ما إن تثار قضية الأمن القومي أو الوطني حتي تتداعي إلي الأذهان جوانب عسكرية وتهفو النفس إلي أمور سياسية وينصرف الفؤاد إلي أبعاد استراتيجية، في حين قد يغيب عن أذهان الكثيرين أن مصطلح الأمن القومي تعبير جامع ومفهوم شامل فضفاض يتسع ليتجاوز مثل هذه الأمور العسكرية والقضايا السياسية والأبعاد الاستراتيجية ، الضيقة والمهمة في ذات الوقت، مفسحا المجال أمام اعتبارات وأركان أخري عديدة غاية في الأهمية، منها ما هو ثقافي يتصل بالتناغم والتجانس الحضاري بين أبناء الأمة، ذلك الذي يقوم علي التفاهم والحوار البناء وتقبل الاختلاف وقبول الآخر. ومنها ما هو اقتصادي ويتعلق باستقرار الاقتصاد وتوفر سبل العيش الكريم والآمن لأبناء الوطن، ومنها أيضا ما هو علمي يلامس قضايا التعليم الجيد الذي يساعد علي تنمية الروح الابتكارية والإبداعية لدي الطلاب، وكذا قضايا البحث العلمي الذي يتعين أن يحصل علي أكبر قدر من العناية والرعاية وحسن الاستفادة، ثم هناك الأبعاد البيئية والصحية المتمثلة في توفر البيئة الصحية الملائمة لأبناء الأمة بما يساعدهم علي بناء عقولهم علي نحو أفضل ويجنبهم مخاطر الأوبئة والمتاعب التي تؤثر بالسلب علي حياتهم وأدائهم وقدراتهم علي البذل والعطاء والابتكار في زمن لا يعترف إلا بالمتميزين ولا يفتح أبواب التقدم والرقي إلا للمبدعين والمبتكرين. ومن بين هذه الأبعاد المتعددة، والهامة جميعها، أجدني مدفوعا نحو تسليط الضوء علي موضوع البحث العلمي بوصفه واحد من أبرز الأبعاد الداخلية للأمن القومي لأية دولة عموما ولمصرنا العزيزة علي وجه الخصوص. فالبحث العلمي هو القاطرة التي يمكن أن تقود البلاد إلي مصافي العالم الناهض والمتقدم في شتي مجالات العلم والمعرفة، فهو القاعدة الصلبة لأي تقدم صناعي وتقني، وعلي أساسه تقوي الجيوش ويتدعم الاقتصاد وتتيسر الثقافة وتتأتي المعرفة. وما من دولة في العالم تولي البحث العلمي نصيبه الوافر من الاهتمام والتقدير والرعاية إلا وقد خطت بشعوبها إلي الأمام، في حين ظلت تلك التي أهدرت حقه وأدرجته في ذيل أولوياتها قابعة في مؤخرة ركب العلم والتقدم. فمن خلال البحث العلمي تستطيع الأمم التصدي لكافة مشكلاتها بما في ذلك التحديات الصحية المتمثلة في الأوبئة الفتاكة والأمراض المستعصية، التي يفضي تفشيها بين المواطنين إلي تضاؤل قدراتهم الإنتاجية وتآكل مهاراتهم الإبداعية حتي تجعل منهم عالة أو عبئا علي المجتمع بدلا من أن يكونوا قوة دافعة تعرج ببلادهم إلي مصافي العالم المتقدم. وفي مصر، لايزال البحث العلمي تائها يحاول عابثا أن يتلمس سبيله ما بين معامل الباحثين المفتقرة لوسائل البحث والتجريب المتطورة من جهة، وأدراج أو أرفف المسئولين المكتظة بمئات الأبحاث العلمية التي ضلت طريقها إلي التطبيق فقبعت إلي الأبد في ظلمة الحفظ والتدشيت من جهة أخري. والأدهي من ذلك، أن البحث العلمي في بلادنا لا يكاد يمثل أولوية قصوي علي جدول أعمال الدولة المصرية، حيث لا يخصص له سنويا سوي ما نسبته أقل من 1% من الموازنة العامة للدولة، في وقت يتسابق فيه العالم حول العلم والمعرفة اللذين باتا يتصدران أجندة الأمن قومي للدول الناهضة. ففي مجال صناعة الأدوية علي سبيل المثال، أصبحت الأمور غاية في التعقيد في ظل اتفاقية الجات التي خصصت اتفاقية خاصة تعرف اختصارا بالتريبس، وهي المتعلقة بحماية حقوق الملكية الفكرية في مجال صناعة الدواء، حيث تضمن لأية شركة تكلفت مصاريف البحث وإنتاج دواء جديد لمرض ما أن تحتكر إنتاج هذا الدواء لمدة لا تقل عن عشرين عاما وأن يكون لها الحق في تحديد سعر هذا الدواء بما يتماشي وكلفة البحث والتطوير حتي إنتاجه. وهو الأمر الذي يفرض تحديات جسام أمام الدول النامية التي ليس لديها صناعة دواء متطورة، أو تلك التي تستورد الأدوية بكميات كبيرة أو حتي المواد الخام اللازمة لتصنيعها مثل مصر. ففي مصر، نستورد أكثر من 85% من المواد الخام اللازمة لصناعة الأدوية، في الوقت الذي أصبحت كثير من الأمراض الخطيرة والمستعصية تشق طريقها بثبات إلي مواطنينا، لاسيما البسطاء منهم، وهو الأمر الذي يفرض علينا ضرورة الاعتماد علي الذات في إيجاد وتصنيع أدوية مصرية الصنع لهذه الأمراض التي تهدد حياة الملايين من المصريين وتنذر بإجهاض خطط ومشاريع التنمية التي يشكل الإنسان المصري موضع القلب منها أداة وهدفا في