في وقت كان العدوان الإسرائيلي علي لبنان وفلسطين يبلغ ذروته حتي طفق الجيش الإسرائيلي يمعن في إزهاق أرواح المئات من الأطفال والنساء والشيوخ علي الصعيدين الفلسطيني واللبناني، وبينما كان العالم يستنكر الفتوي التي أصدرها كبار حاخامات اليهود، والتي نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية الشهر الماضي. وتقضي بجواز قتل الإسرائيليين للمدنيين الفلسطينيين أو اللبنانيين أو ما سواهم استنادا إلي تصور لديهم مؤداه أن لا وجود في العالم لحرب يمكن التمييز فيها بين الأبرياء من المدنيين كالأطفال والنساء من جهة وبين الجيوش المحاربة من جهة أخري، لاحت في الأفق الدولي قضية الممثل والمخرج الأمريكي، ذي الأصول الأسترالية، ميل جيبسون، الذي إتهم نهاية الشهر الماضي بإطلاق تصريحات معادية للسامية إبان توقيفه من قبل شرطة كاليفورنيا في مدينة ماليبو الساحلية علي بعد 25 كلم غرب لوس انجلوس، بسبب قيادته للسيارة وهو مخمور في ساعة مبكرة، حيث صرح جيبسون، بعد أن سأل الضابط عما إذا كان يهوديا أم لا، بأن اليهود السفلة هم المسئولون عن جميع الحروب والمنازعات التي يشهدها العالم. وبالرغم من أن جيبسون قد أفاض في اعتذاره عن تلك التصريحات مؤكدا أنها صدرت منه وهو فاقد لإتزانه ووعيه، وأنه لم يقصد أبدا تجريح اليهود، الذين اعترف للمرة الأولي بالإساءة اللفظية لهم، و عرض تقديم أي قربان يرونه مناسبا وترضاه المنظمات اليهودية العالمية من أجل الصفح عنه، إلا أن النجم الهوليوودي لم ينج من المآل الذي يؤول إليه كل من تسول له نفس التجاسر علي انتقاد اليهود أو إدانة السياسات الإسرائيلية مهما بلغت تجاوزاتها.فإلي جانب الهجوم الذي قوبل به جيبسون علي خلفية تصريحاته من داخل الدوائر اليهودية داخل الولاياتالمتحدة، امتدت حملة الهجوم عليه لتشمل كل أرض يقطنها يهود، ففي إستراليا مسقط رأس ميل جيبسون، أدانت تصريحاته المناهضة لليهود جمعية استرالية يهودية، واتهمته بمعاداة للسامية، حتي أن فيك ألهاديف المسئول عن الجمعية ورئيس كتلة النواب اليهود في ولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية، أكد في حديث مع إحدي الإذاعات الاسترالية أن تصريحات ميل جيبسون حيال اليهود إنما تتسم بالعنصرية وتمعن في التحريض علي كراهية اليهود حول العالم. وظني أن خطورة أو أهمية تصريحات ميل جيبسون بشأن اليهود لا تكمن في مضمونها أوما تنطوي عليه من إشارات مهمة و رسائل جديرة بالتوقف عندها فحسب، وإنما تتجلي أيضا في توقيت إطلاقها والسياق الذي صدرت في غضونه. إذ تزامنت تلك التصريحات مع العدوان الإسرائيلي الغاشم علي الفلسطينيين واللبنانيين، وتحديدا بعد إرتكاب الطيران الحربي الإسرائيلي لمجزرة ثانية في ضاحية قانا بالجنوب اللبناني مخلفا عشرات القتلي ومئات الجرحي الذين شكل الأطفال غالبيتهم .فضلا عن أن النجم الهوليودي الكاثوليكي قد تفوه بتلك التصريحات وهو ثمل، لكنه كان قادرا علي قيادة سيارته بدقة علي طريق ساحلية ملتوية تستوجب حدا أدني من اليقظة والتركيز والتوازن العصبي، ما يشي بأن جيبسون كان يعي جيدا ويعني إلي حد كبير ما تلفظ به من إتهامات لليهود بإشعال الحروب والنزاعات في كل زمان ومكان. وأحسب أن الأمر لا يختلف كثيرا حالة ما إذا كان جيبسون ثملا بحيث لا تعدو تصريحاته أن تكون ضربا من الهذيان، فههنا يكون النجم الهوليودي معبرا بصدق عما يعتمل ويترسخ في دهاليزعقله الباطن، الأمر الذي يعتبره عالم النفس النمساوي الشهير سيجموند فرويد تفريغا للكبت الناجم عن إضطرار صاحبه لإخفاء بعض الحقائق أو الآراء التي يتبناها أو يعتقد فيها داخل عقله الباطن تجنبا للتداعيات السلبية التي قد تترتب علي المجاهرة بها، لكنها لم تلبث أن تخرج إلي العلن في حالات معينة من بينها الهذيان عند الثمالة مثلما حدث مع ميل جيبسون.