خاصة بالنظر إلي الاعتبارات التالية: أن هذه الحداثة لم يصنعها الشعب، وإنما صنعتها النخبة أو النخب السياسية والاجتماعية، وانتقلت منها بعد ذلك إلي دوائر أوسع. أنها كانت حداثة "فوقية"، أو حداثة "قشرية" تضع من علِ وتهبط علي المجتمع لتلبسه ثوبا قد لا يرغب في لبسه أحيانا. أنها قامت علي الانتقائية العشوائية، التي ارتبطت أحيانا بأيديولوجيات سياسية وأحيانا أخري بأهواء القادة السياسيين. إن معظم ما تم لتركيز عليه في عمليات الانتقاء العشوائي، قد ارتبط بجوانب شكلية أو أنماط استهلاكية. وقد صاحب كل ذلك حدوث تغيرات كبيرة في المجتمع، حيث تعددت أوجه السلوك وتنوعت الأطر الثقافية وتزايد عدد السكان تزايدا طفريا، ومن ثم تحولت البنية التقليدية المتجانسة، إلي بنية أكثر تعددا واختلافا، كما لم يكن ذلك التعدد فيها منسجما وعضويا بقدر ما كان تعددا كاشفا بجلاء عن صور متعددة من اللاتجانس والتناقض أيضا، وقد تجلي ذلك فيما يلي: أصبح التكاثر البيولوجي عبئا علي البنية الاجتماعية، ومن ثم تحول السكان إلي كتل هادرة من الطاقة المتحركة التي لا تجمعها أطر معرفية ثقافية متجانسة، فضلا عن التباين الملحوظ الذي ظهر في خصالهم النوعية، وبالذات فيما يتعلق بالتعليم "ارتفاع نسبة الأمية" والدخل "ارتفاع نسبة الفقراء بين السكان". تحول الزراعة نحو نمط الإنتاج الرأسمالي، وأن لم تتخل كلية عن صور الإنتاج القديمة قبل الرأسمالية، كما زحفت التجارة إلي الاقتصاد الحديث، ولكن في ظل علاقات غير رشيدة أحيانا، أما الصناعة فلم تبتعد كثيرا عن نمط الإنتاج الحرفي التقليدي، بل إنها تعايش معه، بل وأعادت إنتاجه علي نحو مختلف. إن عمليات التحضر لم ترتبط بالضرورة بنمو السلوك الحضري، فلا يعبر سكانها عن روح حضارية، ولم تشهد المدن تجانسا حضاريا في سكانها فهي خليط من المهاجرين الريفيين "مع اختلاف تاريخ وأسباب هجرتهم" كما أنها خليط من بعض الأحياء الراقية والأخري العشوائية الملاصقة لها والمكتظة بالسكان، ومن أنماط عمرانية تعكس عادة الأهواء الشخصية والأغراض التجارية، وتغيب فيها تماما الخطة العمرانية الحضرية التي تراعي ظروف الإنسان وراحته النفسية والجسدية. تكاثر النظم السياسية وتعاقبها، وتباري النخب السياسية في استخدام نماذج سياسية مختلفة، وإذا يختفي النظام لا تختفي فلوله، وإذا اختفت الأيديولوجية، لا تختفي بعض آثارها. غياب الإنفاق العام علي مبادئ وقواعد عامة، وهنا ينشب الخلاف دائما حول الأصول والقيم التي يجب أن تبني عليها الحياة الاجتماعية والسياسية. تحول السكان إلي طبقات غير متجانسة داخليا، فاقدة للرؤي الموحدة التي تمكنها من قيادة المجتمع أو إدارة التنمية بشكل رشيد، أو تطوير أساليب شفافية الحكم الصالح، وبالتالي فقدت الطبقة الوسطي بوصفها الطبقة الرائدة القادرة، دورها التاريخي لبناء قدراتها علي تطوير المجتمع، بحيث تنتقل من بؤرة التركيز علي المصلحة الفردية، إلي التركيز علي المصلحة العامة، وإذ وجدناها تنكفئ علي ذاتها قاطعة الصلات بالصالح أو الميدان العام أو الأهداف الجمعية إلي حد كبير. سيطرت الاستقطاب علي المجتمع، فتظهر فيه الميول الزائدة نحو الرجوع إلي الماضي وتأكيد التقاليد في مقابل الميول الحداثية، وينعكس ذلك بدوره في زيادة تعمق الخلاف اليومي في النظرة إلي العامل، وفي مضمون الاتفاق علي الأصول والقيم. ومن منظور الطب النفسي، يحدثنا الدكتور خليل فاضل في رصده للشخصية المصرية في صحتها وعلتها، وفي نفس الملف الذي تضمنته الدراسة السابقة، في العدد الأخير من مجلة الديمقراطية، حيث يقول إن في مصر الآن أكثر من أي وقت مضي مشكلة نفسية لفظية، قبح لفظي، وعنف حواري، كلمات صدئة، ومفردات مفزعة تنبع من قلب البيئة التي تلوث هوائها كما تلوث وجدانها، حيث توارت الآن عفة الألفاظ ونظافة اللسان، وزاد التلوث الأخلاقي اللفظي، ناهيك عما يدور من حوارات يكون فيها الشتم نوعا من الاستمتاع دون أي اعتبار لصفته النابية. لقد أدت تعقد الحياة اليومية للمصريين "الصوت العالي، العراك، الشجار، الازدحام المروري، الشك في الآخرين والارتياب من مقاصدهم" إلي زيادة إحساسهم بالاضطهاد والخوف والانزعاج والجزع، مما خلق معه حالة من الارتباك والترقب والانتظار، فالشخصية المصرية تتفاعل مع ما يحيط بها من متغيرات وأحداث خاصة المؤلمة منها "حوادث وكوارث انهيار العمارات، العنف الطائفي، الموت غرقا في العبارات الموتت حرقا في قصر الثقافة أو في القطارات، ونزيف الدماء المستمر في حوادث الطرق الذي لا نهاية له، فزع أو هلع أنفلونزا الطيور، أزمة القضاة، توترات الشارع.. إلخ". فالمجتمع المصري في حراكه الحي وتفاعله الشديد، يتحرك بلا حدود تجاه محاور مجهولة، يري ظاهرها في صورة العشوائيات، وكذلك في صورة النقيض في المجتمعات المخملية بكل أمراضها وصخب وترف العيش فيها. من هنا يحدث الخلل في الشخصية المصرية، نتيجة للخلل في وظيفة الضبط الاجتماعي، وبذلك تبدو الأزمة التي تعيشها الشخصية المصرية، في حقيقة أن القديم يموت، كما أن الجديد لا يستطيع أن يؤلد، وإن كان ذلك لا يمنعنا من ذكر بعض النواحي المميزة لشخصية المصري في الألفية الثالثة، والتي تضم الخوف من الآخر، وعدم الاستقرار، والصرامة، وكره السلطة، وكره الخيانة، إن أموارا عديدة قد تراجعت في حياة المصريين بشكل عام، كما أن هناك أمورا عديدة قد تقدمت دون تشاؤم، لكن يبدو أن المزاجية والضمير هما أساس الشد والجذب في أبعاد الشخصية المضطربة هنا والآن