آن. وهنا يبرز دور مراكز الأبحاث العلمية المتخصصة وفرق البحث الطبي التي تأخذ علي عاتقها هذا الأمر متحررة من الأطماع والحسابات الشخصية لبعض شركات الأدوية الكبري ووكلائها، وأن تسعي جاهدة لتحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في إيجاد أدوية مصرية فعالة تراعي جوانب السلامة والأمان مثلما تحرص علي أن يكون هذه الأدوية في متناول بسطاء المرضي المصريين. ولنأخذ علي سبيل المثال وليس الحصر مرض الإلتهاب الكبدي الوبائي الفيروسي من نوع سي، حيث يعاني منه أكثر من عشرين مليون مصري، حسبما هو معلن حتي الآن استنادا إلي أولئك الذين أجروا تحليل عينة من الدم للتعرف علي وجود الفيروس في دمهم من عدمه، وليس بخاف علي أحد تأثير هذا الفيروس اللعين علي كبد حامله وكذا علي مجمل نشاطه وصحته العامة. وحتي الآن لم يتم اكتشاف علاج فعال بوسعه القضاء التام والنهائي علي هذا المرض، حتي مراكز الأبحاث الطبية في الغرب لم تنجح حتي الأن في التغلب علي تلك المعضلة، وحتي إن نجحت في غضون سنوات قلائل حسبما تدعي بعد أن نجحت في عزل بعض خلايا الفيروس، فإن ذلك قد لا يفضي بالضرورة إلي إيجاد علاج لمشكلتنا في مصر لأن فيروس سي في مصر هو من النوع الرابع الذي يختلف بشكل كبير عن ذلك الموجود في معظم بلدان الغرب، وإذا افترضنا جدلا أن بمقدور الغرب اكتشاف علاج مماثل لنوعية فيروسنا لاحقا، فإن ذلك أيضا لن يكون كفيلا بإنهاء مأساتنا لأن اتفاقية التريبس وما أسفرت عنه من احتكار للأدوية الجديدة ومن ثم ارتفاع أسعارها سوف تجعل من فرص الحصول علي مثل هذا الدواء الجديد حلما بعيد المنال بالنسبة لملايين المصريين البسطاء من حاملي الفيروس. الأمر الذي يؤكد ضرورة وجود تحرك مصري وطني جاد من أجل إيجاد علاج مصري آمن وفي متناول الجميع يستطيع إنهاء هذا الخطر المتربص بأبناء الأمة علي اعتبار أن القضية قد تعدت الجوانب الصحية أوالتجارية وأصبحت من صميم الأمن القومي المصري. وقد تفاءلت كثيرا حينما قرأت قبل أسبوع عن نجاح فريق طبي مصري متخصص في التوصل إلي علاج مصري بوسعه القضاء نهائيا علي فيروس سي، يحقق المعادلة الصعبة المتمثلة في الأمان والفعالية والسعر المعقول، وهو ما دفعني إلي تتبع حقيقة هذا الكشف العلمي الهائل، فشرعت في الاتصال برئيس هذا الفريق وهو الدكتور جمال شوقي عبد الناصر وتحاورت معه، وتفضل الرجل بدعوتي لمؤتمر طبي بالإسكندرية حول هذا الأمر، فوجدتها فرصة رائعة للوقوف علي حقيقة هذا الإنجاز العلمي الكبير. وقد استرعي انتباهي حرص الفريق البحثي المكون من عشرين طبيبا وباحثا وكيميائيا يعكف علي العمل والبحث الدءووب منذ ما يناهز لخمسة عشر عاما، علي التأكيد علي أن العقار الجديد المكتشف لعلاج فيروس سي لم يتم الانتهاء منه بعد إذ لا يزال قيد الاعتماد والإقرار من قبل وزارة الصحة حيث الإجراءات القانونية والإدارية التي تسبق عملية الموافقة علي عرضه للاستخدام. هذا، بالرغم من أن العقار قد تم تصنيعه وتجربته بالفعل وحقق نسبة نجاح تتجاوز الثمانين بالمائة، حيث يعمل الفريق البحثي المتخصص بدأب وجدية داخل مؤسسات بحثية وطبية مرموقة ووفقا لأحدث الأساليب العلمية المتعارف عليها عالميا في مجال استخدام السينو بكتريا في تصنيع الأدوية المضادة للفيروسات، وقد ثبت من خلال التجارب التي أجريت علي عشرات المرضي تحت إشراف طبي كامل أن العقار المكتشف بمقدوره القضاء تماما علي فيروس سي داخل الخلية الكبدية بغير آثار جانبية، كما يساعد علي تقوية جهاز المناعة ويرفع مستوي نشاط وأداء وظائف الجسم المختلفة في فترات قياسية، يضاف إلي ذلك كله أن العقار الجديد سيكون في متناول المو اطن المصري البسيط بعد أن تعتمده وتقره وزارة الصحة كيما يطرح في الأسواق في غضون أشهر قلائل. إنه حقا لمجهود علمي رائع يبعث علي التفاؤل ليس لأنه يبشر بوجود علاج نهائي لمرض مستعصي بسعر زهيد، بعد اعتماده والموافقة عليه، فحسب، ولكن لأنه يؤكد أن البحث العلمي في مصر لايزال بخير وأن لدينا كوادر وكفاءات علمية نادرة تضاهي نظراءها في أعتي الدول وأكثرها تقدما، غير أنها فقط تحتاج إلي من يمد لها يد العون والمساندة والتشجيع، ويذلل كافة العقبات المالية والدعائية والإدارية التي تعترض طريقها، وذلك حتي تترسخ الدعائم العلمية والصحية لأمن بلادنا القومي ومن ثم يتسني لها العبوربسلام نحو مستقبل أفضل