بعكس ما فعل أحمد حلمي ، وعلي نفس خطي غريمه محمد سعد ، سار محمد هنيدي في فيلمه الجديد " وش إجرام " ، عندما أبي أن ينأي بنفسه عن الدخول في معترك القضايا الكبيرة عليه ، ولا ينتظر منه جمهوره أن يدلي بدلوه فيها ، وآثر أن يزج بنفسه في الحديث عن ظاهرة البطالة التي يعانيها جيل الشباب ، بل والكبار الذين داهمهم قطار الخصخصة فبات عليهم بعدما بلغوا من العمر أرذله أن يبدأوا مرة أخري رحلة البحث عن فرصة عمل جديدة!! هي " توريطة " من دون شك يقف وراءها المؤلف الشاب بلال فضل ؛ الذي أراد أن يوظف موهبة وجماهيرية ,, هنيدي ,, لتمرير رسالة بدلا من الدوران في فلك سينما " الاسكتشات " و" الإفيهات " ، التي طالما اعتمدها " المضحكون الجدد " وسيلة وحيدة لاستقطاب الجمهور ، واستدرار ضحكاتهم ، لكن التوفيق خان " فضل " في هذه المرة ؛ إذ انه لم يدرك أصول اللعبة وأن ما يستطيع أن يفعله ، ويتقبله الجمهور مع كريم عبد العزيز لا يجدي نفعا مع هنيدي ولا مع جمهوره ، فالخوف من جدية القضية لم يفارق "هنيدي" وكانت النتيجة أن قدم أداء يتأرجح بين الجد والهزل ، بل اختلط عليه الأمر فأفرط من الهزل في وقت الجد ، وكان سببا في أحايين كثيرة لأن يصرخ الجمهور متسائلا : " إذا كان ,, طه ,, يملك هذه القدرة العجيبة علي إهدار فرص العمل التي تأتيه علي طبق من الفضة فكيف نلوم الدولة أو نحملها مسئولية تركه ، ومن هم علي شاكلته من الغباء ، يرتعون في البطالة ؟ وهو المعني الذي لا أظن ، مطلقا ، أن بلال فضل كان يعنيه عندما كتب سيناريو " وش إجرام " ، بل تبدو منذ الوهلة الأولي أنه كان بصدد اقتحام قضية حيوية تكاد تدمر البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المصري ، ولم يكتف بالاقتراب من تفشي الظاهرة لدي الشباب من خريجي الجامعات أو حملة المؤهلات المتوسطة ، وإنما تجاوز هذا إلي التنديد بسياسة " الخصخصة " التي تمت دون دراسة تنبيء بخطورة تأثيرها السلبي علي المجتمع بأسره ؛ فالأب في الفيلم سعيد طرابيك أرغم علي منافسة ابنه "طه" محمد هنيدي في البحث عن فرصة عمل بعدما أعيته البطالة ، عقب طرده من الشركة التي يعمل بها لأن أحد الرأسماليين الجشعين ضم الشركة القطاع العام طبعا إلي حظيرته ، كالمئات غيره ممن نلتقيهم في حياتنا كل يوم ، ولأن المال الطفيلي في حاجة دائما لسلطة تحميه أو نفوذ يستر عورات صاحبه ، لم يجد " الرجل " صعوبة في الانضمام إلي كيان يحميه ، كلجنة السياسات مثلا ، متسلحا بالشعارات الفضفاضة التي تفرش الطريق بالزهور أما الشباب جيل المستقبل بينما يفاجأ الواحد منهم في أول محك بأن " مقلب الزبالة " هو الشيء الوحيد الذي ينتظره إذا مافكر في مطالبة هذا الرأسمالي العفن بفرصة عمل ، وهو ماتعرض له الشاب " طه " ؛ الذي يرصد الفيلم من خلاله أن الوظيفة الوحيدة التي صارت متاحة لشبابنا هي " مندوب الأمن " ، مهما كانت قيمة المؤهل الدراسي الذي يحمله ، وهنا لابد أن نتوقف عند إلحاح الظاهرة علي بلال فضل ، بدليل تناولها في " واحد من الناس " ثم " وش إجرام " ، وهي ظاهرة تستحق الرصد علي أية حال ؛ خصوصا أن اغتنام وظيفة كهذه صار يمثل حلما لأبناء هذا الجيل ، بكل مايعنيه هذا من تضاؤل الحلم !! هذه الجدية التي تطرحها