ففي كلتا الحالتين، حاول جيبسون، باعتباره فنانا مثقفا صاحب رؤية وملما بما يدور حوله من أحداث عالمية علي كافة الأصعدة، أن يعبربشيء من الحذر عن ضيقه بالممارسات اللاإنسانية للدولة العبرية ولبعض اليهود حيال إخوانهم في الإنسانية. يضاف إلي ذلك أن حادثة ميل جيبسون الحالية بما تستتبعه من مواجهات بينه وبين اليهود داخل أمريكا وخارجها، قد وقعت بعد مرور زهاء عامين فقط من الأزمة الكبري التي شهدتها هوليود وتخللتها مواجهات بين جيبسون واليهود في أعقاب تبني جيبسون إنتاج وإخراج فيلمه الشهير "آلام المسيح" في العام 2004، وهو الفيلم الذي إستعرض بإستفاضة وتفصيل متعمدين الساعات الأخيرة في حياة السيد المسيح متخذا القراءة الحرفية للإنجيل مرجعية لأحداث الفيلم وحواراته، وذلك بعد أن أبت هوليوود المشاركة في صناعة فيلم يحمل اليهود بشكل مباشر وصريح مسؤولية قتل المسيح بعد الإمعان في تعذيبه والتفنن في ملاحقته. حيث لم يشفع النجاح المدوي للفيلم حول العالم وكذا إيراداته الضخمة التي قاربت 700 مليون دولار لجيبسون لدي الرأي العام اليهودي، والذي لاحق ميل جيبسون متهما إياه بمعاداة السامية والتحريض علي كراهية اليهود. ومن هنا، تكتسب حادثة جيبسون الأخيرة أهمية خاصة لأنها تسكب المزيد من الزيت علي توتر العلاقات بين جيبسون واليهود، الذين يرتأونه كاثوليكيا متطرفا، مناهضا لليهود ومعاديا للسامية لأنه بدا وكأنه يتبني إتجاها فكريا وفنيا ثابتا يناهض من خلاله ممارسات اليهود ويحرض الرأي العام العالمي ضد سياسات الدولة العبرية. ولعل جيبسون يتضرع إلي ربه هذه الأيام كيما يتجنب المصير الذي سبقه إليه الفنان الفرنسي الساخر ديو دونييه، الذي كان قدأعلن ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، وذلك بعد أن احتلت أخبار تصريحاته المعادية لسياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إريل شارون أعمدة كبريات الصحف الفرنسية، وبعد أن شاع أمرمقارنته مأساة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية بما حدث للزنوج من تهجيرواستعباد ما بين أفريقيا والعالم الجديد خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وهو الأمر الذي وضعه في مواجهة حكم بالإدانة أصدرته في حقه، للمرة الأولي، محكمة باريس بتهمة الحث علي التمييز والكراهية والعنف. وكان الفنان الفرنسي، الذي ينحدر من أصول أفريقية سوداء، قد صرح في مقابلة صحافية نشرت في باريس أوائل عام 2004، بأن إسرائيل قامت بتمويل النظام العنصري في جنوب أفريقيا ودعمت مشاريعه ومخططاته الرامية وقتئذ إلي التخلص من المواطنين السود، وأطلق دونييه عبارته الشهيرة" أن كل هؤلاء اليهود الذين انتقلوا من تجارة العبيد الي تملك المصارف ودور العرض، واليوم إلي العمل الإرهابي، هم من أنصار سياسة إرييل شارون". ولقاء ذلك، تلقي ديو دونييه حكما بدفع غرامة قدرها خمسة آلاف يورو، توجه إلي عدد من الجمعيات الفرنسية المناهضة للعنصرية وإلي اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا، فضلا عن تحميله تكاليف نشر الحكم في أربع صحف فرنسية ليكون عبرة لمن يعتبر.