هذه ليست المرة الأولى التى أكتب فيها هذا المقال، فمن كثرة الأزمات العربية، ومن كثرة استخدام تعبير "تفعيل" اتفاقية الدفاع العربى المشترك من قبل جماعة المحللين الفضائيين العرب فى كل أزمة، فقد كان ضروريا فى كل مرة أن أعيد نشر هذا المقال أو الحجج الرئيسية فيه على الأقل. ولعشرات أو حتى مئات المرات ردد كثيرون الحديث عن هذه المعاهدة على أساس أنها تطلب من كل الدول العربية أن تذهب خفافا ثقالا لنصرة هذه الدولة العربية أو تلك التى تتعرض للاعتداء من نوع أو آخر وهذه المرة فإن النداء موجه من أجل لبنان التى تجتاحها الجيوش البربرية الإسرائيلية. ومع ذلك فإن تكرار الحديث عن المعاهدة لم يدفع أحدا أبدا للنظر للمعاهدة وما جاء فيها، والأهم ما جرى لها خلال نصف القرن الماضى، وعلى الأرجح أن أحدا لم يأخذ ما يقول به بشكل جاد من الأصل، وأن المسألة من أولها إلى آخرها هى محاولة لإحراج الدول العربية المختلفة ودفعها دفعا للتضحية بمصالح دولها وشعوبها وزجها فى أتون معركة لم تستعد لها ولم تحسب حسابها ووضعها على حساب أولويات أخرى قررتها. ولأننا نتكلم كثيرا بينما نعرف قليلا فإن "معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين دول الجامعة العربية"، والتى تم توقيعها فى دور الانعقاد العادى الثانى عشر لمجلس الجامعة بتاريخ 13 أبريل 1950 وانضمت لها الدول العربية على التوالى فيما بعد، تمثل تجربة فى العمل العربى المشترك تستحق التنويه. فمن ناحية فإن الاتفاقية جاءت استنادا إلى نص المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة والتى تنص على حق الدول منفردة وجماعة على الدفاع عن نفسها ضد الاعتداء الخارجى. ومن ناحية أخرى فإن الاتفاقية استندت إلى التقاليد الخاصة بعمليات الدفاع الجماعى التى اتبعتها التحالفات الدولية المختلفة بحيث يمكن لها الانتصار وليس المقاومة أو الصمود أو التمثيل المشرف فى المواجهات العسكرية التى سوف تتعرض لها حالة ممارسة حق الدفاع الجماعى. وصحيح أن المادة الثانية من الاتفاقية تقول صراحة "تعتبر الدول المتعاقدة كل اعتداء مسلح يقع على أية دولة أو أكثر منها، أو على قواتها، اعتداء عليها جميعا، ولذلك فإنها... تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المعتدى عليها، وبأن تتخذ على الفور منفردة ومجتمعة جميع التدابير وتستخدم جميع ما لديها من وسائل بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء...". ولكن هذه المادة لا تقف معلقة فى الهواء، فقد سبقتها المادة الأولى التى تقول صراحة "تؤكد الدول المتعاقدة، حرصا منها على دوام الأمن والسلام واستقرارها، عزمها على فض جميع منازعاتها بالطرق السلمية، سواء فى علاقاتها المتبادلة فيما بينها أو فى علاقاتها مع الدول الأخرى". ومعنى ذلك أن الجهود السلمية التى كانت تقوم بها مصر وغيرها من الدول العربية وحتى السلطة الوطنية الفلسطينية كانت كلها جزءا أساسيا من تطبيق معاهدة الدفاع العربى المشترك بل إنها تشكل المادة الأولى فيها. ولحقت بالمادة الثانية الشهيرة المادة الثالثة التى تقول بأن تتشاور الدول المتعاقدة فيما بينها وهو ما لم يحدث مع لبنان أو حزب الله فيها، وكذلك مع دول عربية أخرى، فيما يخص التهديدات التى تهدد سلامة أراضيها. والحقيقة أن حزب الله لم يتشاور ليس فقط مع الدول العربية فى عملية خطف الجنديين الإسرائيليين، بل إنه لم يتشاور مع أى من السلطات اللبنانية بما فيها الوزارة التى يشارك فيها ولا البرلمان الممثل فيه ولا حتى وزارة الدفاع التى سوف يكون عليها المشاركة معه مواجهة رد الفعل الإسرائيلى المتوقع. والأهم من ذلك أن المادة الرابعة تقول بضرورة تعاون الدول المتعاقدة فيما بينها لدعم مقوماتها العسكرية وتعزيزها وتشترك "بحسب مواردها وحاجاتها، فى تهيئة وسائلها الدفاعية الخاصة والجماعية لمقاومة أى اعتداء مسلح". ومعنى ذلك أنه لا تستطيع دولة عربية، أو مجموعة عربية من المفكرين والكتاب وأصحاب الأصوات الزاعقة فى الفضائيات العربية بتطبيق اتفاقية الدفاع العربى المشترك ما لم يكن هناك استخدام للطرق السلمية، وتشاور بشأن التهديدات، وتعاون من أجل زيادة القدرات العسكرية. ولا يجوز وفق أى منطق قانونى أو سياسى أن تطالب دول عربية بالدخول فى حروب خاسرة تندفع لها، أو تستدرج إليها، نظم وجماعات وحركات عربية ثورية وراديكالية تحترف الدخول فى معارك غير متكافئة وتسعى دوما لجر بقية الأمة وراءها. ومن المدهش أن الأغلبية الساحقة من المعلقين العرب المتحدثين عن "النظام العربى" ومعاهدة الدفاع العربى المشترك لم يطلعوا لا على الاتفاقية ولا على ملحقها العسكرى وكلاهما ينصان على تشكيل لجنة عسكرية دائمة، ومجلس للدفاع المشترك، وكلاهما يعد الخطط العسكرية لمواجهة جميع الأخطار المتوقعة، ويقدم المقترحات لتنظيم قوات الدول المتعاقدة وزيادة كفاية قواتها من حيث تسليحها وتدريبها لتتمشى مع أحدث الأساليب والتطورات العسكرية. فهل سمع أحد مؤخرا عن اللجنة والمجلس وعمليات التنظيم والتدريب ورفع كفاية القوات المسلحة، وإذا كنا لم نسمع ونعرف تماما الأحوال فلماذا إذاً تصرخ قوى لا تكف عن الصراخ بيننا مطالبة بتطبيق اتفاقية يعلمون جيدا أنها لم يتم تطبيقها خلال السنوات الماضية. فهل اتضحت الأمور فيما يخص معاهدة الدفاع العربى المشترك وآن لمن يريد الحديث فيها أو غيرها أن يقول كلاما جادا؟!! [email protected]