القضية ، والوعي الواضح في رصد الظاهرة ، لن تجد لهما مكانا في فيلم " وش إجرام " ، بعدما حاول محمد هنيدي جر الفيلم ، والمتفرج ، إلي المناطق التي يحبها هو ، وليست تلك التي يفرضها السيناريو ، فغرق الفيلم في ثرثرة من دون طائل ، واتسمت حركاته بالمبالغة للدرجة التي جعلت منه شابا ساذجا ، كما في المشهد الذي تصور فيه أن رئيس اتحاد الملاك منحه سيارة أحدث طرازمكافأة له علي يقظته وبراعته في تأمين العمارة(!) فلا يمكن النظر إلي مواقف كهذه بوصفها " كوميديا " بل هي تضر الشخصية الدرامية ، وتنسف أية إمكانية للتعاطف معها ، كالمشهد الذي تبادلت فيه عائلتا ,,طه,, وحبيبته,, رحاب,, الردح والصفعات في فجاجة ليس لها نظير إلا في سينما " المضحكين الجدد " ؛ فالخط الفاصل بين الرغبة المشروعة في إضحاك الجمهور وقلة الحيلة التي تدفع الممثل إلي استجداء الضحك غاب وتهاوي ، ومن ثم أصبح عليك أن تقبل صاغرا وجود ,, قلاية سمك مشوي ,, بين يدي البطل في غمرة مطاردة سيارات يفترض أن تكتم أنفاس المشاهد ، وأن تتسامح مع مشهد مكرر للمذيعة غير المؤهلة لمواجهة الجمهور ، سواء في شكلها أو صوتها الذي يشبه " العرسة " بكسر العين لأن انتقاد الإعلام المصري فرض عين في كل فيلم ، وأن تتغاضي عن تحول ,, رحاب ,, إلي بيل جيتس ، في لحظة ، فتقتحم " كمبيوتر" الرأسمالي الطفيلي ، متفوقة علي القراصنة أو" الهاكرز " ، وأن تغفر لهنيدي حبه التخفي في شخصية ,, عبيط ,, أو متخلف عقليا لدخول مكان محصن ( راجع فيلم " جاءنا البيان التالي ) ، وأن تتستر ، رغما عن أنفك ، علي حيلة هروب ,, طه,, من السجن ، باتفاق مع الضابط ، ليكشف " الرجل الكبير " وعندما يتم القبض عليه يتدخل " الأخ الأكبر " لحمايته ويتحمل ,, طه ,, وزر البلاغ الكاذب وإلصاق التهم بالأبرياء !! بالطبع لم يخل فيلم " وش إجرام " من مواقف درامية لها مايبررها ، إضافة الي بعض اللمسات الكوميدية المحببة ، كمشهد الكهل الذي تعاطف مع الشاب ولم يصدق انه يبالغ فيما يقول فانتحر بدلا منه ، والبروفة التي تدرب فيها ,, طه ,, علي الوظيفة الجديدة ، ولم يفرق فيها المؤلف متعمدا بين رجل الأمن وضابط المباحث الذي ينكل بالأبرياء ، والتوظيف الجيد للمونتاج للدلالة علي مرور الزمن في مشهد " الخطوبة " و" دويتو " أغنية " راح " بين هنيدي ولبلبة التي عجز المخرج وائل إحسان عن توظيفها ، شكلا وأداء ، واتسم أسلوبها بالفجاجة والترخص وأفقدها الصوت العالي الكثير من صدقيتها ، وهي مشكلة لا أظنها كانت مقصورة علي لبلبة وحدها فالحال نفسه تكرر مع القدير سعيد طرابيك وعبد الله مشرف ولا نستثني في هذا بشري التي اجتهدت وحاولت استثمار ضحكتها مقتدية لاستدرار الإعجاب لكنها فشلت وبدت " ساذجة " مع سبق الإصرار والترصد . وهنا أشفقت كثيرا علي خالد زكي في دور الرأسمالي الطفيلي وضياء عبد الخالق في دور رئيس طاقم الأمن المكلف بحمايته ، من تلك الجدية الشديدة التي تعاملا بها مع دوريهما بينما لا شيء كان يستحق كل هذا العناء ، ومن الواضح أنهما أساءا تقدير الموقف ، وتصورا أنهما حيال فيلم سينمائي حقيقي ، ولم يتصورا انه فيلم صيفي ، أو في أغلب الأحوال مجرد " سبوبة " . وربما لو توقعا هذا لأراحا نفسيهما .. وأراحونا !!